تخطي إلى المحتوى
ترسخ فن الرواية في الإبداع العربي الحديث: الصراع بين الأصالة والمعاصرة ترسخ فن الرواية في الإبداع العربي الحديث: الصراع بين الأصالة والمعاصرة > ترسخ فن الرواية في الإبداع العربي الحديث: الصراع بين الأصالة والمعاصرة

ترسخ فن الرواية في الإبداع العربي الحديث: الصراع بين الأصالة والمعاصرة

ننطلق في هذا المقال من سؤال محوري مفاده: لماذا ترسخت الرواية العربية في الأدب العربي الحديث، وصارت لها قاعدة قرائية واسعة، علما بأنها شكل أدبي غربي في الأساس؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من أن نقرر أن الرواية كشكل أدبي استقر في التلقي العربي الحديث، جنبا إلى جنب مع الشعر، بل احتلت الرواية مكان السرديات العربية المتوارثة، مثل السير الشعبية وألف ليلة وليلة، والقصص التراثية.
ولذا، نقول إن هناك أسبابا عدة، أهمها وجود ذائقة كبرى في التلقي العربي لها، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، من خلال الإقبال على قراءة الروايات الأجنبية المترجمة، وقد غلبت عليها التسلية أولا، ثم تفاعل القراء العرب مع اتجاهات الرواية الغربية الرومانسية والتاريخية والبوليسية والواقعية، فبدأت محاولات – على استحياء- لإنتاج رواية بأقلام أدباء عرب، في بلاد الشام أولا، ثم في أرض الكنانة، وتبعهم أدباء عرب في أقطار عدة. فقد كان الشكل الغربي ماثلا في مخيلة الروائيين العرب في المرحلة الأولى من الكتابة الروائية العربية، وهو ما يفسر ظاهرة الاقتباس والاقتداء، التي مارسها كثير من الكتّاب العرب في الروايات والقصص والمسرحيات، وقد تم التأسيس على النموذج الغربي للإبداع الروائي العربي، وهو ما استند إليه أصحاب الاتجاه التغريبي، الذي يقول إن رواية زينب لمحمد حسين هيكل – وهي أول رواية عربية – جاءت مصاغة وفق الرواية الغربية، ومن باب التقليد البحت لها، ومتبعة قواعد القصة الغربية؛ على عكس ما يرى أنور الجندي في كتابه «خصائص الأدب العربي الحديث في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث» أن الرواية العربية الحديثة ليست إلا امتدادا لتيار القصص المتجذر في التراث العربي، وكانت حجته أن الأدب يقاس حسب مزاج الأمم، ويعبر عن أحلامها وذائقتها، ولم يتم جلبه من ثقافات أخرى، وأنه متطور عن السرديات التراثية العربية، وأن العرب ما كانوا في حاجة إلى الشكل الغربي للرواية.
ونحن نقول، إن القضية ليست في استيراد شكل أدبي ما، وإن تم فليس أمرا مدانا، فديدن الثقافات والحضارات هو التأثير والتأثر، والاقتباس والعطاء، والأدب العربي قديما، تأثر بآداب الأمم الأخرى، و»كليلة ودمنة» و»ألف ليلة وليلة» نموذجان يبرهنان على الإفادة الإبداعية من حضارتي الهند وفارس قديما، خاصة أنهما وجدا تلقيا واسعا من القراء العرب في مختلف العصور، ثم انطلقت ترجماتهما إلى العالم من العربية.
وتبدو العبرة في الشكل الأدبي في مدى قبول الذائقة العربية له، وهو ما تم وبقوة مع الشكل الروائي، حيث وجد قبولا لدى القارئ العربي، بدءا من الروايات الأجنبية المترجمة، ثم الروايات العربية المؤلّفة، التي تبنت مشكلات الإنسان العربي وطموحاته وآلامه، وما ظهور أجيال متتالية إلا دليل على ترسخ هذا الشكل.

فالرواية وإن كانت قد نشأت في الغرب، لكنها صارت عالمية مثل فنون وآداب كثيرة، تساهم في نتاجها الإبداعي مختلف الثقافات والجنسيات العالمية، بل صار مصطلح الخصوصية يتميز به المنتج الروائي في خريطة الأدب العالمي.

فالخصوصية الروائية العربية هي خصوصية إبداعية في المحل الأول، أي خصوصية نابعة من ذات الروائي الفرد، ولها مميزاتها المحايثة في العمل الروائي نفسه، وهي أيضا خصوصية قومية بنكهة من الثقافة العربية الواسعة، على حد قول محمود أمين العالم، الذي ناقش هذا المفهوم بشكل معمق، في بحث بعنوان: (هل هناك خصوصية للرواية العربية؟ محمود أمين العالم، مجلة فصول القاهرية شتاء 1997) حيث رأى أن الخصوصية هي عين الذاتية، أي ما تتميز به كينونة الذات عن غيرها من الذوات، لكنها ليست كينونة مغلقة – كما يوهم مصطلحها- بل هي على تميزها الذاتي؛ مفتوحة على الذوات الأخرى من حولها من ناحية، ومتنامية مع حركة الذات ومتغيرات التاريخ من ناحية أخرى، أي أنها صيرورة أكثر من كونها كينونة، فرغم وحدة الخصوصية وتميزها الذاتي، فهي متشابكة متفاعلة مع غيرها من الذوات، وتنمو وتتطور وتتنوع داخل وحدتها الذاتية. فخصوصية الرواية العربية تحمل تميزا إبداعيا، إزاء غيرها من الأعمال الإبداعية، دون أن يعني هذا انغلاقه عنها، أو جموده وتأبيد مميزاته.
يمثّل رأي محمود العالم قاعدة قوية يمكن التأسيس عليها في البحث عن خصوصية الرواية العربية، وإن كان رأيه يميل إلى العموم؛ في محاولة منه، لتقديم رؤية شاملة للرواية العربية في العصر الحديث، بعد مرور أكثر من قرن ونيّف على نشوئها، ووصولها إلى مرتبة عالية من الاستقلالية عن تيار الرواية الغربية، وظهور أجيال عديدة من الروائيين العرب؛ سعوا لترسيخ الشكل الروائي العربي، على مستوى البنى والأساليب والرؤى والطروحات، ويشدد محمود العالم على أن الخصوصية لا تعني انغلاقا، بل تميّزا. وشتان ما بين الانغلاق والتميز، فالانغلاق يجعل الرواية العربية جامدة شكلا وطرحا، مكررة الأسلوب والطريقة، أما التميز فيعني دينامية التغير الإيجابي، الذي يمتاح من تيار الرواية العالمية، وما فيه من تجديد دائم، وبالتالي نتخلص من مفهوم التبعية والتأثر، الذي يعني استلابا حضاريا يطارد الرواية العربية، عندما يقال إنها مستندة في شكلها وبدايتها إلى النموذج الغربي، ويتخذ من الإبداع الروائي في تجلياته كافة، دلائل جلية على تميزنا الحضاري.
وتلك نقطة مهمة، فالرواية وإن كانت قد نشأت في الغرب، لكنها صارت عالمية مثل فنون وآداب كثيرة، تساهم في نتاجها الإبداعي مختلف الثقافات والجنسيات العالمية، بل صار مصطلح الخصوصية يتميز به المنتج الروائي في خريطة الأدب العالمي، فهناك الرواية اللاتينية (أمريكا الوسطى والجنوبية) وهناك الرواية الافريقية المعبرة عن القارة السمراء، وهناك الرواية الهندية المصاغة باللغة الهندية أو بالإنكليزية، والمعبرة عن المجتمع الهندي الكبير بكل ما فيه من تنوع عرقي وثقافي.
فنحن لا نذهب بعيدا عندما نضيف مصطلح خصوصية إلى الرواية العربية، ونشدد على أنها تيار أدبي، راسخ القدم في الثقافة العربية المعاصرة، ومتفرع من نهر الأدب العربي الممتد منذ قرون طويلة، بكل رصيده الحضاري والعلمي والإبداعي، وأيضا بكل ما زخر به من سرديات كبرى، شعبية ورسمية، شفاهية وكتابية.

القدس العربي