تخطي إلى المحتوى
المشهد الروائي الأردني: جعجعة بلا طحن المشهد الروائي الأردني: جعجعة بلا طحن > المشهد الروائي الأردني: جعجعة بلا طحن

المشهد الروائي الأردني: جعجعة بلا طحن

أصيبت الأجواء الثقافية في الأردن مؤخرا بما يسمى كاريزما الرواية، فما من أحد يستطيع (فكّ الخط) مثلما يقولون، إلا ويظن نفسه روائيا. فهو إن لم يكن في مستوى ماركيز مثلا فلعله في مستوى نجيب محفوظ أو حنا مينه أو عبد الرحمن منيف. ويكاد لا يمضي أسبوع دون أن تتصدر الأخبار الثقافية في الصحف أنباء عن صدور روايات جديدة، وحفلات توقيع لروايات أجدّ، أو مضى على صدورها وقت ليس بالقصير طالما أن المؤلف، وجمهوره الخاص جدا، مقتنعون بأنها رواية قيمة، ولا تتراجع قيمتها مهما طال الزمن، وتعاقبت الأيام والسنون. ولا يكاد يمضي أسبوع، أو شهر، دون محاضرة عن المشهد الروائي، أو مؤتمر يعقد بمبادرة هذه الدائرة، أو تلك، مما يطلق عليه اسم مؤسسة ثقافية.
والواقع أن كثرة الإلحاح على الرواية في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحف من ورقيةٍ، وإلكترونية، وشيوع ذلك في مؤتمرات تتكرر واحدا تلوَ الآخر، وندوات تعقد بمناسبة أو دون مناسبة، أدى، ويؤدي لانصراف المهتمين بالأدب عن الشعر، وعن القصة القصيرة، فتراجع الاهتمام بهما مثلما تراجع الاهتمام بالمسرح. علاوة على أنّ هذا اللّغطَ، وتوافرهُ، أساءا للرواية من حيث هي فنّ، له أساسياته، وله قواعده التي لا يجوز أن يحيد عنها الكاتب أيا كان، إلا إذا قدّم بديلا يُغني الفنَّ، ولا يُفسِدُه. وقد انطبق على الرواية في هذا الجوّ الموبوء مبدأ «العملة الرديئة تطرُدُ العملة الجيّدة» وهو من قوانين الأسواق التي يعرفها المصرفيون حقَّ المعرفة. والرواية من حيثُ هي فنٌ أدبيٌّ تأخر ظهورها في الأردن قليلا. فإذا كانت قد ظهرت في مصر عام 1913 برواية «زينب» لهيكل، فإنها في الأردن لم تظهر إلا في عام 1968 بمحاولات سالم النحاس وأمين شنار وتيسير سبول.
وهي المحاولات الرائدة، وليست «أين حماة الفضيلة» لتيسير ظبيان، أو بيت وراء الحدود لعيسى الناعوري، أو فتاة من دير ياسين لعبد الحليم عباس، أو مغامرات تائبة لحسني فريز. فهذه المحاولاتُ يصعُبُ على من كانت لديهِ دراية بفن الرواية أنْ يعُدَّها روايات، وإن لم تخلُ من حسن النية لدى كتابها الذين لم يعرفوا هذا الفن معرفة جيدة. وإذا كان فؤاد القسوس، ومؤنس الرزاز، وجمال ناجي، وطاهر العدوان، وغالب هلسا، وليلى الأطرش، وجمال أبو حمْدان، وزياد قاسم، قد غذوا هذا الاتجاه بما كتبوه من روايات مقبولة على أقلّ تقدير، إنْ لم نقل جيدة، فإن بعض الكتاب أساءوا لهذا الفن من حيث أرادوا الإحسان. وقد زاد الطين بلةً ما ُنشر في السنوات الأخيرة من كتابات، وما عُقد من ندواتٍ، وأُلقي من محاضراتٍ تغالي في المجاملات التي تفتقر للحد الأدنى من الذوق، فضلا عن المنهجية المجردة من الميل والهوى. فقد قرأنا مثلا لمن يقول عن رواية «ميرا» لقاسم توفيق: إنها من الروايات المتميزة. مع أن فيها الكثير من الخلل في التشخيص، والسرد، والعلاقات بين المرويات.
وذلك مما يعجب له القارئ. فالكاتب يختلق شخصية يسميها نابليون عمان، يدعي أنها شخصية كانت معروفة، فهو يحركها كيف يشاء، ويجعل ميرا ابنة الثقافة الأوروبية تقع في عشق هذا الشخص على نتانتِهِ، وما يتَّصف به من حماقة، وقذارة. زد على هذا أن رَعْد، وهو شابٌ أردني يفترض أنه غيور(حِمِش) كأيّ شرقي تخونه زوجته مرارا، وتكرارا، مع فتى مغرور، رغم وجود من يراقبونها في بيتها، ومع ذلك يؤدي دور الزوج المخدوع فهو «آخر من يعلم».
ومن الروايات التي يُحتفى بها في مؤتمرات كهذه، رواية «حيوات سحيقة» تقول: إن أحد أبطالها (صالح) وهو دليل سياحي لفريق تلفزيوني بريطاني، يختفي عند الوصول إلى خرائب البترا، ولا يفطنون لاختفائه يوما كاملا، ولا يتذكرونه إلا عندما رأوا طائرات الهيلوكوبتر تبحث عنه بين الأطلال والخرائب، مع أنَّ بحوزته هاتفا محمولا، وكلّ المشاركين في الفريق يحملون هواتف. فهذا الحدث الذي يصفه بعضهم بالمركزي حدثٌ مفتعلٌ، وغيرُ مقبولٍ، وفقا لقانون الاحتمال والضرورة في الحبكة، لذا كلّ ما بني عليه يعد خطأ غير مقبول. تُضافُ إلى دُرَر الرواية الجديدة رواية تستحق التنويه، والإشادة، لدى بعض المتخصّصين بالمجاملات، المفتقرين لأدنى قدْر من الذوق، والإحساس الفني.
ففي «جسر بضفة وحيدة « لهيا صالح، أسرة فلسطينية من ثلاثة أشخاص تقيم في الموصل منذ عهد ليس بالقصير. وحين اقترب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 غادروها رغبة في النجاة. إلا أنّ المؤلفة والساردة، تنسيان أن القدوم إلى عمان يحتاج لمجريات لا تشيران إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولما كانت الساردة غادرت الموصل وهي ابنة 12 سنة فإنها تحتاج لزمن طويل لتدخل الجامعة، وتتخرج بعد 4 سنوات على الأقل، وتتزوج، وتنجب ابنين يصبحان في سنّ الدراسة.

فهذا يحتاج على الأقل إلى 17 سنة أي أن الساردة تبلغ الثلاثين كذلك الصبيّ الذي أحبته في الموصل (عمّار) يبلغ مثل هذا. فكيف ظهر لها فجأة في مطعم في عمان يقدّم وجبات من السمك المشوي على الطريقة العراقية، وتعرفه، كأنْ لم تفارقه إلا بالأمس، مع أنه أصبح رجلا فارعا، بشارب أنيق، وذقن مشذَّبة. ثم ما الصدفة العجيبة التي تجعل الشابّ يأتي من الموصل ليتناول العشاء في المطعم نفسه الذي دُعيت إليه تلك الليلة مع زوجها (صلاح) من باب المجاملة، وتغيير الجوّ. وهذه الكاتبة لا تمتلك الحد الأدنى من الخيال الروائي، بدليل أنها في صفحة 31 تشكو ضيقَ منزلهما في الموْصل، وبعد هذا بصفحةٍ واحدة، تذكر أنّ منزلهما فيه غرفٌ فارغة كثيرة، لهذا خصّصت لها أمها إحداها لتستخدمها (ستوديو) لتحميض الصوَر.

وفي نهاية الرواية تقيم الساردة، التي غادرت الموصل قبل الاحتلال الأمريكي بأيام، معرضا للصور في جناحين، أحدهما لمعالم المدينة قبل الغزو، والثاني لما بعده، أي لصوَرٍ تُظهر آثار القصف، والتدمير. مع أنّ الرواية تقوم على فكرة مغادرة المدينة قبل بداية الغزو، فكيف تسنَّى لها أن تصوّر الدمار والخراب وهي التي لم تعُدْ للموصل، ولو على سبيل الزيارة.
وفي روايةٍ أخرى تحظى بالكثير الجمّ من التقريظ، حتى ذهب الأمر ببعضهم لتفضيلها على رواية جورج أورويل الموسومة بعنوان 1984 التي نشرها عام 1949. والرواية التي نشير إليها بعنوان 1989 وهو عنوان يُذكر القارئ، مثلما أراد المؤلف عصام الموسى، بأحداثٍ وقعَت في جنوب الأردن. فهو يروي فيها على لسان السارد البطل ما وقع في تلك السنة من حوادث عنف أدَّت لتدخُّل القوات الأمنية، والعسكرية، فكان من نتائج الاشتبكات أنْ قُتل السارد. لكنَّ المؤلف يترك في أحد فصولها المطوّلة للشخوص أن يتسامروا في ثرثرةٍ عن فساد الأنظمة العربية. فيتناول بعضُهم من النماذج الفاسدة ليلى الطرابلسي- زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي- فقد تبيّن مثلما يقولون أنها كانت كوافيرة، وتحولت إلى سيدة تونس الأولى، فمنحت أقرباءَها الكثير من الامتيازات؛ من عقاراتٍ، وأراضٍ، ووكالاتٍ، وأرْصدةٍ في البنوك، وما شابه ذلك وشاكله، وبُعيد ثورة الياسمين تداولت الصحُفُ، ووكالاتُ الأنباء، والقنوات الفضائية، نماذج كثيرة من هذا الفساد الذي يفوقُ الوصف.
ولم يتنبّه المؤلف، ولا من تغزلوا بها، إلى حقيقةٍ هي أنّ هذه الأحداثَ وقعت في نهاية عام 2010 وبداية 2011، فكيف يتسنّى لمجموعة من الأشخاص أنْ يتحدثوا عن وقائع لم تَجْر، وكأنها جرَتْ قبل 1989. ومع ذلك نجد بين المتحذلقين من يعدها قمة الرواية العربية. والمتحذلقون الذين أشادوا بها لا يخلون من أحد أمرين؛ إما أنهم لم يقرؤا الرواية، أو قرؤوها ولا يعرفون أنّ بن علي أطيح به سنة 2011 لا قبل عام 1989.
ويَعُد بعضُهم فوز الرواية بجائزةٍ ما دليلا على الجودة، وأنّ مؤلفها روائي، وهذا ينمُّ عن أن هؤلاء الكتاب لا يفطنون لحقيقة تغيبُ عن الأذهان، وهي أنَّ الجوائز وُجدت في عالمنا العربي لهدف واحد، وهو تغليب الأحكام المضللة على الأحكام الأخرى. وقد حظيت رواية دفاتر الوراق لجلال برجس بالكثير من التقريظ والثناء. ولم يبقَ أحدٌ ممن يجيدون الغَزَل لم يكتب عنها، ولم يقل فيها ما لم يقله ابن زيدون في ولادة. مع أن ضعفها بيِّن وواضح، إذ لا يعقل، بأي منطق، أن يقوم بطل الرواية بالذهاب إلى العقبة على بعد 450 كم من عمان لينتحر، ويقيم في فندق 5 نجوم، ويحتسي زجاجة كاملة من الويسكي، مع أنه لم يذق الخمر في حياته قط. ثم يغادر الفندق مع الفجر بهدف الانتحار ليجد على الكورنيش حسناء (ناردا) يلتقط لها صورة بهاتفه الخليوي. ثم تبدأ المفاجأة الأخرى، فإذا بها قدمتْ هي الأخرى للانتحار، ومن أين؟ من الحيّ الذي جاء منه (الجوفة) بمعنى أنهما جيران. ثم المفاجأة الأخرى التي تلي ذلك أنها زوجة أبيه السرية. ووقوعُ هذه المفاجآت معا شيء ينفي عن هذه المحكيات أي طابع فني. هذا علاوة على ما في الرواية من (اللتّ والعَجْن) فلو أعطيت لكاتب موهوب لاختصر ما فيها، على علّاته، في مئة صفحة بدلا من 366 صفحة.
وهذه أمثلة قليلةٌ من كثيرة تدل على تفشي الرداءة في ما تنشرهُ دور النشر من رواياتٍ، وهي ظاهرة تستحقُّ أن يُعقد مؤتمر لمناقشتها، والوقوف عند الإشكالات الفنية المتكررة لتلافيها، مع ضرورة أن يلم الناشرون ببعض أساسيات الرواية طالما أنهم لا يعرضون ما ينشرونه على محرّر أدبي، استبعادا لتكرار الكوارث التي تتمثل، لا في نشر الأعمال الفجَّة حسب، بلْ في منْحها الجوائز، وإقامةِ الحفلات، لإشهارها، أو التشهير بمؤلفيها، وعقد الندوات، والمؤتمرات التي نسمع فيها كالعادة جَعْجَعة بلا طحْن.

المصدر: 
القدس العربي