تخطي إلى المحتوى
بين الغذامي وخصومه: تفكيك الأنساق أم تفكيك الأدب؟ بين الغذامي وخصومه: تفكيك الأنساق أم تفكيك الأدب؟ > بين الغذامي وخصومه: تفكيك الأنساق أم تفكيك الأدب؟

بين الغذامي وخصومه: تفكيك الأنساق أم تفكيك الأدب؟

مر النقد الثقافي قبل أن يصل إلى عبد الله الغذامي، الذي -انحرف تماما بمسيرته – عبر مراحله الثلاث، ليبلور نظريته الخاصة، في النقد الثقافي، التي ما زالتْ موضعَ جدل كبير في الأوساط الثقافية والأدبية، خاصة الأكاديمية، وحتى قبل أسبوع من الآن كنتُ ضيفاً في جامعة واسط في العراق، في ندوة حول النقد الثقافي ومآخذه.
مراحل النقد الثقاقي:
اولاً: مدرسة فرانكفورت بدأت الجدل الثقافي قبل جماعة برننكهام، من خلال مهاجمتها للفلسفة النسقية، التي قامت على التنظير العقلي وليس الواقع الاجتماعي للإنسان، ثم دعت إلى صناعة الثقافة، من خلال المؤلف المشترك أو ما يسمى بجدلية التنوير في جميع المظاهر مثل، السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام وغيرها.
ثانياً: جماعة برننكهام التي جاءت بالدراسات الثقافية منذ عام 1964 cultural studies
ولعل أدق تعبير عن ماهية أو مهمة هذه الدراسات، لخصه الغذامي بقوله «وأفضل ما تفعله الدراسات الثقافية هو وقوفها على عمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها» (النقد الثقافي )
ثالثاً: النقد الثقافي الذي جاء به الناقد الأمريكي فنسنت ليتش Cultural Criticism
التي لخص الغذامي فيها المنظومة التي وضعها ليتش على ثلاثة أُسس وهي:
1- ابتعاد النقد الثقافي عن التصنيف الجمالي للنصوص، إلى كل ما هو غير جمالي.
2- الاستفادة من مناهج التحليل مثل تأويل النصوص وإطارها التاريخي.
3- الاستفادة من خطابات ما بعد البنيوية مع التركيز على رؤية كل من بارث ودريدا،
بمعنى دراسات تشظيات الخطابات الدلالية للنصوص في كل الاتجاهات، خاصة تلك التي أهملها النقد الأدبي.
رابعاً: النقد الثقافي في الأدب، الذي جاء به عبد الله الغذامي، يعد النقد الثقافي آخر النظريات النقدية التي جاءت ما بعد البنيوية، أو ما تسمى ما بعد الحداثة، بمثابة ردة فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية، التي قامت بالنظر إلى الأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية، وظاهرة فنية وجمالية شعرية، ومن ثم، وبما أن دراسة الأدب من هاتين الزاويتين تتطلب مفاهيم ووسائل بلاغية وبيانية لتحليلها وتأويلها، كانت فلسفة أو رؤية النقد الثقافي مختلفة تماما من حيث النظر إلى العمل الأدبي، فقد بنيت هذه الرؤية على تقويض البلاغة والنقد معاً، بغية بناء بديل منهجي جديد ينصرف إلى كشف الأنساق الثقافية المضمرة، ثم دراستها ثم تحليلها وفق سياقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، بهدف تفسيرها، فما كان يصلح في النقد الأدبي ليس بالضرورة يصلح في النقد الثقافي، فهناك زاويتان مختلفتان في النظر إلى الأعمال الأدبية، كل في فلك يسبحون، والواضح في مشروع النقد الثقافي هو، ارتباطه باستراتيجية التفكيك التي جاء بها جاك دريدا، التي بنيت على أساس هدم البناء القديم وإنشاء بناء جديد مكانه، باستخدام المواد ذاتها، حيث تقوم رؤيته على التقويض والتشتيت والتفكيك بهدف فرز التباين والاختلاف والتضاد والتناقض، حيث أضاف لها النقد الثقافي في الأدب نظرة تقوم على افتراض أن الخطابات الأدبية تحتوي على أنساق مضمرة، ومهمتها هي اكتشافها وإعادتها إلى سياقها الخارجي.

مشروع الغذامي في النقد الثقافي
يرتكز مشروع الغذامي على مسألة غاية في الدقة يمكن حصرها أساساً في وظيفة الأداة النقدية، وتحويلها من وظيفة أدبية إلى وظيفة ثقافية وفي هذا يقول «نستخلص نموذجنا النظري والإجرائي مما هو أساس نقدي للمشروع الذي نطمع للتصدي له، وهو ينحصر تحديداً في توظيف الأداة النقدية التي كانت أدبية ومعنية بالأدبي/ الجمالي، وتوظيفها توظيفا جديداً لتكون أداة في النقد الثقافي». وهنا يمكن أن نسمي هذا أساس المشروع الذي قام الغذامي بخلقه، وليس بنقله من أحد، حيث حدد الكيفية التي يرتكز عليها هذا التوظيف بتحديده أربع عمليات إجرائية
أ- نقله في المصطلح النقدي ذاته
ب- نقله في المفهوم (النسق)
ج- نقله في الوظيفة
د- نقله في التطبيق
كما رأينا كيف ابتعد الغذامي عن مفهوم الدراسات الثقافية، سواء عند مدرسة فرانكفورت أو جماعة برننكهام، لكنه استفاد من فلسفتها من حيث المفهوم الثقافي، وكيف قام بتطوير مشروع الناقد الأمريكي فنست ليتش، حيث استفاد من رؤيته في فلسفة النقد الثقافي، ليخرج لنا بمشروع عربي خالص قام بخلقه وليس بنقله، وهذا هو الفارق بين من يخلق مشروعا، ومن ينقل ويدعي مشروعا. وهكذا رأينا كيف قام الغذامي بخلق هذا المشروع، فلم يكن النقد الثقافي قد تم إسقاطه على الأدب قبل عبد الله الغذامي، فهو الرائد الحقيقي له، وهو صاحب مشروع يقوم على الخلق وليس النقل، وظل مشروعه قائما إلى الآن وصامدا كل هذه السنين، حتى إن كانت هنالك آراء تعارض رؤيته في الكيفية التي دعا بها إلى إحلال النقد الثقافي بدلا عن النقد الأدبي، بينما لا أرى في دعوته إقصاء للنقد الأدبي، من حيث الزوايا التي نظر اليها في تقييم النصوص، وبما يقتضيه مفهوم التحديث حتى نصل إلى الحداثة، حيث انصرف النقد الثقافي إلى نقد الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي بتجلياته وأنماطه، وقد قام النقد الثقافي بمهمة كان قد أهملها أو أنكرها النقد الأدبي وممكن لنا أن نعدها بالهامشية، والسبب التي قاد النقد الأدبي إلى إهمالها، هو عدم خضوعها لشروط الذوق النقدي، حيث قامت التيارات النقدية على فكرة تحليل وتأويل النص، حيث أخذت جميع النظريات النقدية جانب النص مثل البنيوية والسيمياء، لكن نرى أن فلسفة النقد الثقافي تقوم على إلغاء الفارق بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي، من خلال الكشف عن العيوب النسقية التي توجد في النصوص وفي الثقافة والسلوك، بعيدا عن الخصائص الجمالية والفنية، حيث قام الغذامي بالدعوة إلى:
1- تحرر مصطلح أدبي وأدبية من التصور الرسمي المؤسساتي أيضاً « بحيث يعاد النظر في أسئلة الجمالي وشروطه وأنواع الخطابات التي تمثله.
2- الاتجاه إلى كشف عيوب الجمالي، والإفصاح عما هو قبحي في الخطاب، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإنه لا بد أن توجد نظريات في (القبحيات).
مفهوم الحداثة حسب رؤية الغذامي
لقد وضع الناقد عبد الله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي» مفهوما دقيقا عن معنى الحداثة العربية، وقد وقف بشكل مفصل حول هذه الجدلية، حيث ابتعد في رؤيته عن رؤية النقد الأدبي، التي تقوم على المفهوم الجمالي البلاغي، لكنه رأى، أن هذه النظرية ستكون قاصرة ولا تخدم الخطاب الأدبي ولذلك دعا إلى مفهوم التحديث، في النسق قبل التحديث في الأسلوب.
وما أراد الغذامي قوله، إن التحديث يسبق الحداثة، ومفهوم التحديث يجب أن يكون تحديثا نسقيا، ثم إلى السمات الشعرية، وليس فقط في مفهوم التكنيك أو الصياغة، فقد يكون التكنيك حداثوي لكن النسق والسمة ظل متخلفاً، وبهذا لن يكون الشاعر هنا قد جاء بجديد، وسوف أضرب هذا المثل، كتب أحد أصدقائي واسمه عمار مثلاً جميلاً حول مفهوم التشابه، ولكنه لم يتوسع به لأنه ليس ناقدا، وها أنا أفعل هذا وأتوسع بمثله حول التشابه في المعاني بين شاعر عربي وشاعر فرنسي، ليسا من جيل واحد يقول الشاعر العربي قيس بن الملوح الذي عاش نحو645- 688
كعصفورة في كف طفلٍ يزمها
تذوقُ حياضَ الموتِ والطفلُ يلعب
فلا الطفلُ ذو عقلٍ يرق لحالها
ولا الطيرُ ذو ريشٍ يطير فيهربُ
بينما يقول الشاعر الفرنسي جاك بريفير1900- 1977
يقتلُ الأطفالُ الضفادعَ بهَزل.. لكن الضفادعَ تموتُ بجدية
إن كلمةَ ضفدع أكثرُ حداثةٍ من كلمة عصفورة، لأن مفردةَ عصفورة بهذا الصورة وبهذا التشبيه أو بهذا التوظيف، أصبحت مطروقةً مكرورةً كثيرا، بينما العكس بالنسبة للضفدع محدثة في هذا السياق تماما؟ ليس لأن الفارق الزمني بين الشاعرين، بل لأن توظيفَ مفردة ضفدع كان سابقةً في هذا المعنى فأكسبها ثوب الحداثة، وليس كذلك بالنسبة لمفردة عصفورة، رغم أن كليهما بيد طفل وكلاهما يموت، لكن صورة العصفورة بيد الطفل تصورٌ قديمٌ ومكرور، ولا يثير دهشة أو انتباها، بينما العكس تماما بالنسبة للضفدع بيد الطفل فهو محدثٌ وهذا هو التجديد في النسق الخطابي، وأي شاعر يكرر نسقه الخطابي لن يكون حداثوي على الإطلاق، وهذا ما كان يرمي إليه عبد الله الغذامي عند استعراضه لمفهوم الحداثة عند أدونيس، فإن نسقه الخطابي في التعاطي مع جملته الشعرية هو النسق التقليدي المتعالي ذاته، الذي يلغي الآخر، وقد ربط هذا بقول عمرو بن كلثوم القائل: (لنا الدنيا وما أضحى عليها – – ونبطش حين نبطش قادرينا)، ومن هنا جاء اعتراض عبد الله الغذامي حول مفهوم الحداثة عند أدونيس حيث قال: «وبما أن أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه فإنها لا يمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري والاجتماعي» (النقد الثقافي)، بمعنى أن السمات الشعرية لشعرية أدونيس لا تضيف شيئا جديدا للثقافة العربية ويعلل هذا بقوله (إن الشعر منذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس وهي أسس خالصة الشعرية وقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل).
وما ينطبق على أدونيس ينطبق على نزار قباني، حيث لا يختلف نسقه الشعري عن نسق عمر بن أبي ربيعة مثلاً أو غيره ممن سبقه، فالمسألة هي ليست مسألة إساءة إلى أحد، ولا عداء مع جهة ما، لكن هكذا تقوم رؤية وفلسفة النقد الثقافي تطبيقا على الأدب، من هذه الزاوية، بهذه الكيفية، وأخيرا بهذا التحليل.
مآخذ على النقد الثقافي
مما لا شك فيه أن كل نظرية أدبية عليها مؤآخذات ولها مؤيدون ومعارضون، ولها نقاط وعليها نقاط أيضا، ولا تختلف النظرية التي جاء بها الغذامي عن بقية النظرية الأدبية التي سبقته، فهنالك اتهامات وجهت إلى النقد الثقافي، الذي حاول الغذامي أن يدافع عنه من خلال تأليفه كتابا آخر هو «إشكالات النقد الثقافي» حاول أن يشرح فيه بشكل أكثر تفصيلا نقاطا كثيرة أثيرت حول كتابة النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية.
بين النقد الثقافي والنقد الأدبي
هنالك جدلية كبيرة تُطرح كل يوم تقريبا وفي كل مكان في العالم مفادها، هل يُلغي النقد الثقافي النقد الأدبي أو العكس؟ هل هو بديل عنه؟ هل هو مكمل ٌ له؟ ولا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا من خلال طرح ونقاش حقيقي، وبلا تعصب، أو ردة فعل متشنجة، فالمعادلة تقوم على أساسين هما: النقد الأدبي يعتمد على البلاغة والبيان ويظهر جماليات النصوص من خلال عامل اللغة. والنقد الثقافي يعتمد على الأنساق المضمرة ويظهر قبحيات النصوص من خلال نمط هذه الأنساق، فأصحاب النقد الأدبي يسلمون بأنه لا يمكن أن تقيم النصوص فقط استنادا إلى أنساقها فقط، مثل، محسن الموسوي وعبد العظيم السلطاني في العراق، ولكل منهم له كتاب في هذا الخصوص، بينما يرى الغذامي أن النقد الأدبي قد وصل إلى مرحلة العمى الثقافي فيقول (لقد أدى النقد الأدبي دورا مهما في الوقوف على جماليا النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي، مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة تحت عباءة الجمالي، الشعري والبلاغي، حتى صار نموذجا سلوكيا يتحكم فينا ذهنيا وعمليا) فهل هذه دعوة إلى إلغاء النقد الأدبي أو التخلص منه؟ يعلل الغذامي هذا بقوله (وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه). هذه الجدلية قادت إلى ردة فعل عنيفة جدا من قبل النقاد العرب، لأنهم فهموا أن دعوة الغذامي هي إلغاء أو إحلال النقد الثقافي كبديل للنقد الأدبي، وهذا ما قاد إلى الوقوف ضد مشروعه، لكن في الحقيقة هو لم يدع إلى أن يكون النقد الثقافي بديلا عن الأدبي لكنه قال (وليس القصد هو إلغاء المنجز النقد الأدبي، وإنما الهدف هو في تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره وتسويقه بغض النظر عن عيوبه النسقية، إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه).

وبما أن كلا الفريقين له نظرة مختلفة عن الآخر، ونافذة إلى تحليل النصوص ليست متطابقة، فإنني أدعو إلى مفهومٍ تكامليٍ بين النظرتين الثقافية والأدبية أي بمعنى أن يتم تحليل النصوص عن طريق أنساقها وبلاغتها معا جمالها وقبحها، فإنني لا أجد اي ضير في هذا! بل أرى أن العملية ستكون أكثر قبولا وأكثر واقعية، وقد عملت على تطوير مشروع الغذامي بمشروع آخر خاص وجديد، سوف أصدره في كتاب أن شاء الله قريبا، وهذه ليست دعوة لإلغاء لا النقد الثقافي ولا النقد الأدبي، بل هو تطوير مشروع الغذامي لجعله أكثر قبولا أو اقترابا من الواقع النقدي، ولحلحلة الإشكال بين الطرفين، وبما أن النظريات تتداخل وتتطور، فلا أرى أي عائق يقف في تطوير النقد الثقافي.

المصدر: 
القدس العربي
USD
  • USD
  • EUR
  • SAR
  • TRY
  • AED