يتم الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة سنويا، والذي يصادف الخميس الثالث من شهر نوفمبر، حيث تُظهر منظمة اليونسكو القيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري في كل ثقافة وفي كل فرد. فلماذا الاحتفاء بالفلسفة؟ وما المقصود بالفلسفة أو علم الفلسفة؟ وهل هي علم أصلا؟ كيف انتشرت وتطورت وما الغاية من العلم الفلسفي؟ وهل اهتم العرب والمسلمون بالفلسفة وهل أعطوها حقها؟
تعد الفلسفة اختصاصا مشوقا، كما أنها ممارسة يوميّة من شأنها أن تحدث تحوّلا في المجتمعات. وتحث الفلسفة على إقامة حوار الثقافات إذ تجعلنا نكتشف تنوع التيارات الفكرية في العالم. وتساعد الفلسفة على بناء مجتمعات قائمة على مزيد من التسامح والاحترام من خلال الحث على إعمال الفكر ومناقشة الآراء بعقلانية. ومن وجهة نظر اليونسكو، تعدّ الفلسفة كذلك وسيلةً لتحرير القدرات الإبداعية الكامنة لدى البشرية من خلال إبراز أفكار جديدة. وتُنشئ الفلسفة الظروف الفكرية المؤاتية لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة وإحلال السلام.
يونسكو التي تمثل فلسفة
ويمثل اليوم العالمي للفلسفة عملية جماعية للتفكير الحر والمنطقي والمستنير في التحديات الكبرى المرتبطة بعصرنا هذا ويُشجَّع جميع شركاء اليونسكو (أي الحكومات الوطنية والمؤسسات والمنظمات العامة التابعة لها، بما في ذلك اللجان الوطنية لليونسكو، والمنظمات غير الحكومية، والرابطات، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، وشبكات برنامج توأمة الجامعات، والكراسي الجامعية لليونسكو، والمدارس المنتسبة وأندية اليونسكو المعنية، وما إلى ذلك) على تنظيم أنشطة متنوعة تتعلق بالموضوع العام لليوم العالمي للفلسفة، مثل الحوارات الفلسفية والنقاشات والمؤتمرات وحلقات العمل والفعاليات الثقافية والعروض المختلفة، وذلك بمشاركة فلاسفة وعلماء من جميع التخصصات المتصلة بالعلوم الطبيعية والاجتماعية، ومربين ومعلمين وطلبة وصحفيين وغيرهم من ممثلي وسائل الإعلام، والجمهور العام. تقول السيدة أودري أزولاي، المديرة العامة لمنظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة إن “اليونسكو هي في حد ذاﺗﻬا منظمة تضطلع بمشروع فلسفي يقوم على فلسفة حقوق الإنسان التي انتهجها إيمانويل كانطأو برناردين دي سان بيير. ويمكن أن يقال من هذا المنطلق إن اليونسكو، التي تتفق مهامها مع الطابع العالمي للفلسفة، تمثل فلسفة”. وتدعو أزولاي إلى ممارسة التساؤلات النابعة من الاندهاش بالعالم وبالبيئة المحيطة وإلى أن التصدي لأوجه التعصّب الفكري والأحكام المسبقة، واكتشاف أن الأفراد أينما كانوا في العالم ينتمون جميعاً إلى فئة بني البشر.
مسيرة مميزة للفكر الإنساني
يتحدث الكاتب السوداني د.فراج الشيخ الفزاري عن اليوم العالمي للفلسفة ويرى أن الفلسفة تستحق الاحتفاء بها كل يوم لأنها مفتاح الفكر والمعرفة، وجديرة بالتكريم فقد بدأت مسيرتها التنويرية الطويلة منذ الآباء الأوائل للفلسفة اليونانية أم الفلسفات التأملية والطبيعية والعقلية وما وراء المنظور. وتاريخ الفلسفة مرتبط بتاريخ الإنسان ما قبل سقراط، حيث وضعت أسس الفلسفة النظرية…ثم السوفسطائيين، حيث يمتاز الفكر بمناهجه الجدلية وأصول الأخلاق. ثم جاء أفلاطون وأرسطو وبعدهما العصر الوسيطـ، حيث سادت الفلسفة الاسلامية التي مهدت بقصد أو دون قصد للفلسفة الحديثة المبكرة، لتبدأ بعد ذلك مظاهر الفلسفة المعاصرة، حيث كان لكل فيلسوف اضافته المتميزة في مسيرة الفكر الانساني وصولا إلى كارل ماركس وسارتر والبيركامو وبتراندراسل…ثم أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين لا زال بعضهم على قيد الحياة يساهمون في بناء الفلسفة وتحويلها من فلسفة تأملية أو معيارية إلى فلسفة عملية مرتبطة بحياة الناس في السياسة والاخلاق والتربية والاسرة والطفل والمجتمع عامة. ثم الفلاسفة الكبار الحاليين في أميركا وفرنسا الأكثر اهتماما بالفلسفة في وقتنا الحاضر، مثل نعوم تشوسكي و جاك دريدا وجاك لاكان وجيل دولوز وميشيل فوكو… وغيرهم، بحيث لا تستطيع أن تنسبهم لدولة دون أخرى فقد اصبحوا بفضل الفلسفة أمميين بمعنى الكلمة.
ما هي الفلسفة؟
هذا سؤال يراود كل قارئ ومستمع لهذه الكلمة، وجاء العديد من العلماء والمفكرين لتحديد معنى ذو هدف واضح ومفهوم للفئات المهتمة.
تعريف الفلسفة في اللغة: هي كلمة مشتقة من مصطلح يوناني وهو فيلوسوفيا، فيلو تعني الحب، وسوفيا تعني الحكمة، أي حب الحكمة، وكلمة فيلسوف مشتقة من مصطلح فيلوسوفوس أي مؤثر الحكمة. تعريف الفلسفة اصطلاحاً: هناك عدة مفكرين وعلماء عرّفوا الفلسفة ومنهم دلوز بأنها إبداع المفاهيم، أما الفارابي فقال بأنها العلم بالموجودات بما هو موجودة، بينما قال الكندي بأنها هي علم الأشياء بحقائقها الكلية، بينما عرّف أفلاطون الفيلسوف بأنه الشخص يسعى للوصول الى معرفة الأمور الأزلية وحقائق الأشياء. وبالرغم من التعاريف المختلفة التي طرحت إلّا أنه يمكن القول والإتفاق بأن الفلسفة هي الطريق الرئيسي للمعرفة وكسبها وتحصيلها، ففي القرون الوسطى ظهرت فكرة أن الفلسفة ما هي إلّا الرغبة الطبيعية في طلب المعرفة لذاتها، ومنها انطلق اسم الفلسفة على كل علم يصل إليه العقل عن طريق النظر الفكري بعكس العلم الإلهي الذي يصل إليه الإنسان عن طريق الوحي، ومنها صار معنى الفلسفة العلم العقلي المنظم. الغاية من العلم الفلسفي: من المتفق عليه أن الفلسفة ما هي إلّا السعي وراء المعرفة، لذلك لا يكتفي الإنسان بملاحظة الوقائع وبما يدور حوله فقط، بل غالباً ما يثير الكثير من التساؤلات والجدل لكي يحصل على إجابة واضحة ومنطقية والوصول الى حقائق موضوعية،
أهداف الفلسفة
من خلال ما سبق، يمكن تحديد أهداف العلم الفلسفي كما يلي: تنمّي وتقّوي دراسة المهارات والقدرات العقلية مثل التذكّرو الحفظ والإقناع واتخاذ القرار. تعطي العقل البشري طريقة منظمة لفهم ما يدور حول الفرد من ظواهر وحقائق. توقظ الفكر المنطقي للوصول الى حقيقة موضوعية ومتسلسلة وذلك بالاستدلال الصحيح والفهم والتركيب والتنظيم والتحليل والتصنيف وبالتالي النتيجة. تعزز القدرة اللغوية عند الفرد من خلال التعبير الدقيق والصارم خلال الحوار الفلسفي والتفكير بما يدور حوله من وقائع. تعزز ثقافة الفرد من خلال زيادة القراءة للوقائع التي تدور حوله للإجابة عن الأسئلة التي تدور في نفسه أو مع غيره من الأشخاص. تساعد الفرد على مواجهة مشاكله وإيجاد الحلول وإثباتها وبالتالي اتخاذ القرار. تساعد الفرد على معرفة الإرث الفلسفي وما حمل من أفكار وقيم فيأخذ منها ما هو إيجابي، وتوجيه ما هو سلبي نحو صلاحه وصلاح مجتمعه والذي بدوره يؤدي الى وصول الفرد الى التكيف الذي يحتاجه ويطلبه.
“محبة الحكمة” و”التفكير في التفكير”
إذا كانت الفلسفة في تعريفها اللغوي الأولي تعني حب الحكمة، فإن المادة الأساسية للفلسفة تعد مادة واسعة و متشعبة ترتبط بكل أصناف العلوم و ربما بكل جوانب الحياة، ومع ذلك تبقى الفلسفة متفردة عن بقية العلوم و التخصصات. وتوصف الفلسفة احيانا بأنها “التفكير في التفكير” أي التفكير في طبيعة التفكير و التأمل و التدبر، كما تعرف الفلسفة بأنها محاولة الإجابة عن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الوجود والكون. و في اليوم العالمي للفلسفة، يجب أن نقول الفلسفة شهدت تطورات عديدة مهمة، فمن الإغريق الذين أسسوا قواعد الفلسفة الأساسية كعلم يحاول بناء نظرة شمولية للكون ضمن إطار النظرة الواقعية، إلى الفلاسفة المسلمين الذين تفاعلوا مع الإرث اليوناني دامجين إياه مع التجربة و محولين الفلسفة الواقعية إلى فلسفة إسمية، إلى فلسفة العلم و التجربة في عصر النهضة ثم الفلسفات الوجودية و الإنسانية و مذاهب الحداثة و ما بعد الحداثة و العدمية . الفلسفة الحديثة حسب التقليد التحليلي في أمريكا الشمالية و المملكة المتحدة ، تنحو لأن تكون تقنية أكثر منها بحتة فهي تركز على المنطق و التحليل المفاهيمي بالتالي مواضيع اهتماماتها تشمل نظرية المعرفة والأخلاق وطبيعة اللغة وطبيعة العقل . وهناك ثقافات و اتجاهات أخرى ترى الفلسفة بأنها دراسة الفن و العلوم ، فتكون نظرية عامة و دليل حياة شامل. و بهذا الفهم، تصبح الفلسفة مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية و ليست محاولة لفهم الحياة. في حين يعتبر المنحى التحليلي الفلسفة شيئا عمليا تجب ممارسته ، تعتبرها اتجاهات أخرى أساس المعرفة الذي يجب اتقانه و فهمه جيدا .
الفلسفة تنزل من السماء إلى الأرض
ان الحديث عن الفلسفة لا يرتبط بالحضارة اليونانية فحسب، لكنها جزء من حضارة كل أمة، لذا فالقول “ما هي الفلسفة ؟” لا يعني اجابة واحدة. لقد كانت الفلسفة في بادئ عهدها أيام طاليس تبحث عن أصل الوجود، والصانع، والمادة التي أوجد منها، أو بالأحرى العناصر الأساسية التي تكون منها، وطال هذا النقاش فترة طويلة حتى أيام زينون والسفسطائيين الذين استخدموا الفلسفة في الهرطقة وحرف المفاهيم من اجل تغليب وجهات نظرهم. لكن الفترة التي بدأت من أيام سقراط الذي وصفه شيشرون بأنه “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”، أي حول التفكير الفلسفي من التفكير في الكون و الوجود وعناصر تكوينة إلى البحث في ذات الانسان، قد غير كثيرا من معالمها، وحول نقاشاتها إلى طبيعة الانسان وجوهرة ، والايمان بالخالق، والبحث عنه، واستخدام الدليل العقلي في اثباته، واستخدم سقراط الفلسفة في اشاعة الفضيلة بين الناس والصدق والمحبة، وجاء سقراط و افلاطون معتمدين الأداتين العقل والمنطق ، كأساسين من أسس التفكير السليم الذي يسير وفق قواعد تحدد صحته أو بطلانه.