تخطي إلى المحتوى
د. وهبة الزحيلي.. فقيه الاعتدال والحوار كذب بالوثائق التاريخية مقولات انتشار الإسلام بالسيف د. وهبة الزحيلي.. فقيه الاعتدال والحوار كذب بالوثائق التاريخية مقولات انتشار الإسلام بالسيف > د. وهبة الزحيلي.. فقيه الاعتدال والحوار كذب بالوثائق التاريخية مقولات انتشار الإسلام بالسيف

د. وهبة الزحيلي.. فقيه الاعتدال والحوار كذب بالوثائق التاريخية مقولات انتشار الإسلام بالسيف

يصادف هذه الأيام مرور 8 أعوام على رحيل العالم والفقيه الدكتور وهبة الزحيلي، رحمه الله.وننشر في هذه المناسبة مقالة تتحدث عن فكره في جريدة الخليج. ويذكر أن دار الفكر بدمشق بصدد إعادة طباعة كتابه القيم ( الوجيز في الفقه الإسلامي).

 

الدكتور وهبة الزحيلي واحد من العلماء الثقات الذين كانوا يُستفتون من العامة والخاصة، كلما نزلت بالمسلمين نازلة أو ثارت حولهم الشكوك والمشكلات وما أكثرها! فقيه من الطراز الأول وقانوني لا يشق له غبار، تولى أستاذية ورئاسة قسم الشريعة الإسلامية بجامعة دمشق، وعضوية عشرات المجامع الفقهية في سوريا والسعودية وبعض الدول الإسلامية، مارس الدعوة أكثر من خمسين سنة، وتجاوزت مؤلفاته الخمسين مؤلفاً، ولكن أكثر ما يميز كل عطاءاته الفكرية هو البحث العلمي الجاد عن حلول لمشكلات المسلمين اليومية، وتبني خط الاعتدال والحوار والوسطية في الفهم والفكر والسلوك.

لاحظ الرجل منذ خمسين سنة نزعة التقليد والتعصب عند بعض العامة وبعض الفقهاء فتبنى فكرة أن المذاهب الفقهية مدارس في الفهم، أو أنها اخوة في بيت وعائلة واحدة كما عبّر الكاتب الإسلامي الشهير محمد أسد، بيد أن الدكتور الزحيلي خاطب أهل الاختصاص مباشرة عندما رصد تاريخ المذاهب الإسلامية وأسباب الخلاف الفقهي ومظاهره، ودور التباين في فهم النص الشرعي، واختلاف الزمان والمكان وحدود الأخذ بالتقليد والاجتهاد والجديد في تطور الفتوى الشرعية.

الخلاف الفقهي

بين فقيهنا الكبير رؤيته العلمية التي تعالج إشكاليات الخلاف الفقهي في كلمات جامعة خلاصتها: ضرورة الإيمان بأن تباين الفهم هو من مرادات الله في النص الشرعي، فالله قرر أن الاختلاف من مرادات الله في الخلق: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. كما أن اختلاف فهم النص من مرادات الله في الخلق، فلو أراد الله أن يأتي بالنص على معنى واحد لفعل، ولكن كون النص يحتمل أكثر من معنى فهذا من مراد الله، حتى يعمل العقل المسلم، ويلبي النص حاجات البشر الى التطور والاختلاف، وليميز الله بين الطائعين والمترددين لأمر الله تعالى، أو كما أشار القرآن: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذكّر إلا أولو الألباب.

ميثاق إسلامي للوحدة

ولأن الدكتور الزحيلي كان يدرك أن الخلافات المذهبية ساهمت مع عناصر أخرى في حدوث حالة الضعف الحضاري الذي تعانيه الأمة، فقد اعتبر أن الوحدة الإسلامية الشاملة تبدأ بالحالة الذهنية والفكرية للأمة، وأن الوقت قد حان لوضع ميثاق إسلامي للوحدة.. ينبثق من وحدة العقيدة وتقارب المذهب، وتجانس الفكر، وتعاون المؤسسات التربوية والدعوية لتأكيد الأخوة الإسلامية على الأرض، وبين الرؤوس وعلى مستوى القرار السياسي والاقتصادي والعسكري الواحد.

وبرؤيته الفكرية العميقة، وقبل بروز هوجة رمي المسلمين بالعنف والإرهاب، تطرق الفقيه الكبير لعشرات القضايا الخاصة بأخوة العقيدة، وواجب الدعوة والجهاد، ومفهوم الأمة وما يترتب عليها، وموقع غير المسلمين في المجتمع المسلم، ودور المسلمين في مجتمع الأقليات في البناء المعنوي للأمة، وتقسيم المعمورة بين دار الحرب ودار الإسلام، ودار العهد كما فعل الفقه القانوني الإسلامي.

وقد أصل الدكتور الزحيلي مبررات الحرب في الإسلام والآثار التي تترتب عليها بشكل أبرز الوجه الإنساني الرائع للفقه الإسلامي ووسطيته وعدله وسماحته بما يفوق نصوص القوانين الدولية الإنسانية المعاصرة.

مصطلح الجهاد

وكذّب الدكتور الزحيلي بالوثائق التاريخية والحجج الشرعية مقولات بعض المستشرقين عن انتشار الإسلام بالسيف، وارتآها مناسبة مفتعلة لتهوين قوة المسلمين وتهوين رغبتهم في استعادة مصادر القوة من جديد. فالعنف البشري ليس مصدره الدين وليس مصدره الإسلام على وجه التحديد، ودعا الى أهمية تحرير مصطلح الجهاد من الناحية الشرعية وليس ردة فعل لمقولات سياسية. فالجهاد بمعنى حمل الجهد لدفع الضر الواقع على الإسلام وأهله عمل شديد الأهمية لأسباب شرعية ونفسية وسياسية وقانونية، ولكن معنى الجهاد عندنا يتسع ليصل الى نحو ثلاث عشرة مرتبة.

فالجهاد قد يكون بالحجة والبيان، كما قال الخالق: فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً أي جاهدهم بالقرآن، أو الجهاد بالمال والنفس. وقد يكون بمجاهدة النفس، أو بقول الحق عند كل سلطان جائر، وقد يكون بالإنفاق على من نعول كما في الوالدين كما في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عندما جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن في الجهاد، فقال الرسول: أحي والداك؟ قال الرجل: نعم. فقال الرسول: فيهما فجاهد.. واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن العمرة والحج جهاد على النساء لا قتال فيه. كما أن مجاهدة الشيطان والمنكرات والشهوات وأرباب البدع من الجهاد المشروع.

والدكتور الزحيلي عندما يوضح هذه المراتب فإنه لا يقلل من عظمة جهاد نشر الرسالة وحماية البشر، ولكنه يبعد المصطلح الإسلامي عن حصره في باب حمل السلاح ويوسعه ليشمل كل عمل جاد في دنيا الناس، كما يحمي به بعض المتنطعين من أصحاب التطرف الفكري الذين قد لا يرون الجهاد إلا في معنى حمل السلاح.

تأسيس علاقة التعايش

من المباحث المهمة التي أفاض فيها الدكتور وهبة الزحيلي مسألة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين داخل المجتمع المسلم، وقد لاحظ عالمنا الكبير أن هذه المسألة من القضايا التي أثار بها الخصوم بعض اللغط على دولنا المسلمة، وهو لغط يفهم الدكتور الزحيلي مبرراته السياسية ودوافعه الأجنبية، ولكن هذا اللغط لا يجوز أن يدور أبداً حول الرؤية الإسلامية للتعامل مع الآخر المسلم.

وفي سياق تأسيسه لعلاقة التعايش التي أسسها الإسلام وأرساها، أشار الى مبادئ الشريعة في حفظ روح الإيمان في النفوس باعتبار أن المجتمع المسلم مجتمع عقدي بطبعه. وفي هذا الصدد عمل الإسلام على حماية غير المسلمين من كل صنوف الاعتداء الخارجي، وقرر حماية الأبدان والأموال والأنفس، والأعراض، فضلاً عن توفير حرية الاعتقاد وتولي الوظائف والعمل والكسب، وممارسة الحق السياسي العام في سياق مبدأ قانوني مهم وهو الوفاء بالعهد والوعد والعدل: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يَجْرِمَنكُمْ شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.

رؤية تربوية

والدكتور وهبة الزحيلي رغم حماسته الشديدة للحلول الإسلامية، فهو شديد الموضوعية عند التعامل مع العطاءات البشرية العامة، لذلك يتبنى منهجاً وسطاً في رؤيته للمعارف والعلوم الإنسانية التي أنتجها الغرب بعقول أبنائه، ولكنه يتبنى ما أسماه الرؤية التربوية الإسلامية التي تستلهم حقائق الشريعة وتستفيد مما أنتجه العقل الغربي من معارف.

وهذه الرؤية التي دعا إليها الدكتور الزحيلي تحتاج الى ضوابط أربعة:

أولاً: تعاون التربويين، ورجال التعليم في العالم الإسلامي لتأسيس هذه الرؤية.

الثاني: قراءة الإنتاج العلمي الإسلامي قراءة تقييمية ونقدية تمكّن المفكرين من الإفادة من الحقائق وتجنب الطروحات غير المفيدة.

الثالث: حماية العقل المسلم من التطرف العلماني الذي نجده أكثر في الدراسات النفسية والاجتماعية، وانعكس في الترويج لنظريات مادية تمجّد الغرائز وتدنو بالإنسان الى الحيوانية أو تضع يده على طريق الإلحاد.

الرابع: التركيز على إنسانية المعارف والعلوم، فالواقع التاريخي والمعاصر يوضح أن الإنسان قد فقد كثيراً من إنسانيته جراء الصراع الاقتصادي والسياسي في القرنين الأخيرين. والمطلوب من أصحاب الرؤى الإسلامية أن يعيدوا هذه الرؤية الإنسانية المفقودة.

الأقليات المسلمة

وقد شارك الدكتور الزحيلي في أكثر من ملتقى ثقافي داخل العالم العربي وخارجه تناقش فكرة حوار الحضارات المطروحة تحديداً بين الغرب والعالم الإسلامي.

ولضبط هذه الفكرة قدّم مفكرنا الكبير إسهامات شرعية واضحة، تقبل الحوار من حيث المبدأ، وتؤصله من الناحية الشرعية، وتشير لأهميته من الناحية الواقعية. ومن إسهاماته الواضحة في هذا المجال حديثه الملح عن الأقليات المسلمة في الغرب تحديداً ودورها الثقافي المأمول في الحوار الفكري مع محيطها الثقافي.

وكان الدكتور الزحيلي، رحمه الله،  يعول كثيراً على الأقليات المسلمة المشاركة في التواصل الحواري مع الغرب، لأنها تملك رصيداً معرفياً يؤهلها لذلك، كما أن المسلم بحكم دينه ومعتقداته يسعى أينما كان للتقارب مع أتباع الديانات الأخرى، لأنهم ليسوا غرباء عنه، سواء لتناول الخطاب الديني لأهل الكتاب أو لمعايشته لأهل الكتاب في بيئته المسلمة، إذ لا توجد دار من ديار الإسلام إلا وتستوعب عدداً قل أو كثر من غير المسلمين.

وطرح الدكتور الزحيلي في هذا المجال إنشاء دائرة للحوار الإسلامي تجمع بين عالم الدين المتخصص والعقول المثقفة القادرة على الحوار وبعض رجالات السياسة والدبلوماسية.

إن التاريخ العلمي الطويل الذي امتلكه الدكتور وهبة الزحيلي ومعايشته للأحداث القاسية على المسلمين في القرن العشرين جعلاه يؤمن بحتمية العودة الحضارية لأمة العروبة والإسلام وهي عودة تقوم في تصوره على البعد العقدي كما تحتاج لبناء اقتصادي ضخم، ودور جماعي عماده الفرد المسلم، ومن هنا تحدث كثيراً عن العمل كفريضة إسلامية وعن التفكير وإعمال العقل، وعن ضرورة الاستفادة من قدرات المسلمين البشرية لإعمار الأرض. كما أوضح الوجهة الشرعية في الربا وآثاره المدمرة اقتصادياً ونفسياً وضرورة تبني تجارب البنوك الإسلامية التي انتشرت في الدول المسلمة منذ نصف قرن، كما أشاد بدعوات تعريب العلوم والمعارف والاستفادة القصوى من التجارب البشرية المعاصرة.

إن القاسم المشترك الأعظم الذي يغلب على عطاءات الدكتور الزحيلي عبر مؤلفاته الخمسين ومشاركاته المتوالية في الندوات والمجامع الفقهية، هو وضع الحلول الإسلامية موضع التطبيق، ورد ما يحدث في دنيا المسلمين الى أصول الدين وشرائعه، ورغم أن هذا النهج قد جر عليه بعض المتاعب ممن في نفوسهم شائبة حول الإسلام وأهله ولكنه بقي مستمراً في إسهاماته العلمية.  إلى ان انتقل إلى رحمته تعالى في 08/08/2015.

المصدر: 
جريدة الخليج