نظرا لما تزخر به سلطنة عُمان من إرث حضاري في العلوم والفنون والآداب والتأريخ والتراث الثقافي المادي وغير المادي، فإن المكتبات عامة والأهلية خاصة تُمثِّل أحد أهم المكوِّنات الثقافية الأصيلة لهذا الإرث الحضاري الواعد، الأمر الذي جعل له حضوره في رؤية عُمان 2040 وعبر محور الإنسان والمجتمع، بما تجسده الاستراتيجية الثقافية للسلطنة 2021 ـ 2040 من دلالات ومعانٍ عميقة، في انطلاقتها من الهُوية والقِيَم والمواطنة والثوابت العُمانية الأصيلة التي ستضمن للمكتبة العُمانية استدامة هذا التأثير، ويجعل من المكتبات الأهلية خصوصا استراحة علمية وفكرية تعزز من الروح العالية للإنسان العُماني في الاستفادة من الفرص المتاحة له، وتؤسس له مساحة أوسع للابتكار والاجتهاد والتطوير والتحسين في عملية نقل الإرث الثقافي والفكري إلى أرض الواقع.
وفي ظل اقتصاد المعرفة وتعزيز حضور الثقافة كأهم الاقتصادات العالمية الواعد، لم يعد الاهتمام بالمكتبات الأهلية ترفا فكريا بقدر ما هو استحقاق وطني أصيل يعبِّر عن الهُوية العُمانية القائمة على تأصيل الفكر المتوازن والثقافة الرصينة والمنهج العلمي والتفكير الابتكاري وترسيخ المهارات الإبداعية، جسور اتصال وتواصل تجسِّد عن قرب أصالة الفكر العُماني، وتنوع محتوى الثقافة العُمانية وتعدد مكوِّناتها وعمق تفاصيلها، الأمر الذي يصنع لها حضورا وأهمية في عالم الاقتصاد الواسع، والتحوُّلات الكونية التي باتت تصنع من الثقافة والفكر الأصيل بوابة الدخول إلى المستقبل، وإنتاج مواطن متفاعل مع واقعه، مستوعب لأحداثه عالمه، محافظ على قِيَمه وشخصيته وهُويته، آخذا بمبدأ التغيير النابع من استشعار حجم المسؤولية التي يلقيها عليه هذا الرصيد الثقافي والفكري الزاخر بالأمجاد والأحداث، والحامل لنهضة الأمن والسلام والتعايش والوئام، والمعبِّر عن قِيَم الإرادة والإنجاز والتعاون والتكافل، والمرتكز على أساليب البحث والاكتشاف والتحليل والتحقيق لتبقى عُمان فاعلة مؤثرة في محيطها الكوني حاضرة بثوابتها ومصداقيتها.
ولأنَّ ما تحويه المكتبات العامة والأهلية من كنوز العلم والمعرفة والفن والفكر على شكل مراجع وكتب ومخطوطات وتراجم السير وغيرها فإن وضعها ضمن قائمة الاهتمام مع الأندية الرياضية والمراكز الثقافية وراكز الشباب، محطة تحوُّل في حوكمة هذا المجال وإبراز ملامح العصرنة والتكامل والتناغم والتفاعل الذي يصنع لحضور الشباب والنشء في المراكز الثقافية والأندية امتدادا لهذا التواصل بين المكتبة والنادي والمركز الثقافي، قارئا وباحثا، موظفا كل الأدوات البحثية والعلمية في سبيل اكتشاف الثراء الفكري الزاخر بالمعرفة الأصيلة والمعلومة الموضوعية ليبرزها على أرض الواقع ويروِّجها في إطار علمي في عالم التقنية الواسع، حيث يعوَّل عليها تغذية العقول وبناء الهمم وصناعة القوة واستراحة فكرية للشباب وطلبة التعليم العالي والجامعات في تخصص المكتبات والمعلومات والوثائق للدراسة والبحث، وإخراج ما تضمه من مخطوطات للأجيال القادمة.
هذا الأمر يأخذ في الاعتبار جملة الموجهات والممكِّنات والفرص التي اتخذتها الحكومة في سبيل تعزيز البُعد الثقافي، سواء منها ما يتعلق بمعرض مسقط للكتاب أو كذلك المسابقات التنافسية المتعلق بالمكتبات العامة والأهلية والندوات والمواسم والمهرجانات الثقافية التي تستهدف إعادة الاهتمام بالمكتبات الأهلية وتطويرها، وإيجاد مساحة أكبر لتعزيز حضورها في المشهد الثقافي الوطني بما يضمن بقاء المساحة التواصلية معها، واستدامتها في فكر الشباب وذائقته الثقافية والحضارية، أو من خلال تسليط الضوء على المكتبات الأهلية في المؤتمرات والندوات واللقاءات من حيث استشعار دور المكتبات الأهلية على مختلف المراحل التي مرَّ بها المشهد الثقافي العُماني، والبُعد الاجتماعي والمعرفي والتعليمي الذي أسهمت فيه، والأبعاد الاقتصادية لها من خلال تعزيز السياحة الثقافية، وصولا إلى التحول الرقمي ورقمنة المكتبات والتسويق الإلكتروني لها ورفع محتوى المخطوطات على المنصَّات الرقمية وفق ضوابط وشروط وتشجيع الباحثين والمهتمين من داخل السلطنة وخارجها على تحقيق المخطوطات العلمية، الأمر الذي يسهل من فرص الاستفادة منها، على أن مبادرة وزارة الثقافة والرياضة والشباب مشكورة بتنفيذ ملتقى المكتبات الأهلية العامة الذي يتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للمكتبات ويستهدف القائمين على المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية بالسلطنة والمهتمين والمختصين بمجال المكتبات فرصة لإعادة قراءة واقع المكتبات الأهلية وآلية تطويرها والوقوف على الفرص ومقوِّمات النجاح والتحدِّيات التي تقف في وجه تفعيل دورها، خصوصا في ظل جهود الوزارة نحو تسجيل هذه المكتبات بما يمكن أن ينتج عنه من إيجاد قاعدة بيانات وطنية متكاملة بهذه المكتبات وتسهيل حضورها في مختلف المناشط والفعاليات ذات الصلة، سوف يسهم في تعزيز الشراكة مع المجتمع بمؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية والاستفادة من الخبرات والتجارب الأهلية والوطنية والإقليمية والدولية في التعاطي مع المكتبات الأهلية، وبناء النماذج الوطنية التي يمكن أن تستفيد منها المكتبات الأخرى الناشئة أو المسجلة حديثا في الإسهام الفاعل في إعادة الإنتاج الثقافي، وبالتالي ما يتوقع أن تسهم فيه مسابقة الإجادة للمكتبات والمراكز الثقافية الأهلية التي تبنتها وزارة الثقافة والرياضة والشباب من فرص إذكاء روح المنافسة، وإبراز جوانب التميز في هذه المكتبات، ومنحها فرصا أكبر لتقييم ذاتها وتطوير برامجها، والنهوض بدورها على مختلف المستويات.
ومع التقدير لهذه المبادرات والجهود مجتمعة، إلا أنها خطوات غير كافية لإعادة القوة لهذه المكتبات وضمان حضورها في ظل شيوع المعرفة والمنصَّات المفتوحة وقواعد البيانات العالمية، بما يعني الحاجة إلى إعادة المكتبات الأهلية إلى حاضرة الثقافة والعلم والمعرفة والبحث، وهو ما يتطلب المزيد من العمل الوطني والجهد المؤسسي نحو الانتقال بهذه المكتبات إلى دور المؤثر والفاعل في محيطها الاجتماعي، ورسم معالم التحوُّل في أدائها، واحتواء الخبرات والتجارب، واستقطاب الكفاءات الوطنية، ودور محوري لمؤسسات التعليم العالي والجامعات ومراكز البحث في دراسة محتوياتها والوقوف على تفاصيلها، ذلك أن نجاح عمليات التقييم والمنافسة واستشعار أهمية الدور القادم لهذه المكتبات ودورها كمركز اشعاع ثقافي وفكري لتتخذ موقعا لها في التنمية الثقافية والفكرية في المحافظات، مرهون أيضا بحجم ما تمنح له من استحقاقات في ظل عمليات التأطير والتقنين والتوأمة والترويج والتسويق والدعم المالي ضمن منظومة وطنية واضحة المعالم محددة في خريطة المكتبات الأهلية، مستفيدة مما يشهده الإنتاج الثقافي العالمي من في عالم المكتبات الأهلية الواسع من تحوُّلات تتجه به إلى أن يكون أداة تطوير للشعوب ونهضتها وتقدمها وثروة اقتصادية واستثمارية منافسة، في إطار إدارة كفؤة تنافسية واعدة لهذه المكتبات بما تتطلبه عمليات الحوكمة والتقييم والشراكة والتفعيل من موازنات مالية، وتوفير فضاءات علمية تتناسب مع عمل هذه المكتبات، والتفكير في تبنِّي مبادرات وخيارات أخرى كأن تحتوي الجامعات والمؤسسات التعليمية المختارة في المحافظات على نماذج مصغرة معبِّرة عن هذه المكتبات ويطلق عليها اسم المكتبة، الأمر الذي يُمثِّل فرصة نوعية تضمن تشجيع الباحثين والطلبة وشرائح المجتمع الأخرى المهتمين على رفع مستوى التفاعل معها.
عليه، تبقى عملية استشعار هذا البُعد في المكتبات الأهلية وغيرها من المؤسسات الثقافية، مرهونة بكفاءة التشريعات والقوانين التي تحفظها وتحافظ على كيانها، الضامنة لاستدامتها، والمحققة لأهدافها، وبساطة الإجراءات وعمليات التسجيل لها، وتحقيق مراجعات جادة لكل القوانين والتشريعات التي قد تقلل من مستوى الاستفادة من هذه المكتبات، سواء كان بطباعة ونشر المخطوطات، أو بإعادة إنتاجها بطريقة تضمن لها صفة الاستدامة والعالمية والتكيف مع معطيات الواقع الثقافي وأولوياته، وأن يستفاد من إعادة هيكلة اختصاصات وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وعملية الدمج والتكامل بين الثقافة والشباب محطة مهمة لتعزيز البناء الفكري وإعادة هندسة المعرفة الرصينة، عبر تعظيم القيمة المضافة للمكوِّنات الثقافية الداخلة، سواء ما يتعلق منها بالمكتبات الأهلية والعامة أو بمراكز الشباب أو بالأندية الرياضية، الأمر الذي سيسهم في رسم حضور أقوى لهذه المكتبات، وإدخال الشباب في تشكيل مسارها، واستيعاب محتوياتها وإعادة الترويج والتسويق لها بطريقة أكثر احترافية ومهنية تقترب من مجريات الواقع وتستجيب للخصوصية الوطنية وتعبِّر عن الهُوية العُمانية التي لا تنفصل عن إرادة الشباب وهمته وعزيمته، فإن المعوَّل على هذه الجهود اليوم الكثير من الآمال والطموحات التي ستمنح المكتبات الأهلية فرصا أكبر في إعادة إنتاج الواقع الثقافي.
وعود على بدء فقد قدّر لنا في أول أيام عيد الفطر السعيد من هذا العام الهجري 1443هـ أن نزور على عجالة مكتبة علي بن صالح الشلّي من أعيان منطقة الحصن في ولاية دماء والطائيين بمحافظة شمال الشرقية، مكتبة واعدة بما حوته من مخطوطات وأصناف الكتب والتراجم والمراجع، وإن طموح القائمين على المكتبة كغيرهم في أن يكون لها حضورها في المشهد الثقافي الداخلي والخارجي، فإن ما تُمثِّله زيارة هذه المكتبات الأهلية من استراحة فكرية تأملية، تستشعر في النفس عظمة ما قدمه سلف الأمة العُمانية وعلمائها وفقهائها وشعرائها من إنجاز إنساني، سيظل شاهد إثبات ومصدر فخر للأجيال القادمة؛ يجدّد في أبناء عُمان العزم على مواصلة مشوار العطاء، وإعادة نشر هذا الإرث الثقافي المكتوب، وتبقى الآمال معقودة على ما يمكن أن تسفر عنه الإجراءات الثابتة والمبادرات الجادة، وآليات العمل الرصينة التي ستعمل عليها الاستراتيجية الثقافية 2021- 2040 في إعادة قراءة المكتبات الأهلية وإنتاج دورها المتجدد في المشهد الثقافي العُماني القادم، وما يمكن أن تقدمه حزم التحفيز والتطوير، والفرص والممكنات، والتقييمات والمراجعات، وعمليات التسجيل وموثوقية الإجراءات وأريحيتها، التي ستعيد لها موقعها في الخريطة الثقافية للسلطنة في العهد السعيد لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم.