ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، بقدر ما هي سفرٌ أعمق، رحلةٌ إلى الذات عبر مساحات التأمل والتدبُّر. فالسفر الحقيقي قد يبدأ بين دفتي كتاب، حيث تتحوَّل الكلمات إلى بواباتٍ تفتح عوالمَ موازية، أو تحت ظلِّ شجرةٍ عتيقة، نستمع فيها إلى حكايات الريح وأسرار الأوراق. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، قد يكون السفر مغامرةً في عالم العصافير، نتعلم منهم حرية التحليق فوق التفاصيل الصغيرة، أو رحلةً عبر كثبان الصحراء، حيث تُخبرنا الرمالُ بقصص الزمن والانسياب الأبدي. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، وربما يكون السفر مجرَّد جلوسٍ على شاطئ البحر، نراقب فيه الموجَ وهو ينسج حوارًا أزليًّا مع الصخور، أو انسيابًا هادئًا فوق ماءٍ نقيٍّ، نراقب خلاله النوارسَ وهي تخطّ لوحاتٍ في الهواء بجناحيها. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، في كلِّ هذه اللحظات، لا نغادر المكان بقدر ما نغور في أعماقه، نكتشف أن السفر الحقيقي ليس بالضرورة تنقُّلًا جغرافيًا، بل هو قدرةٌ على رؤية الكون بعينٍ متجددة، حيث تصبح العزلةُ فنَّ الاستماع إلى الذات والعالم في آنٍ واحد. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، السياحة بتنوعها، تمكنني من أن أرى العالم خارج التنميط الثقافي؛ تزيح عني النظارات الأحادية، وتتيح لي التفاعل مع الحضارات لا كزائرة ومستمعة ومتأملة. في الأسواق، في العروض المسرحية، في شوارع المدن الكبرى أو قرى الأطراف المنسية، هناك دائماً قصة تنتظر من يكتبها. وفي كل متحف أدخله، أجدني مع قراءة التاريخ، أتأمله كجزء من الحاضر. تتجاور الأزمنة في ذهني، ويعاد تركيب الزمن داخل العمل الأدبي أو السينمائي كما يعاد في المتحف تركيب القطع لتصنع سردية كاملة. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، السفر يفتح أبواب التلقي بنضج. يمنحني الحصافة في أن أقرأ كتباً لا تنتمي إلى سياقي، وأشاهد أفلاماً تكسر التوقعات، وأتابع عروضاً مسرحية تقلب البنية التقليدية رأساً على عقب، فأجدني أمام تحدٍ لذائقتي، وأمام اختبار حقيقي لمرونتي النقدية. وهنا تماماً يكمن سر الإثراء: ألا أنغلق على مألوفٍ مريح، بل أن أمارس النقد بتجدد، بالتماسٍ مع التجارب الحيّة، من قراءات رحبة بالعمل المقدم بتنوع مشاربه وتفاصيل ثقافاته.
ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، ولأن القراءة جزء لا يتجزأ من تكويني، فإن السفر يُعيد توجيه هذا الفعل باتجاه أكثر اتساعاً. أقرأ لأتعلّم ولأتفاعل. أقرأ لأجد نفسي في الآخر ربما، ولأستخرج من بين السطور جُذور أفكار، أو ملامح حكاية، أو لحظة شعورية تُستنبت منها قصيدة أو سرد أو تأمل بصري في عمل نقدي. القراءة أثناء السفر تحمل طعماً مختلفاً، لأنها لا تتوقف عند الكتاب، بل تُكملها الشوارع، الجدران، الإعلانات، الوجوه، وحتى صمت الفنادق البعيدة. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، ولعل الأهم، أن هذا النمط من الحياة ، في الترحال، في التأمل، في اللقاء مع فنون العالم ، لا يبقيني فقط في تماسٍ دائم مع الحياة، بقدر ما يعيد شحن الهمّة في العطاء. لا كتابة بلا أخذ، ولا إنتاج بلا تأمل، ولا تجدد بلا انفتاح. حين أعود من أسفارٍ كهذه، أعود بروحٍ لا تزال تكتب حتى قبل أن تلمس أصابعي لوحة المفاتيح. أعود محمّلة بذخائر من أسئلة ومشاهد وإيقاعات لغوية وموسيقية وصُوَر تتسرّب إلى نصوصي المقبلة وتغنيها. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، الكاتب صانع النص وقبلاً هو قارئ وجود، ومسافر في الذات والآخر، ومستكشف في الحضارات والثقافات. والسفر، في هذا السياق، ليس إلا تمهيداً لخلق أكثر نضجاً، وكتابةٍ أكثر عمقاً، ونقدٍ أكثر إنصافاً. ليست العزلة الاختيارية انسحابًا من العالم، وفي هذا كلّه، تتحقق جدلية الأخذ والعطاء، وتُثمر السياحة ،حين تُخاض بوعي ، وعياً إنسانيًا أكثر رحابة، وثقافةً أكثر تسامحاً، وكلمةً تنتمي للعالم بقدر ما تنتمي لصاحبها. السياحة، إذن، ربما ملاذًا عابرًا، لكن أثره حجر أساس في معمار الإبداع الذي ننتمي إليه ونبنيه كلمةً بعد أخرى.