في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتشعب فيه القراءات، يظل صوت الإمام العز بن عبد السلام حاضرًا بقوة، يصدح بالعلم واليقين، ويعيد تشكيل الوعي الإسلامي من خلال كتبه التي تجاوزت حدود الزمان والمكان. ومن بين تلك النفائس، يبرز كتابه "بداية السُّول في تفضيل الرسول" كواحد من أرقى ما كُتب في بيان مكانة النبي محمد ﷺ، ليس فقط من باب المحبة، بل من باب البرهان العقلي والشرعي.
الكتاب، الذي صدرت طبعته الجديدة ، بتحقيق دقيق من الدكتور إياد خالد الطبّاع عن دار الفكر بدمشق، يُعدّ تحفة علمية وروحية، إذ يجمع بين جمال اللغة وصرامة الحجة. فالعز بن عبد السلام، المعروف بـ"سلطان العلماء"، لا يكتفي بسرد الفضائل، بل يبنيها على أسس عقلية ومنهجية، ليؤكد أن تفضيل النبي ﷺ على سائر الخلق ليس مجرد عاطفة، بل حقيقة شرعية وعقلية لا تقبل الجدل.
ينقسم الكتاب إلى محاور متعددة، يناقش فيها المؤلف الفضل الذاتي للنبي ﷺ، من حيث كمال الخَلق والخُلق، والفضل المكتسب من خلال ما حباه الله به من علم ومعجزات ومكانة قيادية. كما يعقد مقارنات دقيقة بين النبي ﷺ وسائر الأنبياء والملائكة، بأسلوب علمي رصين، يبرز فيه عمق فهمه وتبحره في علوم الدين والمنطق.
ولعل ما يميز هذا العمل هو قدرته على مخاطبة العقل والقلب في آنٍ واحد. فالعز بن عبد السلام لا يكتفي بإثارة المشاعر، بل يدفع القارئ إلى التأمل والتفكر، ويُشعره أن محبة النبي ﷺ ليست فقط واجبًا دينيًا، بل ضرورة عقلية وروحية.
أما تحقيق الدكتور إياد الطبّاع، فقد أضفى على النص روحًا جديدة، إذ قدّم قراءة دقيقة للنصوص، وشرحًا للمصطلحات، وربطًا بين السياق التاريخي والمضمون الفكري، مما يجعل الكتاب في متناول القارئ المعاصر دون أن يفقد أصالته.
في زمن تتعالى فيه الضجيج وتتشوش فيه البوصلة، يأتي هذا الكتاب ليعيد ترتيب الأولويات، ويذكرنا أن معرفة النبي ﷺ وتفضيله ليست ترفًا فكريًا، بل مدخلًا لفهم الدين، وتأسيس العلاقة مع الله، وبناء الإنسان المسلم على أسس المحبة والعقل واليقين.