تخطي إلى المحتوى
رجل بلا قلب رجل بلا قلب > رجل بلا قلب

رجل بلا قلب

حينما أعلن الطبيب أنني رجل بلا قلب، تمثلت أمامي صورة حبيبتي، وهي تمضي بعدما صرخت في وجهي وأعلنت ما ذهب إليه هذا الطبيب.

لكنه ـ الطبيب لا أحد غيره ـ لم يتركني، كما تركتني حبيبتي، أو لنقل، لم يعبس بوجهي، ويطلق وابلا من الصراخ جهتي، ويمضي للبعيد دون التفاتة نحوي، بل وجد أن اكتشافه هذا فريدًا وانجازًا ما بعده انجاز وسيسجل اسمه بارزًا كونه المكتشف الأول ـ بعدما يمحو بالتأكيد حق حبيبتي في هذا الاكتشاف المثير للغرابة ـ، واعتباره أول من شخصّ حالة إنسان يعيش بلا قلب.

الطبيب بعدما توصل لاكتشافه المثير ـ مرة أخرى هو اكتشاف حبيبتي التي تركتني قبل زيارتي الطبيب ـ، همهم في ذاته وتخيل بريق الشهرة والمجد الذي سيعيشه بعدما يعلن للعالم أنه توصل إلى نتيجة ان الإنسان بإمكانه ان يعيش بدون قلب، بل ويتحرك ويأكل ويشرب ويتنفس ويشعـ...، أنتبه الطبيب لكلمته الاخيرة، وسألني: هل تشعر؟.

- أشعر بماذا؟

- بأي شئ؟

- مثلا؟

- هل تحزن و تبكي.. وهل..؟

- ....

لم أكن أملك إجابة لسؤال الحزن والبكاء، ولم أملك إجابة لسؤال المشاعر والأحاسيس التي أراد الطبيب أن يتوصل إلى نتيجتها، ما أعرفه أن حبيبتي تركتني، وصرخت في وجهي: أنت بلا قلب، كانت قد فرغت للتو من سكب عبارات الحب والهيام في صدري، ألقت عليّ كلمات الغزل والعشق، ولما لم تجد الصدى، عبست، ثم أدبرت، ونظرت، ثم عادت وبسرت، وانتظرت.. ولما يئست قامت وصرخت: أنت بلا قلب.

بكت حبيبتي وهي تمضي بعيدة عني، بكت كما لم تبكِ من قبل، كان بكاؤها كرضيع فقد أمه وهو ينتظر أن تضمه لحضنها، وتدثره ثم تلقمه حنانها، كانت تجهش في البكاء وهي تسابق خطواتها، حتى اختفت مع حبيب آخر قد يضمها إلى صدره، كما لم أفعل أنا من قبل.

كنت في تلك اللحظة في مكاني، لم أبد أي حركة أو تعليق، كل ما في الأمر أنني تحسست صدري أبحث عن آثر لشئ ما أفتقده، لا أشعر به، ولا أجد له معنى في حياتي السابقة، تصورت أن كل ما مر بي من أزمات وأحداث سببها الأول غيابه عني وابتعاده عن خطواتي، خلت لبرهة من الزمن أن حياتي التي مضت لم تكن ذا معنا أو قيمة، فكل من عرفتها تركتني بعد أن تعيد رسم قصة حبيبتي الأخيرة، كل من قابلتها كانت تطلق شرارة حبها نحوي كنار الهشيم، ثم ما ان تجد إلا السراب لتعيش فيه، تنتحر وتتلاشى من الوجود.

كنت اتحسس صدري عله يرشدني إلى إجابة تقنعني بما حدث، بحثت يمنة ويسرة، والتففت إلى الأعلى والأسفل، ـ تمامًا كما فعل الطبيب فيما بعد ـ، لكنني لم أتوصل إلى نتيجة حتمية لما حدث، هذه التي تركتني ولا أكاد أعرف اسمها، قالت حينما التقتني للمرة الأولى: نادني يا حبيبتي، وهكذا كانت بلا اسم أو كينونة سوى حبيبتي، حتى أنني انطقها كما انطق كل الأسماء التي صادفتني.

حينما وجدت بعض من حقيقتي في الوجود ذات مرة، وشعرت أنني كائن حيا أعيش وأتنفس كما تتنفس الكائنات من حولي ـ هذا اكتشاف آخر للطبيب المغوار ـ، اطلقت صرختي الأولى في عالم الوجود، لكن حقيقتي تلك غابت بعد برهة اذ لم أعِ بعدها من تلقف هذه الصرخة ومن احتضنها، ولم أنتبه يومها إلى ثمة حضن ضمني لينتشل صرختي الأولى، فقط ادركت بعد حين أنني كائن كبقية الكائنات، ولا تسأل عن مغزى لماذا أنت هنا ولم تكن هناك.

أعرف أنني أملك حيرة كبرى، وأعرف أن تساؤلاتي التي ولدت للتو، أو التي قدر لها الولادة الأولى لا تزال بدون إجابة، لكن السؤال الأكبر الذي أبحث عن إجابة له هو قلبي الذي لم يعد قلبي، أو هذا الكائن الذي التصقت كينونتي بكينونته، فاصبحت رديفا لذاته متماثلا لكل حركاته وسكناته.

هكذا أنا.. سؤال بحجم هذا الكون.. بحجم الدهشة التي ظهرت في كل من قابلتها واطلقت زفرتها قبل أن تغادرني، وبحجم الإنجاز الذي تصور الطبيب الماثل أمامي ـ بزعم معرفته لكل شئ ـ أنه حققه، سؤال يكبر حينًا ويختفي حينًا آخر.

حين قررت الذهاب إلى الطبيب للبحث عن قلب أعيش به من أجل حبيبة قادمة لا تتركني، كنت أقلب أيامي التي خلت وسلفت، بحثت عن سؤال الوجود، لكنني لم أدركه، كان أكبر من ذاتي، وأكبر من أن يجيب عليه رجل بلا قلب.

- القلوب لا تباع ولا تشترى.

قالها لي الصيدلي الذي وقفت عنده قبل ان أيمم شطري جهة الطبيب، وأضاف: لكن قد تكون مصابًا بداء في القلب، وما أكثر الأمراض التي تصيبه، أذهب إلى الطبيب وعد لي بنتيجة الكشف.

لكنني خرجت من عند الطبيب بدون نتيجة كشف، قال الطبيب لي: ان نتيجة الكشف هذه ستضيع حقه التاريخي، وستغري الطامعين والمتسلقين والمتربصين وأعداء النجاح ـ وكل الكلمات العظيمة التي تقال للذين ينشدون المجد على أكتاف أمثال هذا الطبيب ـ، وستبعد أضواء الشهرة وبريقها عنه، وهو من دُهش وأرتد على ادباره بعدما أيقن أن الجالس أمامه ليس سوى إنسان يعيش ويتحرك ويأكل ويشرب وقد يشعر، لكنه بلا قلب.

خرجت ولا أدري أين أهيم بوجهي وأيمم شطري، وألوذ بحثًا عن حبيبة لا يهمها ان كنت بقلب أو بلا قلب، وألست جسدًا يمشي على الأرض، يجر خلفه روحا هائمة!!.

أو أليست حياتي كما الكائنات من حولي!، هل أكون الوحيد من بينها من يعيش بلا قلب؟.

قال لي رجل فرغ للتو من صلاته ونسكه: أو أمات قلبك يا ولدي؟

قلت له: وهل كان حيًا حتى يموت؟

تمتم الرجل ببضع كلمات وقال لي: عد إلى الله تعالى.. عد وسيحيا قلبك من جديد.

ومضى دون ان يشرح لي طريق العودة هذه، كيف أعود وأنا هائم لا أملك خيار وجودي ولا أملك إجابة لسؤالي المتوالد أسئلة، وحيرة تسكنني حتى الأعماق.

ومضيت أسأل وأسأل، قال لي عراف نصحني أحدهم بزيارته: ان قلبك في العالم الخفي موصود.. موصود.. موصود.

سألته: وكيف السبيل للوصول إليه؟.

قال: أو ألم أقل انه موصود.. موصود.. موصود‍‍‍.

وقالت إمرأة طاعنة في السن: أبحث عن إمرأة تجد قلبك لديها.

قلت لها: ولكن النساء اللواتي عرفتني مضين للبعيد؟

قالت: هن عرفناك.. فهل عرفتهن أنت؟

وقال لي رجل ثمل للتو: الكأس وحده من يسرق القلوب ويسلب العقول.

قلت له: فقدت قلبي.. فهل أفقد عقلي!!.

وكان السؤال الحائر يتردد بين الكائنات المتباينة والمتناقضة.. العارفة والجاهلة.. الصادقة والكاذبة.. تلك الكائنات التي تناثرت هنا وهناك، تدب في الأرض بحثًا عن إجابة أو طريقًا تهتدي إليه، وربما بحثًا عن إجابة سؤال كما سؤالي هذا..

وجدت ذاتي مندسًا بينهم، وتهت معهم في زحمة الحياة.. جسدًا وروحًا هائمة تبحث عن قلب ضائع.

المصدر: 
فيسبوك