لا تجسّد الشاعرة والناقدة والأكاديمية والمترجمة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي التي ترجّلت عن دنيانا قبل أيام قليلة في العاصمة الأردنية عمّان عن عمر ناهز خمسة وتسعين عاماً، مجرّد شخصية فردية لها منجز ضخم في الأدب والثقافة والترجمة، بل هي حالة من الحالات النادرة التي تمثّل مشروعاً مكتمل الأركان، له أهدافه وأحلامه وظلاله التخييلية وطموحاته اللانهائية، وله صفة المؤسسية وأدوات العمل المنهجي، في الآن ذاته.
ولعله من المدهش أن كلمات قليلة من ديوانها "العودة من النبع الحالم" (1960)، الذي يعكس انفلات قصيدة الشعر الحر وتدفقها المثير في ذلك الوقت، هي كلمات بإمكانها أن تبلور ملامح مشروع سلمى الخضراء الجيوسي في خدمة القصيدة العربية، والإبداع العربي برمّته.
وتقول سلمى الخضراء في قصيدتها تلك "أَعَبَرْنا الحدود؟!/ قد عبرنا/ أيعلم عشاقنا، كم صلاة تلونا؟/ وكيف استطالت إلى الضوء أشواقُنا؟/ كم هدمنا على دربنا من سدود؟/ نحن جُزنا الحدود إلى عالم، لا ينام به العاشقون/ وعبرنا السياجات من نبعنا الحالم/ حيث كان هوانا الرضا والسكون/ ودخلنا إلى منبع النار".
إن مشروعها، في جانبيه: الشعري الخاص والثقافي العام، ينهض بوضوح واختصار على الدينامية والحيوية والتمرد، وتحطيم القيود والأطر السائدة والسياقات الجاهزة والمتوقعة، وتجاوز الأسوار والأسقف وسائر أنساق الحواجز المادية والمعنوية، والتوحد مع الضوء المتفجر الشارد في انطلاقاته الواعية وغير الواعية حتى أقصى غايات التصوّر، ونبذ الجمود والخمول والسكينة والاطمئنان، ومعانقة الخطورة والاكتشاف والطاقة الإيجابية والجنون، وملاحقة الشرارات المشتعلة في كل مكان فوق صهوة القلق.
ومن الإيجاز الشديد، ننتقل إلى تفصيل أرحب قليلاً لمشروع سلمى الخضراء الجيوسي، بجناحيه الأساسيين: ثورة الشعر العربي، وتمكين الحضور الإبداعي والثقافي العربي وربطه بتيار الحضارة العالمية المعاصرة.
الثورة الشعرية
في ما يخص ثورة القصيدة الجديدة "التفعيلية"، أو حركة "الشعر الحر"، فقد انخرطت سلمى الخضراء الجيوسي من جهة في مواكبة هذه الحركة كشاعرة، ونشر قصائدها في المجلات العربية التبشيرية والرائجة مثل "الثقافة" و"الآداب" و"شعر" (التي احتضنت كذلك قصيدة النثر في وقت لاحق)، وتجميع نصوصها في دواوين شعرية، منها ديوانها الأبرز "العودة من النبع الحالم"، وصارت واحدة من المتحققين في قلب هذه الثورة الشعرية التي فرضت وجودها على المشهد.
ومن جهة أخرى، بالتوازي مع حفرها اسمها كشاعرة وسط كوكبة من شعراء مرحلة الوسط وما بعد الرواد، ومنهم مواطنتها فدوى طوقان وأدونيس ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وغيرهم، فإن سلمى الخضراء الجيوسي كباحثة وأكاديمية قد نأت بنفسها عن الصراعات التي تبدد الوقت وتشتت الجهد، سواء بين التيار الرجعي والآخر التقدمي، وبين التقدميين بعضهم والبعض، خصوصاً الصراعات المتعلقة بالأسبقية التاريخية والريادة في كتابة الشعر العربي الحرّ.
اتسمت نظرة الجيوسي بالليبرالية والتسامح، وتقبّل وجهات النظر المتنوعة، والاعتقاد بأن أي شكل ثابت سيصبح يوماً ما شكلاً قديماً، لأن كل شيء يتغير. كما أنها رفضت الأحكام المطلقة، التي اعتبرتها ضد طبيعة الآداب والفنون عموماً.
وفي مباحثها التنظيرية والتطبيقية، كما يوضح عنوان أحد كتبها اللافتة "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، انشغلت بالظاهرة الشعرية الجديدة نفسها، وخصائصها، ونماذجها، وتياراتها، وجمالياتها، وتأصيلها، ولم تتطرق إلى معركة الريادة التي انساق إليها الكثيرون إلا في صفحات قليلة من كتابها، الذي بلغت فصوله ومباحثه قرابة تسعمئة صفحة.
وغالباً ما كان يأتي انجراف النقاد والشعراء إلى تلك المعركة نتيجة لأسباب انحيازية قُطرية، أو لعدم وجود تعريف دقيق لقصيدة الشعر الحرّ الناضجة المكتملة. فأحمد عبد المعطي حجازي مثلاً ينفي الريادة عن العراقيين: نازك الملائكة صاحبة قصيدة "الكوليرا" الشهيرة (1947)، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وينسبها إلى إرهاصات المصريين لويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي أحمد باكثير (رغم كونها محاولات بدائية). والمصري عبد المنعم عواد يوسف يرى أن الريادة مصرية على أيدي خليل شيبوب ومحمود حسن إسماعيل وباكثير. واللبناني السوري يوسف الخال يرى أن ريادة الشعر الحر هي من حق الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا.
لم تنشغل سلمى الخضراء الجيوسي بتفاصيل مثل هذه السجالات كغاية بحثية، بقدر ما فتحت ذراعيها للغوص المباشر في أعماق الكتابة الشعرية ذاتها، وتحليلها، وتقييم جوهرها النقي.
وهكذا، فلم يمنعها تحمسها لقصيدة التفعيلة من رفض محاولات التجديد في الإطار العمودي التقليدي الموروث، باعتبار أن الأوزان الكاملة مهارة ينبغي احترامها.
كما أنها لم تخاصم الرومانسية في نصوصها، ولم تناصب قصيدة النثر العداء، رغم خلوها من الإيقاع الظاهري المسبق والمتوقع، واعتبرتها في كتابها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" صيغة من صيغ الحداثة الشعرية العربية تستحق التنظير والتأصيل والدرس المتأني، بداية من المصطلح، حتى أعمق تجلياتها.
الحضور الثقافي
أما "تمكين الحضور الإبداعي والثقافي العربي وربطه بتيار الحضارة العالمية المعاصرة"، أو الجناح الثاني في مشروع سلمى الخضراء الجيوسي الطليعي، فهو يفيض تقدمية وحركية وحداثة وتمرداً وحلماً بالتغيير والتطور والتنوير وإثارة الحراك والجدل، شأنه شأن الجناح الأول "ثورية القصيدة".
ومن أهم تمثلات هذا الجناح الثاني عمل الجيوسي الدؤوب والممنهج كأكاديمية ومترجمة غزيرة الإنتاج، خصوصاً بعد حصولها على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة لندن. فقد درّستْ في الكثير من الجامعات بالسودان والجزائر والولايات المتحدة الأميركية.
وأسست مشروع "بروتا" لترجمة الأدب والثقافة العربية إلى العالم الأنغلوسكسوني في عام 1980، حيث أصدرت عشرات المترجمات المهمة في الأدب والثقافة والسير الشعبية والحضارة العربية الإسلامية.
وفي إطار مشروعها الكبير، فإن الكثير من مؤلفات الجيوسي ومترجماتها يحمل سمة الموسوعية، كما في إصداراتها عن "أدب الجزيرة العربية" و"الشعر العربي الحديث" و"الأدب الفلسطيني الحديث" و"المسرح العربي الحديث" و"الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" و"القصة العربية الحديثة"، التي قدّمت فيها للقارئ الغربي وجوهاً ثرية وعريضة تمثل الإبداع العربي والثقافة العربية عبر تاريخها.
كما ترجمت الجيوسي إلى الإنكليزية كتباً منفردة لمبدعين ومفكرين عرب، من أمثال محمد عابد الجابري، ويوسف القعيد، وإبراهيم نصر الله، وحنا مينه، وليلى الأطرش، وإبراهيم الكوني، وسحر خليفة. وترجمت دواوين للشعراء أبي القاسم الشابي، ونزار قباني، وفدوى طوقان، ومحمد الماغوط، وآخرين. وترجمت عن الإنكليزية مؤلفات عدة للويز بوغان، ورالف بارتون باري، وأرشبيلد ماكليش، ولورنس داريل، وغيرهم.
ولقد أهّلها دورها المؤسسي هذا لحصد الجوائز الدولية المرموقة، ومنها جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي لمؤسسة سلطان العويس، ووسام اتحاد المرأة الفلسطينية الأميركية للخدمة الوطنية المتفوقة، ووسام القدس للإنجاز الأدبي، ووسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني، وغيرها.
ومن حيثيات منح الجيوسي جائزة مؤسسة العويس دورها البارز في دعم تأثير الثقافة العربية في المجتمعات الغربية، خصوصاً من خلال مشروع بروتا للترجمة، ونشر موسوعات الشعر والأدب العربي بالخارج. ومن حيثيات فوزها بجائزة الشيخ زايد للكتاب، عطاؤها الممتد لسنوات طويلة، وريادتها غير المسبوقة في التصدي منفردة للتعريف بالثقافة والحضارة العربية والإسلامية في الغرب، وإعادة الاعتبار إلى هذه الثقافة، حيث كانت سلمى الخضراء الجيوسي "مثل الشجرة، التي تمد جذورها في الذاكرة الفلسطينية والعربية، وتصل بأوراقها إلى الثقافة العالمية"