تخطي إلى المحتوى
شاهدة على تألق الحضارة العربية الإسلامية إشبيلية.. جوهرة الحواضر الأندلسية شاهدة على تألق الحضارة العربية الإسلامية إشبيلية.. جوهرة الحواضر الأندلسية > شاهدة على تألق الحضارة العربية الإسلامية إشبيلية.. جوهرة الحواضر الأندلسية

شاهدة على تألق الحضارة العربية الإسلامية إشبيلية.. جوهرة الحواضر الأندلسية

أجمع جل الدارسين لتاريخ وتراث الحواضر الأندلسية، على أن مدينة (إشبيلية) لها سحر خاص، تستمده من معالمها الأثرية والمعمارية، التي تعود بمجملها إلى أيام الوجود العربي الإسلامي فيها، وكذلك من تاريخها العريق الذي بصمته العديد من الحضارات، إلى جانب دماثة أهلها، وأجوائها الحميمة التي لا تشعِر أحداً بالوحدة أو الغربة، الشيء الذي يجعلها جوهرة سياحية تبهر الزائرين، ويقول في هذا الصدد الروائي الإسباني الشهير (أنطونيو غالا)، الذي قرر منذ سنوات أن يمضي ما تبقى من حياته في هذه المدينة: (يعتقد أهل إشبيلية أنها أجمل مدينة في العالم، وأخشى أنهم قد يكونون على حق).

تقع مدينة (إشبيلية) في جنوب غربي شبه الجزيرة الإيبيرية، على ضفاف نهر (الوادي الكبير)، وتبلغ مساحتها نحو (140) كيلومتراً، وهي تصنف كرابع مدينة إسبانية من حيث عدد السكان، بعد كل من بلنسية وبرشلونة ومدريد، بساكنين يزيد تعدادهم على (688.000) نسمة، حسب إحصاء (2018م)، وفيما يخص مدلول اسم إشبيلية، فهو منحدر من الكلمة الفينيقية (إشفيلا) ومعناها (الأراضي المنخفضة).

أما تاريخها؛ فقد دأب المؤرخون تقسيمه إلى ثلاث مراحل، تمتد المرحلة الأولى من نشأتها إلى غاية دخول المسلمين إليها، حيث أكدت مجموعة من المصادر التاريخية والأبحاث الأثرية، أن تأسيسها يرجع على الأقل إلى (2000 سنة ق.م)، على يد بعض السكان الإيبيريين، ثم بعد ذلك توالت عليها عدة حضارات، من قبيل: الفينيقيين والإغريق والقرطاجيين، وفي سنة (205 ق.م)، أصبحت تابعة للإمبراطورية الرومانية، وبعدها أخضعها (الوندال) انطلاقاً من سنة (411م)، ثم صارت مقراً لملوك القوط الغربيين ما بين (594-441م)، وكانت في عهدهم من أهم المراكز المسيحية في إسبانيا، واستمرت المدينة تحت حكمهم إلى أن دخلها العرب المسلمون.

وهنا تبدأ المرحلة الثانية بدخول القائد الأموي موسى بن نصير إليها في سنة (94 هجرية/ 713م)، بعد حصار دام عدة شهور لحصانة أسوارها ومناعتها، وفور إخضاعها؛ اختارها لتكون عاصمة لولايته، وذلك لوقوعها على مقربة من الشاطئ المغربي، حيث توجد قواعد الجيوش الإسلامية، ولارتباطها في ذات الوقت بيسر ودون عوائق تذكر، بسائر المدن الأندلسية، لكن انطلاقاً من سنة (98 هجرية/ 717م)، ستتراجع أهمية مدينة إشبيلية، بسبب تحويل العاصمة إلى قرطبة.

وبعد الفتح العربي الإسلامي، توالى على المدينة عدد من الولاة الأمويين، الذين انبعث بينهم الصراع القبلي، وأصبحت البلاد مسرحاً للفتن والفوضى، ومرتعاً خصباً للاضطراب، حتى دخلها عبدالرحمن بن معاوية، الذي أنقذها من الصراعات والخراب، وكوّن دولة عربية إسلامية تعد امتداداً للدولة الأموية، ونزلت بعد هذا الاستقرار العديد من القبائل العربية فيها. لكن بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس، ستبدأ مرحلة جديدة عرِفت تاريخياً بحقبة (ملوك الطوائف)، حيث انفرد كل ملك بمدينة، فكانت إشبيلية من نصيب أبوالقاسم محمد بن عبّاد،
الذي أسس فيها دولة بني عباد، انطلاقاً من عام (433هجرية/1042م)، وقد شهدت إشبيلية في عصرهم ازدهاراً لم تشهده من قبل، ووصل بها الأمر إلى أن أصبحت أعظم حواضر إسبانيا الإسلامية.

إلا أن حكم بني عباد لم يدم طويلاً، بعدما قضى عليهم المرابطون في سنة (484هجرية)، الذين ستعرف المدينة في عهدهم تراجعاً كبيراً، إلى أن دخلها الموحدون عام (549 هجرية)، وأعادوا لها بريقها باتخاذها عاصمة ثانية لدولتهم بعد مراكش، وشهدت في عهدهم ازدهاراً عمرانياً واقتصادياً وثقافياً كبيراً.

كما أن هزيمة الموحدين أمام الإسبان في معركة العقاب سنة (609 هجرية/ 1212م)، جعلت إشبيلية ومعها الأندلس، تدخل في مرحلة ضعف وانحطاط، وتزايد الأطماع المسيحية للسيطرة عليها، وهو ما سيتأتى لملك قشتالة (فرناندو الثالث)، الذي دخلها سنة (645 هجرية/ 1248م)، وينهي الوجود العربي الإسلامي بها، الذي دام أزيد من خمسة قرون، وبذلك بدأت المرحلة الثالثة من تاريخ إشبيلية الإسبانية، التي تمتد من القرن الثالث عشر الميلادي إلى عصرنا الحاضر.

تزخر مدينة (إشبيلية) بالعديد من المعالم التراثية، التي يعود معظمها للحضارة العربية الإسلامية، وبعضها الآخر لحضارات أخرى تعاقبت على المدينة، وفي مقدمة ما خلفه المسلمون؛ نجد برج (الخِيرَالْدَا)، الذي يعد كواحد من أروع الأبراج الأثرية في العالم، وأحد أيقونات مدينة إشبيلية ومن معالمها الرئيسية، حيث يبلغ ارتفاعه نحو (97) متراً، ويتميز بتصميمه الرائع، الذي يمزج بين الفنون المعمارية الرومانية القديمة، والفنون الأندلسية الأموية، ويعود تاريخ هذا البرج إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وكان يمثل آنذاك مئذنة المسجد الكبير لإشبيلية، الذي بُني بأمر من الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، لكن مع نهاية الوجود العربي الإسلامي بالمدينة، سيحول الإسبان هذا المسجد إلى كاتدرائية، والمئذنة إلى برج، والذي وضعته اليونيسكو على لائحة التراث العالمي سنة (1987م).

ومن معالمها الإسلامية أيضاً،
(برج الذهب)، الذي هو بمثابة برج مراقبة عسكري، بني في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي على يد الموحدين، وهو لايزال ينتصب شامخاً على نهر الوادي الكبير، وكأنه شاهد على الماضي الحربي والعمراني المجيد لحضارة الإسلام في الأندلس.

وهناك أيضاً القصور الملكية الفخمة، التي شيدها الخلفاء الأندلسيون، الذين تعاقبوا على حكم المدينة، وهذه القصور مازالت تحافظ على رونقها، وتستخدمها العائلة الملكية الإسبانية عندما تزور إشبيلية، ومن أشهر هذه القصور؛ نجد قصر (المبارك)، ويسمى كذلك بقصر (المورق)، الذي كان مقراً لإقامة الملك المعتمد بن عباد، أحد أشهر ملوك الطوائف بإشبيلية، ويتميّز هذا القصر بالنقوش الجصية الرائعة، والأعمدة الفخمة، وهو تحفةٌ فنية مليئة بالألوان، والتصاميم المدهشة، لذا صنفته منظمة اليونيسكو عام (1987م) كموقع للتراث العالمي، كما توجد بإشبيلية العديد من الأحياء والمنازل والحمامات الشعبية، والساحات العمومية، التي مازالت وفية لطابعها العربي الإسلامي.

وإضافة إلى هذا الموروث العمراني المتميز، فقد كانت (إشبيلية) موطن نشأة العديد من الأعلام المسلمين، الذين ذاع صيتهم في شتى المجالات، ففي علم النبات؛ لمع اسم (ابن العَوّام) الذي ألف كتابه الشهير (الفلاحة الأندلسية)، وقد اعتبر آنذاك بمثابة موسوعة في عالم الزراعة، وضم أكثر من (1000) صفحة، وفي المجال نفسه أنجبت إشبيلية (أبو الخير) الذي بدوره خلف كتاباً مهماً عنونه بـ(عمدة الطبيب في معرفة النبات).

أما في علم التاريخ؛ فقد برز (ابن القوطية)، صاحب العديد من الكتب التاريخية، من أهمها: (تاريخ افتتاح الأندلس)، إلى جانب (ابن خاقان) المعروف بمؤلَّفِه (قلائد العِقيان ومحاسِن الأعيان)، وفي ميدان الشعر، اشتهرت العديد من الأسماء، من قبيل (ابن هانئ) الملقب بمتنبي الغرب، و(ابن سهل)، و(ابن حنون) وغيرهم من الأسماء التي أنجبتها إشبيلية عبر فترات زمنية متباينة.

ويمكن القول بأن الوجود العربي الإسلامي بإشبيلية، قد بصم على صفحات مشرقة في مجموعة المجالات، ولعل المآثر التاريخية الباقية، خير دليل على عظمة حضارة المسلمين، الذين ستبقى أيام حكمهم لهذه المدينة خالدة في التاريخ الإنساني.

المصدر: 
مجلة الشارقة الثقافية