قد لا يكون من اللائق الحديث عن أزمة الكتاب في يوم عيد الكتاب، كمن يتحزن في يوم فرح وعرس. لكن الكتاب نفسه كان يعتصر ألماً كلما استمع إلينا ننشده بيت المتنبي الذي بوأه مقام خير جليس، في الوقت الذي نسمح فيه لأيدينا بالتراخي عنه ليخر صريعاً، من دون أن تمتد إليه يد حانية لانتشاله.
يرى في ذلك نوعاً من المجاملة والنفاق، أو نوعاً من الانفصام بين القول والعمل؛ ذلك الداء الذي ينتاب الأمم إبان ارتكاسها الحضاري.
بل قد يكون من المستهجن أن نستمع في عيد الكتاب إلى أنين الكتاب يشكو من عوز في الإبداع، فلا يتلقى- ونحن ندلف إلى عصر المعرفة الذي أخذت المعلومات فيه تتضاعف خلال أقل من عقد – إلا مكروراً معاداً يعاني من غربة في الزمان، أو مسخاً مستعاراً يعاني من غربة في البيئة والمكان، فلا تكاد نسبة إبداعنا إلى الإبداع الفكري والعلمي العالمي تجاوز الصفر إلا قليلاً.
وقد يكون من المستهجن أن نستمع إلى أنينه يشكو الرقابات التي تقف فوق رؤوس المبدعين؛ تكم أفواههم أن تنطق بكلمة نشاز خارج نظام الجوقة، ثم تنتقل إلى أبواب المطابع ودور النشر لتحول دون صدور ما يقلق الراحة العامة أو يخرق الصمت ويعكر صفو السكون.. حتى إذا اطمأنت إلى إحكام قبضتها على النتاج الفكري في الداخل، قفزت إلى الحدود لتمنع نسمات الإبداع أن تتسلل إليها من الخارج..
تفعل ذلك حرصاً منها على أمن القارئ الثقافي ؛ تفترض سلفاً قصوره، وتقيم من نفسها وصية عليه، تحدد ما هو مسموح له أن يقرأه، وما لا يجوز له الاطلاع عليه مخافة الزيغ والضلال، فأي إبداع يمكن أن ينمو ؟! وأي حراك ثقافي يمكن أن يقوم؟! وأي مجتمع قارئ يمكن أن ينبني في ظل هذه الوصاية؟! ومن الحب ما قتل؟!
لعل ما سيكون أكثر إسعاداً للكتاب العربي يوم عيده، بعد أن استمعنا إلى بعض شكاواه، أن نضعها على بساط البحث والتحليل، لنتعرف على مواطن الداء، ومصادر الخلل، ثم نصف العلاج على ضوئها ضمن خطة شاملة محكمة، وجدول زمني محسوب وواضح.
كلنا على يقين من أن الكتاب عنوان التحضر؛ لا تلوذ به أمة، فيلوب له أفرادها – يمسِّكون به، يقلِّبون فيه وجوههم، ويحيون به أوقات انتظارهم، ويجعلونه حديث منتدياتهم، ومادة أسمارهم، ويتفاعلون معه نقداً وتقويماً، ويتهادونه فيما بينهم كأسمى هدية- إلا أفادوا منه حراكاً ثقافياً يصعد بهم في معارج الحضارة ويكون دليلاً عليها. ولا تتراخى عنه أيدي أمة إلا كان علامة تخلفها وانحدارها.
ولئن كنا نعاني في الحقبة الراهنة من غطرسة القوة، نتيجة لتفردها بعد انتهاء الحرب الباردة، فإن قوانين التاريخ وسنن الله التي تحكم مسيرة التطور الإنساني نحو الأسمى والأرقى تؤكد أنها حقبة عابرة لا تلبث أن تزول:
-لأنها ناجمة عن حدة المنعطف الذي تجتازه البشرية من عصر إلى عصر. ومن شأن المنعطفات الحادة -حين يجتازها الإنسان بسرعة كما يفعل اليوم – أن تخل بتوازنه، وتربك فكره وقدرته على المحاكمة السليمة، والتصرف بحكمة وعقلانية. لكنه سرعان ما يعود إلى صوابه إذا ما أفلح باجتياز المنعطف، واستوى به الطريق.
-ولأن التفرد نظام شاذ يخالف فطرة الإنسان، حتى لو أطلق عليه اسم النظام الدولي الجديد، فإنما أقام الخالق نظام الكون على التعدد، ]ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون[ [ الذاريات51/49 ] ولأجل ذلك ]وضع الميزان ألا تطغوا في الميزان[ [ الرحمن 55/7-8 ] وجعل الصراع الدائر بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، عنوان صحة في مسيرة التقدم البشري، من دونه تفسد الأرض: ]ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض[ [ البقرة 2/251]، ولن يستطيع الإنسان أن يستمر في الفساد وسفك الدماء، فما هي إلا انتكاسة عابرة – قد يفقد فيها بعض مكتسباته التي حققها عبر كفاحه المرير-ما تلبث أن تزول، ويستعيد الإنسان عافيته ومكتسباته وفق الخطة التي رسمها الخالق له، والأمانة التي تصدى لحملها.
لكن قوانين التاريخ وسنن التغيير- على الرغم من ثباتها وصدقيتها- لا تعمل بعفوية وتلقائية، إنما تتحقق ضمن إرادة إنسانية واعية؛ و ]إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ [ الرعد 13/11 ].
إن عصر المعرفة الذي نتأهب للدخول فيه، قد غير ترتيب الأولويات، وارتقى بالثقافة إلى المرتبة الأولى، وسلمها مفتاح القوة والتقدم، وبحسب هذا الترتيب الجديد سوف تتراجع العمالة اليدوية لصالح العمالة الفكرية، وسيشتد ساعد قوة الثقافة على حساب ثقافة القوة، وستتقدم مصانع الفكر- مراكز للأبحاث، ومؤسساتٌ للتعليم، ودور للنشر – على مصانع السلع الأخرى، وسيشتد الطلب على السلع الفكرية في اقتصاد المعرفة، وسيعلو شأن عمال المعرفة.
وإن الكتاب – في المرحلة القادمة – لينتظر منا الكثير؛ فلوثة العزوف القرائي لم تعد مقبولة في التحولات الإنسانية الراهنة، وعوز الإبداع والعجز عن الإنتاج المعرفي، لا يمكن أن تؤسس لنا موطئ قدم راسخ في حلبة السباق العالمي القادم.
في عصر الصناعة الذي نودعه، لم تكن الفرصة مهيأة لنا لردم الهوة السحيقة بيننا وبين الغرب، نظراً للفرق الكبير في امتلاك ناصية التكنولوجيا، فمهما أسرعنا في امتلاكها سيكون الغرب أسرع منا في تطويرها وستتسع الهوة.
لكن الفرصة في عصر المعرفة، أصبحت مواتية لنا، فرأس المال في هذا العصر هو الفكر، والفكر موزع بين الأمم بالتساوي، ليست أمة هي أربى فيه من أمة.
ولدينا من الأدمغة والمفكرين ما نستطيع أن نفاخر بهم الأمم، لو وفرنا لهم المناخ الملائم لاستيعاب عطائهم وإبداعهم.
إن بناء المجتمع القارئ ينبغي أن يحتل المرتبة الأولى في سلم أولوياتنا، وهو ما يتطلب تضافر جهود كل الوزارات والمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي على الجانبين الرسمي والأهلي، كما يتطلب دعم رجال المال والأعمال، فهو الأساس لبناء اقتصاد متين مبني على المعرفة، كما يتطلب الإسراع في التخطيط لتعديل المناهج التربوية والإعلامية والثقافية، والإلحاح في متابعة التطبيق، لأن الوقت لا ينتظر.