أصلُ متأخرة عشر دقائق عن الموعد المقرر كي نجتمع ونحضر للفعالية. أدخل لأجد القاعة الكبيرة مليئة بالكوفيات والملابس التي تحمل رمز «البطيخة». عشرات الأشخاص قدموا من كل أنحاء دمشق، ومن مدن سورية أخرى، للمشاركة في أمسية «قراءة لمونولوجات غزة»، بدعوة من «مشروع مراية المسرحي» و»دار أطلس للنشر» واستضافة «صالة زوايا للفنون».
وُزعت علينا الأوراق التي طُبعت عليها النصوص، وخلال ساعة من الزمن، كنا نتبادل الأسئلة والأفكار حول الطريقة الأفضل لقراءة ما كتبه أطفال وطفلات غزيون قبل نحو 15 عاماً، ويبدو في الوقت ذاته قريباً جداً لما يعيشه الفلسطينيون اليوم، على وقع الحرب المستمرة منذ أكثر من شهرين. الأمر سهل وصعب للغاية في الوقت ذاته، فكيف نحكي عن أوجاع قديمة جديدة لا تنتهي؟ كيف نحكي عن حدث يفترض أنه صار من الماضي، لكنه تكرر 5 مرات، وكأن الحرب بهذه السهولة كي تُعاد كل بضع سنوات؟ امتلأت القاعة تقريباً بالحضور، وفي تمام السادسة والنصف بدأنا، بعد أن تطوع المزيد من الحاضرين للقراءة أيضاً. رحبت سمر حداد ناشرة «دار أطلس» بالحضور، وشرحت آنا عكاش المديرة الفنية لمشروع «مراية» عن الفعالية التي دعا إليها مسرح «عشتار» في فلسطين كجزء من مشروع يعمل عليه منذ عام 2010، فبعد حرب 2008-2009 في قطاع غزة، نفذ فريق «عشتار» برنامج دعم نفسي في غزة نتجت عنه مجموعة مونولوجات عرضت لأول مرة عام 2010، وأضيفت إليها نصوص كتبت في الحروب التالية التي عاشها القطاع. وفي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، وهو اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أطلق المسرح نداء عالمياً لإعادة قراءة هذه النصوص، ولبى الدعوة أكثر من 3000 شخص من فنانين وفاعلين من 40 دولة حول العالم، وقرئت المونولوجات بنحو 22 لغة مختلفة في مسارح ومقاهٍ وبيوت.. «واليوم يشرفنا أن نستضيف هذه القراءات في صالة زوايا، وهو أقل ما يمكن أن نقدمه ونحن نتابع بشكل يومي ما يحدث في فلسطين»، أضافت مديرة الصالة رولا سليمان في ختام الترحيب.
يبدأ كل نص بتعريف عن الكاتب/ة: الاسم وعام الولادة ومكان الإقامة. جميع من كتبوا النصوص كانت تتراوح أعمارهم حينها بين 14 و18 عاماً، ويعيشون في مناطق مختلفة من القطاع: شوارع الوحدة والصفطاوي والجلاء والميناء، وأحياء الدرج والشجاعية والرمال والشيخ رضوان والتفاح والصبرا، ومخيم الشاطئ. وبلغة عامية بسيطة ومفعمة بالمشاعر والتفاصيل اليومية، يسرد كل نص تجربة شخصية جداً لكاتبه/كاتبته، عما عاشوه قبل أو أثناء أو بعد الحرب، والكثير من التحولات بما يخص أفكارهم ومشاعرهم وأحلامهم للمستقبل.
يخبرنا أحمد الرزي (1993) عن قلقه وخوفه وكيف صار هو وغيره من سكان القطاع يتعاملون «بأنانية» مع أمور مثل الطحين والخبز والسكر والمستلزمات اليومية، فتحول من شخص كريم إلى آخر حريص على كل شيء. ويتحدث أحمد طه (1996) عن تغير نظرته تجاه غزة التي كان يعتقد بأنها أكبر وأجمل بلد في العالم، لكن بعد سفره إلى يافا صار يختنق وينظر إلى مدينته بأنها صغيرة مثل خرم الإبرة. ويختار أشرف السوسي (1994) الحديث عن أخيه طارق الذي كان «أهدأ من النسمة»، وأصيب أثناء استهداف لسيارة في شارع اليرموك وبعد دقائق توفي وتحول إلى «الشهيد البطل». بدورها تتحدث أماني الشرفا (1992) عن الدور الذي لعبه المسرح في انتشالها من حالة انهيار بسبب الحرب ورتابة الأيام في القطاع، فتقول بأنه «بمثابة طوق نجاة سحبها من تحت موجة كبيرة وهائجة اجتاحت روحها». وبشكل مشابه يتحدث كل من أمجد أبو ياسين (1993) وتامر نجم (1993) وروند جعرور (1997) عن أحلامهم بأن يصبحوا ممثلين، لكن المكان الذي يعيشون فيه يضيق بهذه الأحلام. «بدي أصير ممثل على عشرين نفر في غزة وأستنى ع بين ما يفتح المعبر؟» يكتب أمجد، أو «نفسي أطلع ممثلة الحلم صعب تحقيقه في غزة خصوصاً للبنات» تكتب روند. ويحكي أنس أبو عيطة (1995) عن حلمه بأن يصبح لاعب كرة مشهور «بس اليوم مليون عقبة بتوقف بطريقي، ما فيش ملاعب للكبار ولا حتى للصغار وأجا الحصار وزود الطين بلة». أفكر كيف أن هذه النصوص، على اختلافها، تحيلنا إلى فكرة واحدة، وهي أننا جميعاً، في أي مكان يعيش حرباً طاحنة كهذه، لسنا، ويجب أن لا نكون أرقاماً، فلكل منا حكاية.
أما الحرب نفسها، فقد دفعت إيهاب عليان (1994) لأن يكتشف بأن الحياة صعبة للغاية لكنها في الوقت ذاته جعلته يشعر بأنه موجود. «هيني ما شاء الله عني في البلد بتنفس هواها وبرقص وببكي معاها، وهيها الحياة داحلة». وتتحدث تيماء عكاشة (1997) عن جانب مختلف: «كنت أفكر أنه حالة الحرب ومشاهد الشهداء والدمار بتصد النفس عن الأكل، بس الظاهر أنه حالة الخوف والرعب والقلق بتخلي الإنسان يجوع وياكل أكثر. في الحرب كانت كل الشوارع علب معلبات فارغة». وكتبت سجود أبو حسنين (1995) عن كرهها للانقسام والتعصب الحزبي في غزة، وعن أحوالهم بعد الحرب: «بعد الحرب صرت أفكر ليش هيك إحنا من دون العالم؟ اغتصبوا أرضنا وانطردنا من بيوتنا وعشان عم ندافع عن حالنا بيصير معنا كل هذا؟ مي ما فيش. كهربا ما فيش. تليفونات ما فيش. بترول ما فيش. طيب شو إحنا بالنسبة للعالم مش بشر؟». كما تكتب سها المملوك (1995): «أنا طول الوقت خايفة من حرب جديدة. إذا انفجر بالون بخاف، وإذا ولد صغير صاح بصير أصيح معه، وبظل طول الليل صاحية أستنى فجر جديد يطلع».
لفتني أن بعض النصوص لا تخلو من حس فكاهة ومزيج غريب من القسوة والإنسانية، مثل علي الحسني (1995) الذي يشير إلى أنه «سبب الحرب على غزة» لأنه حلم في الليلة السابقة بأن «الحرب قامت ودارنا انقصفت»، وأحلامه تتحقق دائماً. وفاطمة أبو هاشم (1996) التي تتحدث عن حلمها بأن تصبح رئيسة فلسطين ليوم واحد كي تعزز الحب والسلام وتنهي الحقد والكره والانقسام، «بس للأسف أنا مش الرئيسة وعشان هيك صار في حرب». ومحمد القاسم (1995) الذي يكتب: «الدنيا مولعة وحاسين كلنا بدنا نموت وستي لخمتنا بتدور على ضبة أسنانها. خايفة لما تموت الناس يعرفوا أنه ملهاش أسنان». وياسمين أبو عمرو (1996): «نفسي أكون متخصصة في علم الميتافيزيقيا (علم ما وراء الطبيعة) بتعرفوا ليش؟ لأني باعتقد أنه غزة بحالها وراء الطبيعة، وأنا استفدت من وجودي في غزة وحابة أنقل خبرتي للآخرين».
بعد قراءة كل نص، كانت آنا عكاش تخبرنا عن مصير من كتبه، فالبعض بقي في قطاع غزة وهُجر من منزله، وآخرون بقوا لكننا لا نعرف عنهم شيئاً اليوم، وكثيرون هاجروا إلى بلدان عربية وغربية مختلفة، ليكملوا حياتهم وأحلامهم، أو يبنوا أحلاماً جديدة.
انتهت المونولوجات الإحدى والثلاثون، وقرأنا نصوصاً إضافية كتبها مؤخراً من يعيشون المجزرة اليوم، منها نص للصحافي عمر موسى تحت عنوان «جباليا صورة تتلاشى… عن الوجوه والبيوت»، عن المخيم الذي عاش فيه كل حياته، وفقد ستة من عائلته تحت أنقاضه. كان لهذه النصوص وقع أثقل، ربما لأنها «طازجة» وحية أكثر مما يمكن أن نحتمل. بعد ساعتين مفعمتين بالكثير من الطاقة والمشاعر المتناقضة من حبٍ وأمل وحزن، خرجنا وأنا أردد في داخلي مرة تلو الأخرى ما كتبته ريما الصادي (1995) التي زارت غزة من الإمارات لأول مرة عندما كان عمرها تسع سنوات: «وصلت البيت وقعدت بغزة ومش طالعة منها حتى لو خيروني بينها وبين باريس.. لأني اكتشفت أنه الحب الموجود فيها بين الناس بيكفي العالم كله، وإنه البلاد بأهلها مش بعماراتها ولا بمناظرها». اختار فريق عشتار أن يعيد هذه المونولوجات اليوم للضوء، كي تكون أصواتنا جميعاً أعلى ونقول بأن كل العالم متضامن مع غزة وأهلها، ونحن في دمشق اخترنا أيضاً أن نكون جزءاً من هذا الصوت.