أصبحت القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل مركزًا جاذبًا للكتاب وأصحاب الأفكار، فلم تجذب اللبنانيين الذين ساهموا في إنشاء الصحف ودور النشر ونهضة الفنون، بل اجتذبت شخصية سيكون لها شأن هي جمال الدين الأفغاني الداعية الإسلامي، الذي كان له تأثير كبير على المثقفين ورجال الدين. وقد عرفت مصر آنذاك أتباع التيار الليبرالي واتساع التيار الإصلاحي، عدا عن الاحتجاجات السياسية فقد ظهر في تلك الأثناء الرأي العام الذي مهّد لنشوء التيارات والأحزاب السياسية.
شهدت مصر أحداثًا كان لها أثرها البعيد على الثقافة، فقد قام الضباط المصريون بقيادة أحمد عرابي بتمرّد وسرعان ما تحوّل إلى ثورة تطالب بالدستور، وكانت مصر الرازحة تحت الديون قد تعرّضت إثر الثورة للاحتلال البريطاني عام 1882، مما عزّز الاتجاه الوطني المناهض للاحتلال.
وكان أبرز دعاة الوطنية هو مصطفى كامل الذي أصدر جريدة اللواء ثم أعلن الحزب الوطني. وكان كاتبًا مشجعًا للأدباء وعاملًا على إنشاء الجامعة المصرية. وبعد فترة وجيزة أسّس أحمد لطفي السيد جريدة الجريدة الناطقة باسم حزب الأمة. وقد عبّر الحزبان عن اتجاهين سياسيين أطلقا الحياة السياسية والفكرية، كان مصطفى كمال أقرب إلى فكرة الجامعة الإسلامية أما أحمد لطفي السيد فكان شعاره مصر للمصريين. وكان مؤمنًا بالأفكار الليبرالية وحرّية الفرد وداعية إلى اكتساب معارف الغرب عبر التربية.
أخذت مصر على عاتقها الريادة العربية في كل ميادين الثقافة... وكانت جاذبة للمواهب والطاقات الأدبية والفنية
وقد مهّدت هذه الأفكار لنشاط فكري وسياسي، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى طالب المصريون بالاستقلال واندلعت ثورة عُرفت بثورة 1919، وبرز سعد زغلول وحزب الوفد الذي كسب تأييد أغلب المصريين، وشهدت مصر مرحلة ليبرالية بعد إقرار الدستور عام 1923، وبالرغم من تعثّر الحياة السياسية وصراعات الأحزاب. فقد شهدت مصر حركة ثقافية بأبعادها الفكرية والأدبية والفنية.
أخذت مصر على عاتقها الريادة العربية في كل ميادين الثقافة. وكانت المجلات التي تصدر في القاهرة من الهلال إلى المنار والرسالة
وتأثير مصر الكبير كان من خلال شخصيات تعبّر عن اتجاهات فكرية وأدبية مختلفة مثل أحمد أمين وأحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل. وكان لثلاث شخصيات أن تنتشر أعمالها في أرجاء العالم العربي، طه حسين وسلامة موسى ومحمود عباس العقاد، فقد نقلوا بأساليب مختلفة إلى القرّاء الاتجاهات الفكرية الحديثة والشخصيات المؤثرة في التاريخ. وقد انطوت مؤلفاتهم على بُعد تربوي يهدف إلى نقل المعارف المعاصرة إلى القرّاء.
وقد تفوّق طه حسين على معاصريه بتفكيره النقدي ورواياته المؤثرة ومقالاته الداعية إلى الحرية والديمقراطية. تأثّرًا بفلاسفة اليونان ومفكّري أوروبا الحديثة. ولا شكّ بأنّ أجيالًا قد تتلمذت أو تأثّرت به، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الجامعة المصرية، ومنذ عشرينات القرن العشرين أصبحت جامعة العرب يأتيها الطلاب من كافة البلدان العربية. وصار لأساتذتها الكبار تلامذة في كافة فروع الأدب والفلسفة والتاريخ، إضافة إلى الطب والحقوق.
وعلى امتداد عقود من الزمن كانت مصر البلد الذي عرف تجديد الموسيقى مع سيّد درويش خاصة وتلامذته من بعده، ثم كانت البلد الذي نشر السينما في أنحاء العالم العربي. ومن هنا كانت مصر جاذبة للمواهب والطاقات الأدبية والفنية. ومنذ وقت مبكر كان يفد إليها اللبنانيون والسوريون والعراقيون والتونسيون وقد تمصّر أغلبهم بعد أن اكتسبوا الشهرة.
تراجع دور مصر الثقافي يرجع إلى القطيعة التي أقامتها مع الثقافة والإنسانيات الحديثة
وبالرغم من تراجع دور مصر كمصدر للفكر الليبرالي بعد ثورة يوليو 1952، إلا أنّ الأدب الروائي والمسرحي قد ازدهر فيها، مع نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وأصبح لمصر دور سياسي كبير حتى حرب حزيران/ يونيو 1967. وخلال السبعينات والثمانينات تراجع دور مصر الثقافي والسياسي على السواء، بسبب خيارات قياداتها السياسية، كما تسبّب بقطيعة شملت الإنتاج الثقافي والجرائد والمجلات.
إلا أنّ أسباب تراجع دور مصر الثقافي ترجع إلى القطيعة التي أقامتها مصر مع الثقافة والإنسانيات الحديثة في الغرب، والترويج لثقافة سياسية تفتقر إلى العمق والأصالة. وآثار تلك القطيعة على امتداد عقدين من عمر ثورة يوليو، ما زالت بادية حتى اليوم.