لا نروم جواباً بقدر ما نسعى إلى تنشيط السؤال، بل جملة من الأسئلة التي تساءل هذه السيرة التي يُطّيفها الروائيون في متون رواياتهم، فالسيرة -بهذا المعنى- هي أكثر من سيرة، ثمة المكان، الحلم، وما يحلم به النص وما يفكر به الأدب، وما تفكر به الكتابة، لتتسع الدلالة أبعد قليلاً مما قالته ذات مرة الأديبة الكبيرة غادة السمان من أن «الرواية سيرة مقنّعة» لتصبح السيرة بذاتها رواية أخرى، وكأنها تأني من المستقبل ولا تذهب إليه فحسب.
لا ينطوي الأمر هنا على محض استدعاء ذاكروي بأبعاد عاطفية بعينها، أو محض يوميات متواترة يسعى الكاتب في إثر تفاصيلها الكثيفة والملتبسة أحياناً، هي كون دلالي تشتبك فيه الحياة ومغامرة الكتابة على نحو يجعل من المتلقي شريكاً في هذه المغامرة، بل صاحب الكلمة التي لا تُقال فيها، على اختلاف ثقافة هذه الكلمة وبواعثها الخفية. فلمَ يذهب الروائيون في جُلّ أعمالهم إلى استبطان سيرهم تطييفاً أو ايحاءاً دون أن يجهروا بها دفعة واحدة؟
نعثر على غير جواب يعني ثقافة النص الروائي الذي لم يعد «صافياً» بما يكفي وبالمعنى الايجابي هو نص مشتبك إن جاز التعبير، مع ضراوة الأحلام وقول المسكوت عنه، إذ إن رواية المستقبل هنا ستسمح للمبدع بأن يقول ما يعني ممكنه الجمالي والوجودي الذي تستطيعه اللغة بكثافة إشاراتها واتساع مجازاتها، حتى تستحق السيرة هذه الجاذبية القصوى في قراءة المحلوم به والمشتهى، والأدل كيف نعثر على سر ما، يعني دورات حياة المبدعين أبعد من طقوسهم وارتطام أحلامهم بالواقع، وسيعني أيضاً قدرة هذا المبدع على أن يقول ما يجرح لغته ويقشر أحزانه الأخرى، ويُدلّل على حرية ما وسيتفاوت استقبال هذه الحرية «من اعترافات روسو إلى اعترافات محمد شكري» وما بينهما من اعترافات ستحمل طابع الالتحام ما بين الراهنية والمستقبلية، حتى يفوز التأويل المنشود بإحراز المسافة وضبط النسبة، ما بين المتخيل والواقع، نقرأ في السير حيوات أخرى يحلم بها المبدعون، ولعلهم أرادوا أن يظلوا أكثر في الذاكرة قبل أن يذهبوا إلى أبديتهم المنتظرة.