المعروف عن العرب في قديمهم الذي وصلنا،أنهم أباة ويفضّلون الغزو والتجارة بل ويفضلون الغزو والموت على حالة الجوع.ولكن عوامل القحط وانصراف الناس إلى التجارة والغزو جعل هناك فرقاً بين الناس،منهم من يملك الماشية ومنهم لا يمتلكون شيئاً سوى مهنة الرعي.وهنا نشأ أفراد يجود على الفقراء يُطلق عليهم صفة الكرم، وفي المقابل نشأت جماعات استفادت من هذا الكرم وتغنّت به وشكرت صاحبه، ثم تطور هذا الشكر بمرور الأيام إلى ما يُعرف بشعر المديح، فبعد أن كان الشاعر يشكر الكريم لأنه مد إليه أو إلى جماعته يداً بيضاء، أخذ يمدحه مقدمًا لينال من يديه، وانقلب الشعر من الوفاء والشكر إلى المديح والاستجداء، سواء مدح بما فيه من صفات إلى ما ليس فيه، وتشكّلت ظاهرة ما يُعرف بشعراء التكسّب.
شعراء التكسّب في العصر الجاهلي
بدأت مسيرة شعراء التكسّب بالنابغة الذبياني والأعشى وظهرت في أقبح صورها عند الحطيئة، ثم انتظمت الآفاق ولا تكاد تلقي عصاها حتى يومنا هذا.
النابغة تكسّب مالاً كبيراً من النعمان بن المنذر حتى كان أكله وشربه في صحاف من الذهب والفضة، قال في النعمان مدحاً لم يصل إليه شاعر من قبل وفضّله على كل الملوك
أما الأعشى فلم يفرّق في مدحه بين ملك وعربي وفارسي، وفي سبيل ذلك كان نهماً في جمع المال، ولم يتوان في سبيل ذلك عن المديح والهجاء معاً.
ثم جاء من بعده الحطيئة، ففتح المجال أمام الجميع، ولا يُعدّ الحطيئة بفتحه هذا الباب واحداً من الشعراء المتكسّبين بالمدح أو الهجاء فحسب، وإنما يعد رائداً من رواد شعراء التكسّب في نهاية العصر الجاهلي وبداية العصر الإسلامي.
شعراء التكسّب في العهد الأموي
سار خلفاء بني أمية مسيرة الجاهليين من تشجيع للشعر والشعراء، فكان لكل خليفة فريق من الشعراء يكفيهم مؤونة عمرهم، ولم يكتف الخلفاء بهذا، بل أضافوا إليه جديداً هو استخدام الشعراء في الأمور السياسية، ولعله لم يشذّ أحد عن هذه القاعدة إلا عمر بن عبد العزيز الذي كان يمنعه ورعُهُ و حرصه على مال المسلمين فلا يصرفه في غير حقه، ولا يستمع للشعراء المداحين له.
أما بقية الخلفاء فقد كانوا يهبون بالمئات والألوف ولا يتورعون عن أن يهبوا أموال المسلمين إلى هؤلاء الشعراء الكذابين بالمدح والذم.
شعراء التكسّب في العصر العباسي
نتقدم إلى العصر العباسي فنرى الخلفاء قد ورثوا ملك بني أمية وزادوا عليه ما اكتسبوه من الفرس، فبعد أن كان العربي يأنف الخضوع لغير الله رأينا هؤلاء الشعراء يقبلون الأرض التي يمشي عليها الخليفة أو يقبلون يده التي تنبع منها المكرمات والأرزاق، حدث مرةً أن أحدهم قبّل حافر الحمار الذي كان يركب عليه هارون الرشيد.
ويعد بشار بن برد على رأس الشعراء الذين يتكسب بمدحه وذمه معاً ويرى أن الهجاء أوفر كسباً من المديح.
وكذلك كان أبو العتاهية وهو من أحرص الناس على جمع المال، وقد بلغ به التذلل مبلغاً جعله يتمنى لو جعل من خده نعلاً لحذاء الخليفة!.
أبو تمام والبحتري والمتنبي
ولم يشتهر من الشعراء أحد شهرة أبي تمام والبحتري والمتنبي، فقد كان أبو تمام متكسّباً بشعره سائلاً به، وأما البحتري فقد بدأ حياته بمدح الباعة ثم ارتفع إلى مرتبة مدح الأمراء والوزراء والملوك.
أما المتنبي، فقد ثأر لنفسه وللشعراء، فاشترط أن يمتدح وهو جالس على خلاف ما اعتاد الشعراء أن يمدحوا الأمراء وهم وقوف، وكان المتنبي يتخذ من شعره مجالاً يتحدث به عن نفسه في أثناء مدحه الآخرين.
تجارة الشعر والشعراء التجار
أصبح الشعر تجارة وأصبح الشعراء تجاراً يعرضون أنفسهم على من يزيد ويمدهم أصحاب المال لمدحهم أو لذم عدوهم وأصبح الشعراء يوصفون بباعة الشعر.
ولقد قلّد الشعراء في عصور انحطاط الأدب سلفهم الصالح والطالح معاً، وهبطوا إلى درك الشحاذين ورضوا لأنفسهم العبودية والذل وأصبحت كلمة العبودية وخدمة أعتاب أسيادهم وغير أسيادهم من أبرز الصفات التي رضوها على أنفسهم.
إذا كان هذا حال "شعرائنا العظام" الذين تتلألأ شهرتهم في سماء مجدنا الأدبي فما هو حال شعرائنا في الزمن المعاصر.
"لا شاعر عظيماً في بلادنا"
تمر السنوات والعقود والقرون والأدب العربي يترنّح تحت أثقال التقليد وفقد جذالته والملوك ما زالوا هم الملوك والشعراء ما زالوا هم الشعراء مدّاحين مكتسبين حتى أطلّ القرن العشرين، وأطل معه شعراء لم يغادروا من متردم ورأينا زعيم النهضة الشعرية محمود سامي البارودي يصوغ المدائح في الخديوي وحافظ إبراهيم في عزيز مصر وخليفة المسلمين.. يُسخّرون الشعر لمدح الزعماء الذين يتعيشون في أكنافهم وحتى أمير الشعراء أحمد شوقي رضي لنفسه أن يكون شاعر الأمير.. وهكذا اختلط التكسّب بالفن والحاجة بالابداع فخسر الشعر العربي روائع كثيرة ليعيش بعض الشعراء في بحبوحة وهناء، ومن نأى عن التزلف إلى الملوك لعزة نفسه عاش رهين المحبسين كما فعل المعري واضطر إلى أكل الحشيش.
وهذه وصمة عار في أدبنا العربي تلحق بالملوك والرعية على حد سواء، وتلقي بلومها الأكبر على الشعراء، فقد كان من الممكن أن يتخذوا لهم حرفة يتعيشون منها ويتركوا للشعر عزّته ورفعته ولا يدنسوه بمطامعهم وشهواتهم.
ولا يزال في عصرنا للخلفاء خلفاء وللشعراء خلفاء أيضاً وما زالت المدائح تُتلى في البلاط وفي المجالس والنوادي الثقافية والمنتديات، وفقد الشعر هيبته وفقد سويّته الفنية العالية وبقي الشعراء الرديئون الذين يفتقرون للموهبة الشعرية والسوية الإبداعية ومتسللون إلى الصحافة يستثمرون ثقافة العلاقات العامة على حساب غيرهم من المبدعين الذي تظل بضاعتهم كاسدة لا تجد من يسألهم عنها.
فالشعراء الرديئون هم الأوفر حظاً في الظهور وفي احتلال مساحات ليست لهم، وفي المقابل نجد الشاعر الحقيقي يتوارى خجلاً من فوضى المشهد وخزيه ويفضّل الغياب على المجابهة التي لن يخرج منها سالماً.
شعراء استثناء في الشعر العربي
بعض الشعراء احتفظوا بكرامتهم ولم يريقوا ماء وجوههم بالسؤال، كما هو شأن عمر بن أبي ربيعة وأبو فراس الحمداني والرصافي والإمام الشافعي وغيرهم، ويتميز شعرُهم أنه لم يكن يُقصد منه التكسُّب أو التقرب إلى أصحاب المال والجاه والسلطان، بل كان شعرُهم في أغلبه يتناول الحكمة، ولذلك انتشر شعرهم بين الناس، ولا يزال شعرهم متداولاً حتى الآن، وصارت بعض أبياتهم أمثالاً يتداولها الناس في حياتهم اليومية.