تخطي إلى المحتوى
ذكرى "معرض دمشق الدولي"... كيف تغيرت سوريا؟ ...الأول في تاريخ الشرق الأوسط مساحة ومضمونا ذكرى "معرض دمشق الدولي"... كيف تغيرت سوريا؟ ...الأول في تاريخ الشرق الأوسط مساحة ومضمونا > ذكرى "معرض دمشق الدولي"... كيف تغيرت سوريا؟ ...الأول في تاريخ الشرق الأوسط مساحة ومضمونا

ذكرى "معرض دمشق الدولي"... كيف تغيرت سوريا؟ ...الأول في تاريخ الشرق الأوسط مساحة ومضمونا

في الرابع من شهر سبتمبر/أيلول 2024 افتتح معرض "أكسبو سوريا" المخصص للصناعات المحلية بكل أنواعها، تزامنا مع الذكرى الـ70 لافتتاح معرض دمشق الدولي الشهير سنة 1954. وأصر القائمون على "أكسبو" على أنه ليس بديلا عن معرض دمشق الدولي، المتوقف منذ سنوات بل مكمل له، وأنه "عائد في المستقبل القريب"، مضيفين: "أي معرض كبير من هذا الحجم يعني المضي باتجاه التعافي".

وقد بقي المعرض الأصلي مستمرا منذ سنة 1954 ولغاية اندلاع الحرب السورية عام 2011، ليعود سنة 2016 ويتوقف مجددا مع انتشار وباء كورونا عام 2020. وكان قرار المعرض قد اتخذ في عهد الرئيس أديب الشيشكلي سنة 1953، وكان يهدف إلى جلب الاستثمارات والترويج للمنتجات الوطنية، ولكنه لم يفتتح إلا في 2 سبتمبر 1954، بعد أشهر من استقالة الشيشكلي.

 

وقد تغير الكثير في سوريا بين 1954 و2024، فمعظم الشركات الصناعية الكبرى المشاركة في المعرض الأول أممت في زمن الوحدة مع مصر سنة 1961، مما حولها من شركات اقتصادية رائدة ومربحة إلى شركات قطاع عام خاسرة.

أما بالنسبة للشركات والمصانع التي ظهرت منذ سبعينات القرن العشرين، فالكثير منها أغلق في سنوات الحرب الأخيرة لأسباب متنوعة، منها الفلتان الأمني، والعقوبات الأميركية التي منعت التعامل مع المصارف السورية. بعض هذه الشركات أغلق طوعيا بسبب هجرة أصحابها، أو بسبب تكلفة التشغيل في ظل شح الفيول والكهرباء، أو عدم قدرتها على التصدير بسبب قطع طرق سوريا إلى العالم الخارجي. والمعامل الضخمة التي كانت في حلب، عاصمة الصناعة السورية، نُهبت وفُككت، ونقلت إلى تركيا. وقدمت سوريا شكوى إلى الأمم المتحدة سنة 2014 متهمة تركيا بالقرصنة، وقالت إن الأتراك استولوا على أكثر من 720 معملا سورياً.

مرآة الاقتصاد الواعد

لم يخطر في بال القائمين على معرض دمشق الدولي سنة 1954 أن يكون مصير الاقتصاد السوري الواعد يومئذ هذا الانهيار المدوي بعد سنة 2011. فقد كانت الليرة السورية يومها متينة ومستقرة، تساوي 2.19 دولار أميركي. أما اليوم فقد وصلت إلى قرابة 15 ألف ليرة سورية للدولار. وسبق افتتاح المعرض الأول سنة 1954 سلسلة من القرارات الاقتصادية الأساسية، منها افتتاح مرفأ اللاذقية الذي حرر التجار السوريين من سماسرة "البور" اللبناني وأسعارهم، ووضع أساسات إنشاء مصرف سوريا المركزي الذي افتتح سنة 1956. وسُمح للقطاع الخاص بأن ينمو ويتوسع، ولم تتدخل الدولة إلا لسن القوانين وجباية الضرائب. ووصل عدد الشركات المساهمة في سوريا إلى 37 شركة، مجموع رأسمالها 70 مليون ليرة سورية (32 مليون دولار)، وبلغت قيمة الصادرات 171.5 مليون ليرة سورية (77 مليون دولار).

 
كان معرض دمشق الدولي هو الأول في تاريخ الشرق الأوسط، من ناحية المساحة والمضمون، وعدد الدول المشاركة فيه. وعُد عنوانا لتقدم الاقتصاد السوري، وقد بُنيت لأجله أجنحة دائمة على طول نهر بردى بجوار التكية السليمانية، مع قوس كبير على مدخله على شارع الرئيس شكري القوتلي، وصولا إلى ضفته الأخرى عند كازينو دمشق الدولي (مكان فندق الفور سيزونز اليوم). 
وشاركت في معرض دمشق الدولي الأول كبرى المصانع السورية، تتقدمها الشركة الخماسية الأكبر في سوريا، التي أُسست سنة 1946 وبلغ رأسمالها 15 مليون ليرة سورية (6.8 مليون دولار). كانت تنتج الزيوت النباتية، والسكر، والزجاج، والصابون الكيماوي، ولها محالج قطن في مدينتي حماة وإدلب، ولكن أهميتها كانت في معامل الغزل والنسيج، ومنتجاتها القطنية والحريرية التي غزت أسواق سوريا والوطن العربي. وتلبية لحاجاتها الإنتاجية الضخمة، أنشأت "الخماسية" محطة خاصة لتوليد الكهرباء، ووصل عدد عمالها وموظفيها إلى 4735 شخصا سنة 1958، كانت طبابتهم مجانية، ولهم راتب شهر إضافي في نهاية كل عام، مع 25 في المئة من أرباح الشركة توزع عليهم في نهاية السنة المالية من قبل العائلات الخمس المالكة للخماسية. وكانت "الخماسية" أول شركة في سوريا تُدخل المكيفات الحديثة إلى صالاتها، وأصبحت معلَما من معالم سوريا، تُدرَج زيارة منشآتها على جدول أعمال كبار ضيوف الدولة، مثل الملك حسين، والملك سعود بن عبد العزيز.

واحتفالا بقيام الوحدة سنة 1958، أُضيفت الألعاب النارية إلى المعرض، وحضر فعاليات تلك الدورة قرابة مليون ونصف المليون زائر. بعدها بسنتين، أمر الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء نصب تذكاري بمناسبة الدورة السابعة للمعرض، تكون واجهته الغربية مطلة على ساحة الأمويين، صُمم على شكل السيف الدمشقي الشهير- أو السيف الأموي- ووُضعَت في وسطه لوحات شفافة فيها أعلام الدول المشاركة، ظلت تزين الساحة حتى مطلع التسعينات. وقد تحول السيف إلى رمز من رموز المعرض، وكانت تصاميمه الأولى لمهندسين ألمان وسويديين، والنهائي فيه ثلاثة سيوف متدرجة في الأحجام والارتفاع، اختُصِرَت لاحقا بسيف واحد.

السومو والسينما في المعرض الأول

وضمت قائمة الدول المشاركة، إضافة إلى المجموعة العربية، كلا من الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وإيطاليا، والألمانيتين، ومعها كل دول المعسكر الشرقي، وجمهورية الصين الشعبية.
وكل دولة ابتكرت طرقا لجلب الزوار: البريطانيون قدموا بسكويتا للأطفال بالفراولة أو الموز. واليابانيون أقاموا عرضا لمصارعي السومو. أما الجناح السعودي فقد انفرد بعرض ستار باب الكعبة وحزام كسوتها. وكانت المنافسة الأشرس بين الجناح السوفياتي- الذي زين بالنجمة الحمراء وامتد على مساحة 40 ألف متر، وتكلف 500 ألف دولار، وكان يعرض السيارات وأسلحة "التشايكا" السوفياتية، وبعض المنتجات كالتبغ وملابس الأطفال- وفي المقابل، جاءت الولايات المتحدة باختراع جلب 100 ألف زائر من السوريين والعرب، وهو شاشة عرض "السينراما" التي كانت قد أطلقت قبل مدة قصيرة في مدينة نيويورك. أبهرت السوريين، وبقيت حاضرة في ذاكرتهم الجماعية لسنوات طويلة، وجاءت بتقسيم العرض السينمائي على ثلاث شاشات متلاصقة، لنقل أفلام مصورة بالعدسة نفسها عبر ثلاث كاميرات على شاشة معقوفة وضخمة، عند بدء العرض تبدو وكأنها صورة واحدة من آلة عرض واحدة. لإكمال الإثارة، رُبطَت المشاهد باثنين وسبعين مكبر صوت وُزعت في زوايا أرض العرض في الهواء الطلق. نُقلت هذه المعدات على متن طائرات عسكرية أميركية، ومعها مولد كهرباء بقوة 62 ألف كيلوواط، مقدم من شركة "وارنر بروس" الأميركية للإنتاج. وموسيقى العرض كان عنوانها "أميركا الجميلة" والمشاهد لشلالات نياغرا.

فيروز ومعرض دمشق

وفي الدورة الثانية سنة 1955 قررت إدارة المعرض إقامة مهرجان سينمائي على هامشه، سبق كل مهرجانات مصر وكان الأول من نوعه خارج أوروبا. أراد القائمون عليه أن يكون شبيها بمهرجانات كان والبندقية وكارلو فيفاري. افتتح في 8 سبتمبر 1955، وتضمن أفلاما مصرية وفرنسية، ثم جاءت الدورة الثالثة من المهرجان عام 1956، بمشاركة 21 فيلما طويلا و300 فيلم قصير. ولعل أبرز مفرزات المعرض كانت فنية وليست اقتصادية، فقد ارتبط الحدث الاقتصادي الأكبر بحفلات الفنانة اللبنانية فيروز، التي وقفت على خشبة مسرحه سنة 1960، بعد عشر سنوات من حفلتها الأولى في سوريا. غنت "سائليني يا شام"، من أبيات اختارها الأخوان رحباني من قصيدة طويلة للشاعر اللبناني سعيد عقل، نشرت في مجلة "الإذاعة" السورية سنة 1953. ومن هنا انطلق تقليد دمشقي طويل بين فيروز والمعرض، بحيث تكون إما حاضرة لإحياء حفلاتها بصورة شخصية، أو تبث أغنياتها عند المغيب في كل أرجاء المعرض، حتى المساء عندما تستبدل بها أغنيات أم كلثوم. 
افتتحت فيروز حفلة عام 1961 بأغنية "يا ربا"، المأخوذة من قصيدة نظمها الأخطل الصغير بمناسبة زيارة الرئيس شكري القوتلي إلى بيروت سنة 1947، وفي دورة عام 1962، غنت "قرأتُ مجدك" لسعيد عقل، التي كتبت خصيصا لحفلة معرض دمشق الدولي. واستمر تقليد افتتاح المعرض بأغنية مخصصة لدمشق، باستثناء سنة 1968 يوم غنت لفلسطين، وسنة 1975 يوم غنت لبيروت مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية.

المصدر: 
مجلة " المجلة"