تخطي إلى المحتوى
الكتب العظيمة ستبقى عظيمة الكتب العظيمة ستبقى عظيمة > الكتب العظيمة ستبقى عظيمة

الكتب العظيمة ستبقى عظيمة

كيف يمكن للكتب الكلاسيكية أن تغير حياتنا؟  التحقنا أنا وأخي عام 1985م بمنظومة التعليم الخاصة بالمدارس العامة المكتظة بالطلاب إلى حدود كبيرة. لكن برغم هذا الاكتظاظ أوفت وجبات الغداء المجانية في تلك المدارس بقسط كبير من حاجاتنا الغذائية وأبقتنا على قيد الحياة، وإن في كفاف لا تخطئه العين؛ فقد كنّا –مثل كثرة من المهاجرين سوانا– فقراء بلا غطاء مالي، فضلًا عن أننا ما كنّا قد حدّدنا وجهاتنا اللاحقة في الحياة؛ بسبب عدم قدرتنا على التكيف ومعرفة كيفية توجيه الأمور بدقّة وانتظام وحزم. كانت ظلالُ نشأتنا السابقة في الدومينيكان لم تزل تلقي بعبئها الثقيل علينا وتمنع عنا رؤية معالم الطريق غير المطروق في حياتنا النيويوركية الجديدة.

لم تكن حياتي كطالب مدرسة ثانوية آنذاك تبشّرُ بأية بداية ميمونة لما سأختصُّ به من مهنة مستقبلية كإداري أكاديمي وعضو قسم تدريسي في إحدى جامعات النخبة الأميركية(١) Ivy League (يقصد جامعة كولومبيا، المترجمة). لكن ما بدت رحلة منفّرة لي في بداية حياتي الدراسية تلك، أصبحت، في مرحلة ما منها، أقل تنفيرًا وتعويقًا لي، ثم استحالت بداية لشروعي في رحلة ممتعة استطعتُ فيها التأمل بهدوء وثقة في العالم الفكري والاجتماعي الذي وجدتُني فيه حينذاك. استمدّ ارتقائي الفكري غذاءه من تعليم يستأنسُ بعضُهم توصيفه بأنه تعليم يقوم على طول المعاشرة مع «الكتب العظيمة The Great Books»، وهو التعليم ذاته الذي جعلني على قدر غير يسير من الحساسية تجاه توجهات النقد الثقافي المؤثر نحو المُعتَمَد(٢) The Canon– تلك التوجهات التي تؤكّدُ أنّ أعمال هوميروس وسوفوكليس وأفلاطون ومونتين وثربانتس وغوته وهيغل ودوستويفسكي وفيرجينيا وولف… إلخ، ليست أعمالًا موجّهة لشخوصٍ أمثالي، بل هي أعمالٌ كُتِبت حصريًّا للبيض، الأغنياء، المولودين بامتيازات طبقية لم أستطع إليها سبيلًا.

الكلاسيكيات والأجيال الشابة

اعتدتُ كلّ صيف، منذ عام 2009م، أن أعرّف الحوارات الأفلاطونية بشأن سقراط لأعداد متزايدة من طلبة المدارس الثانوية الذين ينتمون لعوائل تُصنّفُ بأنها ذات الدخول الأدنى في الولايات المتحدة، والذين يطمحون لأن يكونوا أوائل من يرتادون الكليات بين عوائلهم. كانت غايتي من تلك الفعالية أن أعرّف هؤلاء الطلبة على التقاليد السياسية والأخلاقية والفلسفية الرفيعة التي يمكن لأعمال سقراط وتضحيته أن تكون مصدرًا ملهمًا لها. شهدتُ سنة بعد أخرى الكيفية التي يرتقي بها طلبتي لمستويات رفيعة من الامتحان الذاتي والمساءلة الشخصية لانتماءاتهم الأخلاقية والفلسفية، وفي كثير من الأحيان كانوا يجتهدون في إعادة توجيه دفة حياتهم بطريقة مخلصة ومستديمة وثابتة.

لم يعُد طلبتي يرون في أرسطو وهوبز ولوك وكل الشخصيات الفلسفية العظيمة التي ندرسها محض نصوص جامدة كتبها أشخاص غريبون عن البشر، بل راحوا يرونهم مفكرين يتحدثون إليهم بصوت حي حول موضوعات ذات أهمية وراهنية كبرى هم في مسيس الحاجة إليها؛ لكي يطوروا خبراتهم الشخصية. ومرة بعد أخرى بتُّ أشهد في هؤلاء الطلبة اليافعين انفتاحًا على مصادر ثمينة للارتقاء الذاتي وإضفاء معنى على الحياة بعيدًا من المحدوديات والضغوطات المالية التي لطالما حجّمت قدراتهم وأفقرت حيواتهم من قبلُ.

يمكنُ للقدرة التحريرية التي تحوزها الأعمال العظيمة المنضوية في «المعتمد» أن تضيع بسهولة وسط المتاهة النظرية التي تعجّ بها أقسام الإنسانيات الأكاديمية، وفي الوقت ذاته صارت مؤسسات التعليم العالي تُبدي قبولًا متزايدًا للتخلي عن فكرة التعليم الحر القائم على فكرة التعلم من أجل التعلّم ذاته، وصارت ترجّحُ الدراسات الخاصة بالتعليم المهني والمتخصص. لكن على الرغم من ذلك لم تزل الكلاسيكيات القديمة تمتلك القدرة على التأثير في الأجيال الشابة وجعلهم يتخذون مسارات في حياتهم يعجز عن فعلها التعليم التقني. نحنُ هنا لا نسعى للتقليل من الأهمية العملية والتطبيقية للتعليم التقني العالي والمتخصص، كل ما نبتغيه هو معاكسة النكران السائد لقدرة الأقسام الأكاديمية الخاصة بالإنسانيات في كلياتنا وجامعاتنا على حفظ استمرارية زخم وحيوية التعليم الحر وأهميته في نشأة أجيالنا الجديدة.

ماهية الكتاب العظيم

ثمة قناعةٌ واسعة الانتشار بين أوساط أساتذة الأدب الجامعيين مفادها أنْ ليس هناك شيء اسمه «كتابٌ عظيم»، ولو شئنا وصف الحالة بطريقة أفضل توصيفًا وأكثر وضوحًا فيمكن التصريح بوجود رؤية راسخة في الأقسام الأكاديمية الخاصة بالإنسانيات تفيدُ بعدم وجود أساس مكين يمكن بعونٍ منه أن يستمدّ المرء أحكامًا قابلة للتعميم فيما يخصُّ عظمة كتابٍ ما؛ لكنّ تحدي فكرة «العظمة» الكامنة في عمل أدبي أو فني (وهو التحدي ذاته الذي ينطوي على فكرة إضفاء قيم تراتبية على التعبيرات الثقافية) ليس بذلك القدر من غير المعقولية الذي قد يبدو عليه للوهلة الأولى. لو شاء أحدٌ ما الإشارة إلى صفات جمالية في عملٍ ما فسيعرفُ قبل غيره مدى المشقة الكامنة في هذا الفعل؛ إذ إن محاولات بشرية حثيثة منذ القدم فشلت في تقديم معايير موضوعية يمكن أن تكون نبراسًا هاديًا لنا في تشكيل شواهدنا على «عظمة» أشياء محددة في أعمال أدبية أو فنية. إضافة لذلك فإن الأحكام الجمالية يمكن أن تنحلّ بسهولة من أحكام صلبة لتنتهي في خاتمة الأمر إلى أن تكون مدار تفضيلات شخصية ومسألة تقييمات مشبعة بالفردانية والشخصانية.

لكننا، ومن غير التقليل من شأن استبصارات النظرية النقدية المعاصرة، نستطيعُ احتواء القوة الباعثة على شلل الأدب في هذه النظرية عبر تجنب أي جهد منظّم لتعريف الكتاب (الأدبي) العظيم –أو ما يسمّى بالعمل الكلاسيكي- بالإشارة إلى أية ماهية تعريفية سواء كانت جمالية أو أيديولوجية أو تأريخية. نستطيعُ في المقابل، وببساطة تامة، عمل مسحٍ شامل لكل النصوص التي استعصت على مفاعيل الزمن ووصلت إلينا في سجلات مكتوبة متخطية بضعة آلاف السنوات المعروفة، ولنلحظْ في هذا الشأن أنّ أعمالًا بذاتها وليست سواها هي التي برهنت قدرتها على إضاءة حيوات كثيرين من شتى صنوف البشر في ظروف تأريخية متعددة ومختلفة.

استطاعت هذه الأعمال بطريقة ما تخطّي ظروف نشأتها الأولى، وعلى الرغم من أنها تحكي عن عصرها فإنّ لها القدرة على تجاوز حدود ذلك العصر والامتداد عبر الزمن نحو عصور لاحقة من ضمنها عصرنا الحالي. أنا، على سبيل المثال، لستُ في حاجة لفهم الكثير -بل حتى أقل القليل– من الصراعات السياسية التي سادت مدينة فلورنسا الإيطالية، في القرن الرابع عشر، (وهي صراعات نشهدُ أمثلة لها في «الكوميديا الإلهية» لدانتي) لكي أجعل ذلك العمل، «الكوميديا الإلهية»، مصدرًا ملهمًا لتأملاتي العميقة بشأن الإنسانية. الأعمال (الأدبية) العظيمة إنما صارت عظيمة لانطوائها على مقدرة بينة –وإن تكن مراوغة بعض الشيء– تضيء تجربتنا الإنسانية المشتركة.

مكامن الدهشة والغموض

ليس المرء في حاجة لأن يفترض ماهية ميتافيزيقية للطبيعة البشرية لأجل إدراك أن كل البشر يتشاركون خصائص أساسية متماثلة: ابتداءً من التنظيم البيولوجي المتخصص حتى المعمارية الجينية المتخصصة… ومن أشكال محددة من الإدراك حتى حالة العيش الوجودية التي ندرك فيها جميعًا حقيقة الموت الذي يمثل الخاتمة الطبيعية لوجودنا البشري. يمكن الحفاظ على استبصارات النظرية النقدية، وفي الوقت ذاته يمكن عدم استبعاد الأساس الذي تقوم عليه حججنا بشأن كيفية عمل الفن والأدب في الكشف عن مكامن الدهشة والغموض في تجربتنا الإنسانية المشتركة. من المثير للملاحظة والدراسة أننا يمكن أن نستمرئ متعة إلى أقصى الحدود المتصورة من الحقيقة الخارقة للطبيعة التي مفادها أن الأعمال العظيمة في الأدب والفن يمكن أن تمسك بالخواص المشتركة في تجربتنا الإنسانية عبر وسائط وأساليب أبعد ما تكون عن الخصيصة التشاركية، وأهمها ثلاثة: الفردانية، والذاتية، والخصوصية.

 

عندما شرعتُ في تدريس مادة (كتب عظيمة) لطلبة الدراسات الإنسانية الأولية بجامعة كولومبيا (وهو المنهج الأساسي ذاته الذي درستُهُ أنا قبل ثلاثين سنة سبقت رجوعي أستاذًا في كولومبيا. يضمُّ المنهج الأساسي الأعمال الكلاسيكية في «المعتمد» الأدبي والفلسفي بحسب التقاليد الغربية السائدة) فإنني في الغالب أسألُ الطلبة المسجّلين في المنهج الدراسي لهذه المادة السؤال الآتي: عندما تبدأ الشيخوخة والموت بالزحف إليك، ما الذي يجب فعله؟ أعلمني هؤلاء الطلبة أن هذا السؤال ظل يرنّ في عقولهم لسنوات طويلة بعد تخرجهم وانغماسهم في مشاغل مهنية متنوعة المشارب. صحيحٌ أن هؤلاء الشباب يأتون للجامعة مدفوعين بدافع تحسين فرص توظيفهم وحيازة مهارات يمكن لهم معها الحصول على ميزات تنافسية في سوق محكومة بمتطلبات تجارية ومالية محتدمة، لكنهم يدخلون الجامعة في غمرة معضلات وجودية تجتاحهم بطريقة عنيفة، وهم يتطلعون لا إلى الحصول على وظائف مرموقة ماليًّا فحسب، بل إلى إعادة تكييف حيواتهم أيضًا وجعلها أكثر تناغمًا مع الحقائق الصارخة للوجود البشري بكلّ تعقيداته وتناقضاته وإشكالياته.

المصدر: 
مجلة الفيصل