تخطي إلى المحتوى
المُريد في ضيافة البُعْد الضائع المُريد في ضيافة البُعْد الضائع > المُريد في ضيافة البُعْد الضائع

المُريد في ضيافة البُعْد الضائع

كثيرون تغنّوا بعبارة النفّري: "كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، دون أن يفلحوا في تفكيك بُنْيتها. فما معنى أن تضيق العبارة ما أن تهيمن الرؤية؟

الواقع أن النفّري لا يكتفي بحرف هذه الوصيّة في شذرته الثريّة، ولكنه يُضيف مباشرةً: "العبارة سِترٌ فكيف ما نُدِبت إليه؟".

إنه الاحتفاء بالرؤية، على حساب بؤس العبارة، الذي عبّر عنه شيخ طريقةٍ آخر هو علي الروذباري عندما تغنّى: "علْمُنا هذا إشارة، فإن تحوّل عبارةً خَفِيَ". فالرهان، في ملحمة التجلّي، دوماً على الإشارة، لأن التجلّي إذا كان شَرَك الحقيقة، فإن الاحتكام للعبارة هو اعترافٌ صريح باغتراب الحقيقة.

فالعبارة لا تهرع لنجدتنا كي تتكفّل بترجمة ما تجود به الرؤية، بسبب طبيعتها كسِتْر لما يمكن أن تُنتدَب إليه. وهو ما يعني صواب الوصيّة القائلة بأن اللغة لم تُخلق لتعبّر عن أفكارنا، ولكنها خُلقت لإخفاء أفكارنا. فإذا كانت العبارة تنهل من ينابيع الحسّ، فإن الرؤية إنّما تستعير ذخيرتها من بحور الحدس، مادمنا قد آمنّا بهويّة العبارة كحرف وُجد ليُميت، في مقابل ماهيّة الرؤية كروحٍ منذورة لأن تُحيي. ولذا فاتّساع الرؤية، شهادة وفاة في حقّ العبارة، في حقّ الحرف.

ولكن.. هل أصاب النفّري عندما استخدم في المعادلة كلمة "رؤية"، بدل كلمة "رؤيا"؟

فالرؤية، كما نعلم، غنيمة الحسّ. الرؤية فاكهة منتجة بحرف عدسة سحرية أُوتيت موهبة رصد الظاهرة، واستجلاء كل ما حقق لنفسه حضوراً في مملكة الطبيعة. أمّا المبدأ الجدير بأن يتولّى أمر ما استخفى، فهو من صلاحيّات أعجوبة أخرى أطلق عليها دهاة اللغة اسما مهيباً هو: الرؤيا، ربّما لانتمائه إلى مَلَكة الإلهام، أو حتى لصلته الحميمة بملكوت الوحي، في بُعده الأكثر جلالاً وكمالاً، أي: النّبويّ!

فنحن لن ننسى تصنيف ابن خلدون للنبوّة، حيث يحتل الأنبياء منزلتها الأولى، ثم الرئيّون المنزلة الثانية، ثم الشعراء وما شاكلهم منزلة تالية.. إلخ.

وهو ما يعني أن النبوّة منازل تحدّد مدى قوّة الإلهام المستنزل، حسب المكوس المستنزفة كمقابل، عملاً بحكمة الناموس الذي قضى بأن تخضع القيمة لحجم القربان المسفوح في سبيل الغنيمة. ومن الطبيعي أن تكتم سلطة الرؤية، في حدودٍ قصوى، أنفاس العبارة التي لم تُنتدب لتكون ترجماناً لغنيمة روحية، أي رؤيوية، ولكنها وُجدت لتُدلي ببيانٍ ذي هويّة دنيوية، أي حسيّة.

من هنا نستطيع أن نستبدل كلمة "الرؤية" في وصيّة النفّري بكلمة "الرؤيا"، لأن الرؤيا وحدها الترجمان المنتدب لقول الكلمة التي جاد بها الحدس، وليس الحسّ؛ ولكن الورطة أننا فقدنا، في المغامرة، الوسيط الوحيد المخوّل بتولّي إخبارنا عن حقيقة الوصيّة وهو: العبارة.

فما معنى القبول بوفاة العبارة؟

القبول بوفاة العبارة يعني الاعتراف بحضور الحقيقة!

وجود الحقيقة رهين التضحية بالعبارة، لأن الافتتان باستخدام اللغة هو ما يلهينا عن استدراج الحقيقة باستجلاء الرؤيا، أو بالأصحّ، استنطاق الرؤيا. فاللغة، في شأن أمرٍ جللٍ كالحقيقة، دوماً عقبة. دوماً شطحة إغواء، تضلّلنا بقدر ما نتوهم أنها تدلّلنا: تُدلّلنا لتَدُلّنا.

فاللغة هي التنّين الشره الذي يلتهم الحقيقة في مغامرتنا الوجودية، لا لشيء إلاّ لأننا استسلمنا للعبارة، بدل أن ننتصر على ضعفنا ونتعلّم بيان الإشارة!

لنستميت في احتراف اللغو زهدا في التضحية، بعد أن استمرأنا أن نحيا حرفاً، لا روحاً، ففضّلنا أن نحيا شهداء قيد الحياة، بدل أن نكون أحياء في عداد الأموات، لأن الكفّ عن استخدام اللسان هو شهادة خروج من واقع الوجود، ولكنه بحضور الحقيقة، ذلك الخلاص الحقيق بأن يلقّننا درس الوصيّة الطاوية: "مَن عرَفَ الحقيقة في الصباح، في المساء يستطيع أن يموت". وعندما يُقبل الإلهام، ليستقيم في الوحي، من الطبيعي أن تتّسع مساحة الرؤية، لتتحوّل رؤيا، فلا تملك العبارة إلاّ أن تضيق، وتحتضر، حتى تلفظ أنفاس النزع الأخير، لأن المريد قد اجتاز في معراجه البرزخ، وحلّ ضيفاً على ملكوت البُعد المفقود.

فمن الطبيعي أن تضيق العبارة عندما تتسع الرؤيا (لا الرؤية)، لأن العبارة برهان وجود، أما الرؤيا فشهادة خلود.

المصدر: 
سكاي نيوز عربي