تخطي إلى المحتوى
النار في أحشاء الاقتصاد الإسرائيلي النار في أحشاء الاقتصاد الإسرائيلي > النار في أحشاء الاقتصاد الإسرائيلي

النار في أحشاء الاقتصاد الإسرائيلي

سيكون من المبالغ فيه أن يفترض المرء أنّ الحرب الدائرة اليوم، ضمن نطاقها الحالي، قادرة على توجيه ضربة قاضية وحاسمة لاقتصاد يتجاوز حجمه الـ 522 مليار دولار أميركي، كحال الاقتصاد الإسرائيلي. ومع ذلك، سيكون مجافياً للحقيقة أن يقلل المرء أيضًا من شأن تداعيات الحرب الاقتصاديّة، على مركز القرار الإسرائيلي وخياراته، حتّى في خضم المعارك التي تجري، وعلى هامش احتمالات توسّع المواجهة لتطال جبهات أخرى.

ففي النتيجة، تبقى المصالح والحسابات الاقتصاديّة محددًا أساسيًا لأولويّات النخب السياسيّة المحليّة في الداخل، وهو ما يفترض أن تترجمه عاجلًا أم آجلًا خيارات الإدارة السياسيّة واندفاعها. فكيف الحال إذا كنّا نتحدّث هنا عن حزب الليكود، الأب الحاضن للسياسات النيوليبراليّة الاقتصاديّة في إسرائيل، التي خطبت تاريخيًا ود رؤوس الأموال والمستثمرين.

وفي واقع الأمر، لا يمكن تكريس نتيجة ثابتة ومتوقّعة على الاقتصاد الإسرائيلي، جرّاء أي حرب بالمطلق. فحرب الـ 1967، كانت بالنسبة لإسرائيل نهاية الركود الذي ضربها منذ العام 1964، لتشهد بعدها نموًا وتحولًا كبيرًا في اقتصادها، في حين أنّ حرب الـ 1973 أنتجت مرحلة طويلة من الأزمات الاقتصاديّة. بمعنى آخر، كان لكلّ حربٍ إسرائيليّة تداعياتها وظروفها، التي جاءت ضمن سياق اجتماعي وسياسي معيّن، وهو ما يفسّر اختلاف النتائج الاقتصاديّة لهذه الحروب في كل حقبة زمنيّة، من دون أن يكون هناك قاعدة وحيدة للتنبّؤ بهذه النتائج مسبقًا.

مخاطر وجوديّة: الاقتصاد القلق والمجتمع المنقسم
لفهم السياق الذي جاءت من ضمنه الحرب الراهنة، لا بد من العودة إلى حالة الاقتصاد الإسرائيلي قبيل اندلاع تلك الحرب، وإلى نوعيّة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي شهدته إسرائيل في تلك المرحلة. فالانقسام حول خطّة الإصلاح القضائي، وخطوات حكومة نتنياهو بشكل عام، كان يعكس تحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة قاسيّة، بمعزل عن تداعيات الحرب التي جاءت لاحقًا. وهذه التحوّلات، كان من شأنها أن تُنهي "المعجزة" التي حققتها إسرائيل منذ التسعينات، على مستوى الثورة التكنولوجيّة الذكيّة والصناعات المرتبطة بها.

فمنذ التسعينات، تمكّنت إسرائيل من التحوّل إلى نقطة استقطاب للشركات الناشئة، وخصوصًا في قطاع التكنولوجيا، الذي بات يساهم وحده مؤخرًا في خُمس الناتج المحلّي الإجمالي. وفي العقود الثلاثة الماضية، كان هذا الواقع يتغذّى من مجموعة من المعطيات التي أعطت الدفع لذلك القطاع، ومنها انتقال الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة إلى سياسات ليبراليّة أكثر تحرّرًا، مقارنة بالسياسات المتبعة في مرحلة ما قبل التسعينات، وتقلّص نسبة الإيرادات الموجهة إلى التسلّح والأمن، مقارنة بالعقود السابقة، في مقابل الانتقال إلى الانفاق على البنية التحتيّة ذات المردود الاقتصادي.

أمّا التطوّر الأهم، فكان استفادة المجتمع الإسرائيلي من نزوح يهود الاتحاد السوفياتي بعد تفككه في مرحلة التسعينات، الذين انتمى أغلبهم إلى فئة أصحاب الشهادات الجامعيّة والمهنيّة والتقنيّة المتقدمة، ما مثّل رأس المال البشري المطلوب لنهضة القطاعات التكنولوجيّة في المراحل اللاحقة. وخلال العقود الممتدة منذ التسعينات، استفادت إسرائيل من تدفق رؤوس الأموال اليهوديّة في الخارج، بعدما ارتفعت مستويات الثقة بقدرتها على البقاء، في ظل الهدوء الذي شهدته حدود إسرائيل مع مصر والأردن وسوريا، ثم لبنان بعد العام 2006.

إلا أنّ الأمور بدأت تأخذ منحى مختلفًا في السنوات الأخيرة. فتصاعد شعبيّة اليمين المتطرّف تدريجيًا، ومن ثم تتويج هذا المسار بتشكيل الحكومة الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل، كان يثير قلق الفئة التي قامت على أكتافها "الثورة التكنولوجيّة" خلال السنوات السابقة. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أنّ قطاع التكنولوجيا، المسؤول عن 20% من الناتج المحلّي، كان يتغذّى من قوّة عاملة لا تشكّل أكثر من 8% من القوّة العاملة الإجماليّة الإسرائيليّة. وهذه الفئة بالتحديد، كانت أكثر تمسّكًا بالطابع الليبرالي التقليدي للسياسة والاقتصاد في إسرائيل، في مواجهة الطابع المحافظ واليميني المنغلق الذي اتجه نحوه المشهد السياسي في إسرائيل مؤخرًا.

ثم جاء الانقسام السياسي حول مشروع الإصلاح القضائي، الذي عكس في لحظة واحدة تراكمات سنوات طويلة من الانقسام المجتمعي حول هويّة إسرائيل ومستقبلها ودورها وعلاقتها بجيرانها. وفي تلك اللحظة بالتحديد، تقاطع نفور النخب الاقتصاديّة من التوجّهات اليمينيّة المتطرّفة مع قلقها إزاء مآل الانقسام المجتمعي المحلّي، وأثره على تلاحم مكوّنات الدولة والمجتمع، وربما استمراريّة هذه الدولة في ظل العدميّة التي تحكم أداء اليمين الإسرائيلي ومقاربته للنزاع مع الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

وهكذا، وقبيل اندلاع أحداث غزّة، كانت 70% من الشركات الناشئة قد وضعت بالفعل خططًا للانتقال إلى خارج إسرائيل، ومعظم هذه الشركات كانت من فئة الشركات التكنولوجيّة التي تملك مرونة الانتقال الجغرافي والعمل من أي بقعة في العالم. وقبل هذه الأحداث أيضًا، كانت واحدة من كل 20 شركة إسرائيليّة قد بدأت بالفعل بنقل أصولها الماليّة إلى خارج إسرائيل، تحسّبًا لأي تطوّرات اقتصاديّة غير ملائمة في إسرائيل. وفي شهر شباط الماضي وحده، كانت صناديق الاستثمار المشتركة داخل إسرائيل قد سحبت بالفعل 8.1 مليار شيكل من إسرائيل، لتوظّف تلك الأموال في صناديق أخرى في الخارج. وهنا، تحوّل انفتاح الاقتصاد الإسرائيلي على الخارج إلى عامل ضعف، من خلال سهولة انتقال الرساميل باتجاه الغرب.

المشكلة الأخرى هنا، كانت تنامي القوّة الديموغرافيّة والسياسيّة لفئة اليمين المتطرّف، وتحديدًا مجتمع الحريديم، الذي باتوا يمثّلون اليوم 13% من القوّة الديموغرافية في إسرائيل، وسط توقّعات بارتفاع نسبتهم إلى 20% بحلول العام 2050. وهذه الفئة بالذات، التي تتسم بمعدلات خصوبة مرتفعة جدًا، أصبحت تدريجيًا عبئًا على الاقتصاد الإسرائيلي، بالنظر إلى ضعف إنتاجيّتها واتجاهها إلى العلوم الدينيّة واعتمادها على المساعدات الحكوميّة، وهو ما تحوّل إلى قوّة دفع مضادّة لتلك التي قدّمتها هجرة المتعلّمين من دول الاتحاد السوفياتي بعد تفككه.

حرب غزّة في أحشاء الاقتصاد الإسرائيلي
مشكلة إسرائيل في هذه الحرب، هو أنّ رحاها تدور في أحشاء المجتمع الإسرائيلي، ما قلب المعادلة التي تمكنت خلالها إسرائيل من تحييد حروبها عن اقتصادها الداخلي، خلال العقود الماضية. فالمنطقة التي دخلتها حماس منذ أسبوعين، أي غلاف غزّة، هي المسؤولة عن تزويد الاقتصاد الإسرائيلي بنحو ثلاث أرباع المحاصيل الزراعيّة التي يستهلكها، وهذه المنطقة باتت اليوم منطقة عمليّات عسكريّة مقفلة لا يمكن دخولها. وحتّى بعد انتهاء الحرب الراهنة، من غير الواضح مدى قدرة الإسرائيليين على إقناع أي مستثمر على العودة للعمل في بيئة مضطربة كهذه، وخصوصًا إذا لم تُفضِ الحرب إلى تفكيك تنظيم حماس داخل قطاع غزّة، أو إذا لم تضمن المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة إجراءات يمكن أن تحول دون تكرار ما حصل في عمليّة طوفان الأقصى الأخيرة.

مشكلة الاقتصاد الإسرائيلي الأخرى، هو أنّ الجيش استدعى –للمرّة الأولى منذ حرب عام 1973- نحو 360 ألف مقيم من جنود الاحتياط، وهو ما يمثّل أكبر استدعاء في تاريخ الدولة منذ خمسة عقود. واستقطاب هذا العدد من الشباب الإسرائيلي، من الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة، يعني تفريغ القطاعات الاقتصاديّة من جزء كبير وأساسي من القوّة العاملة، وخصوصًا القطاع التكنولوجي الذي يعتمد على عنصر الشباب بشكل أساسي. ومرّة أخرى، فقدت إسرائيل إحدى العناصر التي تمكنت من خلالها من توسيع هذا القطاع واستقطاب الاستثمارات إليه، أي عنصر البيئة الآمنة والمستقرّة للعمل.

مشكلة إسرائيل الأخرى، هي تداعيات الحرب على خططها بالنسبة لقطاع الطاقة المحلّي، الذي يعاني اليوم من وقف الأعمال في حقول الغاز الإسرائيليّة، ومن وقف ضخ الغاز الإسرائيلي إلى مصر لتسييله وشحنه إلى أوروبا. ومرّة جديدة، وحتّى بعد انتهاء الأعمال القتاليّة الراهنة، من الأكيد أنّ ما يجري حاليًا سيترك تداعيات كبيرة على ثقة شركات الطاقة الدوليّة بالعمل داخل إسرائيل، خصوصًا بعدما طالت الأضرار مرفأ مدينة عسقلان، الذي يتم استعمالها كمرفأ خدمة للأنشطة النفطيّة المحليّة. وهذه الأضرار على المدى البعيد، ستترك أثرها على قدرة إسرائيل على التحوّل إلى مركز أساسي على خارطة سلاسل توريد الطاقة، كما كانت تطمح حكومة نتنياهو قبل الحرب.

ربما تفسّر كل هذه التطوّرات ما جرى مؤخرًا من وضع التصنيف الإئتماني لإسرائيل قيد المراجعة السلبيّة، مع احتمال خفض التصنيف نفسه. كما تفسّر الضغوط التي تتعرّض لها بورصة تل أبيب، وقيمة الشيكل الإسرائيلي، بالرغم من ضخ السيولة الذي يقوم به بنك إسرائيل، للسيطرة على هذه الضغوط. ومع أي اتساع في رقعة الحرب الدائرة، من المتوقّع أن تتسع رقعة هذه التداعيات، بما فيها تلك التي ستطال الاقتصاد الإسرائيلي على المدى الطويل.

 

لكل هذه الأسباب، قد لا تكون المتغيّرات الاقتصاديّة عاملًا حاسمًا في كسر إسرائيل خلال فترة قصيرة جدًا، كما يظن البعض، لكن من الأكيد أن هذه المتغيّرات، بما فيها التداعيات السلبيّة على قطاعي الزراعة والتكنولوجيا، ستترك أثرها على صانع القرار الإسرائيلي، وعلى حماسته على إطالة أمد الحرب كما يُشاع اليوم. أمّا الأهم، فهو أنّ هذه الحرب ستعمّق جميع عوامل القلق التي كانت تعصف بالمجتمع الإسرائيلي قبل اندلاع الأحداث في غزّة، ومنها تلك التي تتصل بجاذبيّتها للاستثمار الأجنبي والشركات الناشئة.

المصدر: 
جريدة " المدن"