منذ تأسيسها، احتلّت إسرائيل مناطق متزايدة من فلسطين، وفي ذلك الوقت طوَّرت مجموعة من الأدوات والتقنيات للحفاظ على الاحتلال: "جدران ذكية"، وآليات التعرّف على الوجوه، وبيانات بيومترية مصمّمة للسيطرة على الفلسطينيين وتقسيمهم. حالياً تصدّر تكنولوجيات مراقبة مثل برنامج التجسس "بيغاسوس" Pegasus، الذي تصنعه مجموعة NSO الإسرائيلية، إلى أنحاء العالم؛ حتى تمكّن الحكومات من التحكّم في الهواتف المحمولة ورسائل البريد الإلكتروني والصور. هذا غيض من فيض يفصّله كتاب " المختبر الفلسطيني: كيف تصدّر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم" للكاتب والمحلل السياسي الأسترالي أنتوني لوينشتاين، (منشورات فيرسو، 2023)، والذي يركزّ على استخدام الدولة الصهيونية لوجودها في فلسطين لتطوير سوق دولية في تكنولوجيا المراقبة.
أوروبا، أستراليا، أميركا، والهند
قامت إسرائيل باختبار هذه التقنيات الجديدة على أسراها الفلسطينيين البالغ عددهم خمسة ملايين. في ظلّ هذا الوضع، عجز الفلسطينيون عن التأثير في دور إسرائيل في التحكّم بمقدّراتهم، فهم يُحكمون نظرياً من قبل السلطة الفلسطينية الفاسدة، لكن السلطة الحقيقية تقع على عاتق المحتلين الإسرائيليين. كانت إسرائيل مصدّراً للأسلحة إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى انهيارها في العام 1994. واليوم، تصدّر إسرائيل معدّات المراقبة والأسلحة إلى مجموعة كبيرة من البلدان، والعديد منها يتمتّع بسجلات مراوغة ومشينة في مجال حقوق الإنسان. كذلك أرسلت تكنولوجيا المراقبة إلى الهند التي تصف نفسها بأنها أكبر ديموقراطية في العالم، لكنها في الواقع ديكتاتورية عرقية تفضّل الهيمنة الهندوسية وتتطلّع إلى دور إسرائيل في فلسطين كنموذج لدور الهند في كشمير وأماكن أخرى.
وزوّدت إسرائيل الاتحاد الأوروبي بطائرات بلا طيار لمكافحة تحرّكات اللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يؤدّي على نحو متزايد إلى حالات غرق (مع تضاؤل محاولات الإنقاذ). وفي الجانب الآخر من الشاطئ، نُصبت أبراج المراقبة الإسرائيلية على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك من أجل توفير "الأمن" (في الأساس لمكافحة الهجرة غير المنظمّة)، ولم يتغيّر هذا في عهد رئاسة بايدن. هذه الأبراج، أيضاً، اختُبرت للمرة الأولى في فلسطين.
في سياق متصل، استُخدمت تقنية اختراق الهواتف الإسرائيلية Celebrite بشكل متزايد من قبل الشرطة الأسترالية والسلطات الحكومية لمراقبة المواطنين العاديين. والآن أصبح تطبيع المراقبة شبه مكتمل، بدعم من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في دول مثل أستراليا والولايات المتحدة، ولا تتناوله وسائل الإعلام إلا قليلاً. وكانت الحركات النازية واليمينية المتطرفة في أوروبا -المعادية تقليدياً لليهود- معجبة بالقومية العرقية الإسرائيلية كما تطبَّق في فلسطين.
"صهيوني ناعم"
الكاتب أنتوني لوينشتاين، صحافي استقصائي من أستراليا. ولِد في عائلة يهودية علمانية، ونشأ "صهيونياً ناعماً" مؤيداً لدولة إسرائيل كوطنٍ آمن لليهود في ظلّ تصاعد معاداة السامية. ويصف في مقدمته، التغيير الذي حدث في تفكيره عندما وصل للمرة الأولى إلى إسرائيل ورأى بنفسه حقيقة نظام الفصل العنصري. حينها صُدم، ليس فقط من النظام القانوني الذي يميّز ضد الفلسطينيين، لكن من المراقبة اليومية الروتينية وضبط الأمن في المجتمعات الفلسطينية. ويصف التفاعل الإسرائيلي مع الحياة الفلسطينية والسيطرة عليها، بـ"إضفاء الطابع الأمني".
وبحسب لوينشتاين، لا بدّ من تغيير النظرة الغربية لإسرائيل. فخلال نشأته في ملبورن، في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان يُنظر إلى إسرائيل على أنها تستحق دعماً غير مشروط: "كان يُنظر إلى إسرائيل والصهيونية واليهودية على أنها الشيء نفسه تقريباً. لكن هناك الآن تدقيقاً متزايداً بين اليهود في ما يحدث في فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي". ومن وجهة نظره، فإن وجود دولة يهودية يشكّل، بحكم التعريف، تمييزاً ضد غير اليهود. ومع ذلك، استمرت التغطية الإعلامية في تبسيط الوضع باعتباره معركة ذات اتجاهين بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وإذ يلاحظ كيف تعتمد إسرائيل على تسويق احتلالها العسكري، يتعمّق لوينشتاين في الدبلوماسية التي سمحت للمؤسسة الاستعمارية الاستيطانية أن تحتل مركز الصدارة بتكنولوجيتها العسكرية ومراقبتها. تاريخياً، دعمت إسرائيل الديكتاتوريات في أنحاء العالم، وما زالت تحظى بالإشادة باعتبارها مثالاً يستحق التقليد. أحد الأمثلة على هذا الأخير جاء من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يتمنى أن يرى أوكرانيا على غرار إسرائيل. وفي العام 2022، وصفت وزيرة الداخلية آنذاك، أييليت شاكيد، إسرائيل، بأن لديها "فرصاً غير مسبوقة" من حيث الاستفادة من العنف. وفي ظلّ هذا المسار التاريخي، فلا عجب.
منذ الثلاثينات
ويشير لوينشتاين إلى أنه حتى قبل تأسيس إسرائيل، كانت الحركة الصهيونية قد أنشأت بالفعل تجارة أسلحة يعود تاريخها إلى الثلاثينيات، خلال سنوات الانتداب البريطاني من عصبة الأمم على فلسطين. وبحلول الخمسينيات من القرن الماضي، كانت إسرائيل تصدّر الأسلحة، وتم تأسيس شركة تصنيع الأسلحة "إلبيت" في العام 1966. وكانت هذه وسيلة مهمة لتحقيق النفوذ الدولي لإسرائيل: أدركت إسرائيل تماماً أن الأسلحة وبرامج التجسّس كانت ذات أهمية أساسية لدرجة أن غالبية الحكومات كانت على استعداد لإسكات أي انتقاد للسلوك الإسرائيلي كجزء ضمني من الصفقة.
تبدو قراءة كتاب أنتوني لوينشتاين ملائمة في أي لحظة، لكن التطهير العرقي الذي يتكشّف في غزة (والضفة الغربية المحتلة) والاستجابة المتواطئة من جانب المجتمع الدولي، إضافة إلى العدوان الأخير على لبنان بتفجير أجهزة اللاسلكي، تجعل هذا الكتاب ضرورة، خصوصاً أن هناك تاريخاً قوياً من الروابط الدبلوماسية والعسكرية وراء العرض الحالي لدعم الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل مؤخراً. وكما يشير المؤلف، فإن "إسرائيل تحظى بالإعجاب باعتبارها دولة تقف بمفردها ولا تخجل من استخدام القوة المفرطة للحفاظ عليها". ففيما يخرج العالم إلى الشارع للمطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الرعب، تستغل قوات الاحتلال وقطاع الصناعات الدفاعية والتكنولوجية الإسرائيلي الهجمات على غزة كفرصة ممتازة لتسويق بضائعها.
وعلى عكس مصنّعي الأسلحة الآخرين حول العالم، فإن صناعة القتل الإسرائيلية لا تخجل من عرض لقطات لأسلحتها أثناء العمل: قتل الفلسطينيين، ونسف المباني، وتدمير الأحياء. وهذا يسمح بوصف الأسلحة بأنها "تم اختبارها في المعركة"، وأي دليل أفضل تحتاج إليه من لقطات عسكرية للأسلحة أثناء قيامها بالعمل القذر؟!