يعرف هواة السينما فيلم «اثنا عشر رجلا غاضبا» Twelve Angry Men (1957) الذي يعد أشهر فيلم في سينما المحاكمات، والذي ركز على سير مناقشات أعضاء هيئة المحلفين للتوصل إلى قرار حكم لتحديد مصير المتهم. وقد اقتبست قصة الفيلم بأشكال متعددة في السينما والتلفزيون والمسرح. وكان الفيلم أصلا مأخوذا من مسرحية معروفة للكاتب الأمريكي ريجينالد روز Reginald Rose الذي صرح في الإعلام الأمريكي، بأن الأحداث مأخوذة مما شهده أثناء خدمته عضوا في هيئة محلفين في إحدى المحاكمات في مدينة نيويورك الأمريكية، وأضاف ذلك إلى ترسيخ الفيلم في مخيلة المشاهد، ولكن لم يحاول أحد أن يتأكد من صحة ادعاء المؤلف، حتى قام مؤخرا أحد المؤرخين بفحص قائمة أسماء أعضاء هيئات المحلفين في محاكمات نيويورك، حيث إنها تنشر دائما. وكانت المفاجأة أنه لم يستطع العثور على اسم المؤلف، أي أن ما قاله المؤلف لم يكن سوى كذبة هدفها ترويج المسرحية والفيلم، وكانت هذه الكذبة فعالة. ويدعم هذا ما قاله الخبراء عن أن تفاصيل المسرحية عديمة العلاقة بالواقع، مهما بدت مثيرة للاهتمام.
يعدّ ربط قصة العمل الأدبي، أو السينمائي، بحادثة أو ظاهرة واقعية، أو هدف نبيل أفضل طريقة لدفع المشاهد إلى مشاهدة الفيلم، وتصديق ما يشاهده مهما كان بعد القصة عن الواقع. ويعطي هذا العامل شعورا قويا لدى المشاهد بأنه لا يشاهد فيلما، بل حادثة حقيقية ويجعله يظن انه قد أصبح مطلعا على بواطن الأمور وأسرار الدولة والمجتمع. ويساعد في هذا كون العقل غير قادر على التمييز بين الواقع والخيال.
ولهذا السبب يدعي الكثير من الأدباء وصانعي الأفلام أن أعمالهم مبنية على أحداث حقيقية، أو على الأقل مستلهمة منها، على الرغم من الزيف الفاضح لهذا الادعاء، ومن أجل المال والشهرة لتذهب الحقيقة إلى الجحيم، والأمثلة كثيرة في عالمي الأدب والسينما وبأنماط مختلفة.
في عالم الأدب
تدور أغلب أعمال الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي عن الرجل الشجاع الذي يدخل في مواجهات خطيرة خارج بلده، ويقود الآخرين ثم يحصل على الفتاة الجميلة. ولذلك اختلق الكاتب الشهير قصصا كثيرة عن شجاعته في عدة بلدان، لإعطاء الانطباع للقارئ، بأنه يقرأ عن شخصية حقيقية، حتى إن الكاتب اختلق قصة عن مغامرة له في الحرب العالمية الثانية مشابهة لروايته الشهيرة «لمن يقرع الجرس». ولم يخجل الكاتب الشهير في ذكر قصص خيالية تشمل كتابا شهيرين آخرين، ومنها أنه كان يقضي الوقت في حانات باريس مع الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، حيث كان رفيقه الأيرلندي يغضب الموجودين وعندما يشعر بأن معركة باللكمات وشيكة كان يطلب من همنغواي مواجهة غريمه. وقد أثارت هذه القصة حفيظة الخبراء في تاريخ الكاتب الأيرلندي، حيث أكدوا عدم صحتها. وعندما كتب قصة حياته أكد المؤرخون أن كل تفاصيلها كانت خيالية، على الرغم من كون الشخصيات حقيقية. ولكن اكتشاف حقيقة مزاعم العظيم همنغواي لم تكن كافية لثنيه عن عزمه، لأنه كان منغمسا في رغبته لإثبات رجولته وغرامياته، لإقناع القارئ، وربما نفسه أيضا، بأن أبطال رواياته ليسوا في الحقيقة سوى نماذج لشخصية حقيقية تسمى أرنست همنغواي، ما يعزز رواج رواياته، وفي الوقت نفسه إرضاء لعقدة نقص في شخصية الكاتب الشهير. أما غرامياته، فكانت مبالغا فيها جدا، ومنها ادعاؤه بأنه كان مخطوبا لممثلة سينمائية لم يلتق بها أبدا، ووصفته زوجته الرابعة بأنه «شخص زائف وجبان وتافه».
ولم يكن الكاتب البريطاني دويل، الوحيد في استغلال اختفاء أغاثا كريستي، إذ أقحمت إحدى كاتبات الروايات البوليسية نفسها في الأمر، دون أن تكتشف شيئا. وانتهى ذلك الاختفاء عندما وجدها صحافي في أحد الفنادق، ولكن لماذا اختفت أغاثا كريستي أصلا؟ كان تعليل ذلك أصابتها بالكآبة، أو فقدان للذاكرة، لأن موظفي وزبائن الفندق أكدوا أن تصرفاتها كانت طبيعية جدا طوال الوقت وكانت تتحدث مع الجميع بشكل ودي واضح، وتقرأ أخبار اختفائها في الصحف، كما قامت بالتسوق. والتعليل الوحيد الذي يبقى ممكنا والذي ذكرته الشرطة البريطانية حينها، انها افتعلت كل هذا من أجل الشهرة. ومن المؤكد أنها نجحت في ذلك بشكل منقطع النظير، حيث تحولت من كاتبة معروفة بعض الشيء إلى أشهر كاتبة في العالم، إذ لم تكن الحملة الإعلامية العالمية حول اختفائها أفضل دعاية لها، بل إنها كانت مجانية. ولم يعلل أحد كيف وجدها ذلك الصحافي في الفندق إلا إذا كانت قد اتصلت به بنفسها.
في عالم السينما
لا يعد فيلم «العراب» أشهر فيلم عن العصابات المنظمة في الولايات المتحدة فحسب، بل أحد أشهر الأفلام في تاريخ السينما العالمية، إن لم يكن أشهرها. وزعمت حملات الدعاية الصحافية أن منتجي الفيلم اتفقوا مع المافيا حول التفاصيل لجعلها أكثر ودية تجاهها، أي المافيا، وأن تفاصيل القصة مأخوذة من تجارب المؤلف مع المافيا، وأن مندوبي المافيا حضروا موقع التصوير للتأكد من كون الفيلم كما يريدون. وعزز الإعلام ذلك، كون أحد الممثلين الثانويين كان عضوا في المافيا وشقيق ممثل آخر كذلك، وأن الممثل آل باتشينو، زار أحد كبار أعضاء المافيا. وصدق المشاهدون كل هذه الأكاذيب واقتنعوا بأن ما يشاهدونه في الفيلم كان مقتبسا من الواقع. ولكن الحقيقة مختلفة تماما، فلم تكن للمؤلف أي تجربة مع المافيا، ولم توجد أي علاقة بين المافيا وإنتاج الفيلم. أما تفاصيل الرواية والفيلم، فقد أكد الخبراء وزعماء المافيا السابقون أنها لا تشابه الحقيقة بأي شكل كان. ولهذا السبب حصل خلاف بين الممثل أَيب فيغودا، الذي مثل دور «تيسيو» في فيلم «العراب»، والمخرج فرنسيس فورد كوبولا، لأن المخرج أصر على أن يؤدي الممثل الدور وكأنه دور لأحد حكام روما القديمة، لأن الرواية في الحقيقة تصور زعماء العصابات وكأنهم زعماء روما القديمة. ولكن الحقيقة غير مهمة، إذ اختلقت الصحافة علاقة زائفة للفيلم بالواقع، وانطلت الخدعة على الجميع.
لنتناول فيلما شهيرا آخر، ألا وهو فيلم «فارغو» Fargo (1996) الذي نال شهرة كبيرة في أوساط الجمهور الغربي، حيث ادعى منتجو الفيلم أن أحداثه حقيقية، ما أثار احتجاج ممثله الرئيسي وليام أج ميسي، الذي قال للمنتج «لا تستطيع قول ذلك»، فأجابه المنتج «بل أستطيع»، وظن الجميع أن الخيال الذي شاهدوه في الفيلم كان من الواقع.
ستستمر الخدع الدعائية في صناعة السينما، ولا توجد طريقة لإصلاح الموقف، ولذلك ستستمر صناعة السينما في خداع المشاهد مهما كلف الأمر.