ظاهرة متميزة تلك التي رسمها أدب المقاومة داخل السجون الفلسطينية، أو ما سُمّي بأدب الأسرى الذي استطاع أن يختزل إلى حد بعيد المأساة الفلسطينية ويحولها إلى حالة عميقة في الوجدان الفلسطيني والعربي والإنساني.
لم يعتقل الأسير الفلسطيني إلا لأنه دافع عن حق وجودي ممنوح لكل الكائنات التي تدب على هذه الأرض. وقد مست ظاهرة الأسر المناطق الفلسطينية كلها بدون استثناء، بحسب الوثائق والدراسات؛ «تشمل فئة الأسرى السياسيين في السجون الإسرائيلية المعتقلين من المناطق المحتلة سنة 1967، وأسرى الداخل الفلسطيني (1948)، والسوريين من هضبة الجولان، واللبنانيين، والأردنيين، والمصريين»، أي أن آلة الاحتلال الجهنمية لم تترك منطقة أو جهة لم تمارس عليها ظلمها واستبدادها، وجرائمها التي لم تعد سرية اليوم، مع اليمين الديني الأعمى الذي يسطر على مقاليد الحكم في اسرائيل، ونتنياهو مستعد للتحالف مع الشيطان مقابل بقائه في الحكم.
الحركة الأسيرة في فلسطين ليست جديدة، ولكنها تمتد منذ الانتداب البريطاني الذي لم يتوان عن السجن والإعدامات ضد كل معارض لها (1933-1939). أتذكر يوم زرت سجن عكا قادماً من يافا الغربية، كم كان قلبي موجوعاً وأنا أتذكر ذلك النشيد الجنائزي «من سجن عكا طلعت جنازة». وبلغ عدد المعتقلين وفق بعض الإحصائيات الموثقة أثناء انتفاضات 1948 حوالي 15000 من الفلسطينيين والعرب المتطوعين في الصراع ضد المجموعات الإرهابية من الهاغانا والشتيرن، دفاعاً عن المدن الفلسطينية. لم تتوقف هذه الممارسة المرتبطة بالغطرسة الإسرائيلية والهزائم العربية، استمرت بشكل أكثر كثافة، بالخصوص بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 حيث زجت قوات الاحتلال بآلاف الفلسطينيين الذين انتفضوا، في السجون والمعتقلات التي كثرت وتعددت على الأرض الفلسطينية. وزادت الاعتقالات الجماعية بعد 1967 إذ أصبحت ممارسة يومية في ظل غياب أي قانون دولي رادع مع انهيار المؤسسة العسكرية العربية التي ضعفت، بل ويئست من الانتصار على كيان وجد بجانبه مجموعة «المذنبين» الذين يحملون عقدة محرقة «الهولوكست» الإجرامية، التي استثمرتها إسرائيل سياسيا تجاه «المذنبين» التاريخيين.
وفي السنوات القليلة الماضية، أضيف إلى لاعتقالات المنظمة القتل والتلويح بتطبيق الحكم بالإعدام، الأمر الذي يؤكد الطابع الإجرامي للكيان الصهيوني. أزال ذلك نهائياً الغطاءات الوهمية للاحتلال. ومن بين الحيل القانونية التي تستعملها إسرائيل للتخفيف لغوياً من ممارساتها الظالمة «سجين أمني» بدل «سجين سياسي» حتى لا تبدو معتدية على الأعراف والقوانين الدولية، وتظل «ديمقراطيتها» مصونة. الفلسطيني لا يسجن في أدبياتها التي تسوقها؛ لأن له مطالب سياسية، ولكنه يسجن لمخالفته القانون أو متورط في شبهة. أما في قطاع غزة المنتفض، فقد أبدع الكنيست منذ آذار 2002، قوانين جديدة تعسفية تسمح لسلطات الاحتلال أن تعتقل كل من تراه عدواً محتملاً متفادية تسمية «أسير حرب» التي تكلفها كثيراً من ناحية القانون الدولي الذي يفرض اشتراطات كثيرة تحد من الغطرسة الإسرائيلية.
لهذا تعددت السجون باتساع الانتفاضات الفلسطينية ضد الاحتلال. وكلما كان الرفض قوياً زادت شراسة الاحتلال في بناء سجونه في عسقلان، إيشل، نفحة، رامون، كتسيعوت في النقب، نيتسان وأيلون في الرملة، هداريم، الدامون، مجدّو، جلبوع وشطة، إضافة إلى معتقلات حوّارة، وبيت إيل، والمسكوبية في القدس، والجلمة وغيرها.
تكاد فلسطين المحتلة تتحول إلى سجن كبير يموت فيه الإنسان في الظل، لا حق له لا في العيش ولا في الرعاية الصحية، الكثير من الفلسطينيين توفي بسبب هذا الإهمال وغياب الحس الإنساني الأدنى، في «دولة» تدعي بأنها «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط. فقد تعرض، وفق شؤون الأسرى، أكثر من مليون فلسطيني للاعتقال، أي ثلث الفلسطينيين، وهو ما لم يحدث في أي بلد. الشعب الفلسطيني تعرض خلالها لعمليات اعتقال عشوائية، لم تقتصر على المقاومين المسلحين، بل طالت أيضاً عدة شرائح في المجتمع الفلسطيني، مثل الأطفال والشبان والشيوخ والفتيات والأمهات والعمال والأكاديميين والقيادات السياسية والنقابية والمهنية.
«إن التصنيف الأمني يجعل من كل أسير خطراً على أمن إسرائيل ليتم بذلك تقييد حقوقه الأساسية، مثل: التواصل الهاتفي مع عائلته، ولقاءات مفتوحة مع محاميه ومع العائلة خلال الزيارات العائلية، وحظر اللقاءات الحميمية بين الزوجين، وحصر الزيارات في الأقارب من الدرجة الأولى فقط، وعدم السماح بإفراج مبكر عنه، ومنع الإجازات الشهرية التي يتمتع بها السجناء في السجون الإسرائيلية. وبالإضافة إلى ذلك، يشتكي الأسرى السياسيون من رداءة العلاج الطبي وشح النشاطات التربوية والثقافية». كثيراً ما يتفادى الأسرى التمزقات الفلسطينية الداخلية التي دمرت كل النسيج الذي تكون عبر عشرات السنين. عبقرية الأسرى ومشتركهم الأسيري دفع بهم إلى تكوين حلقات هدفها في النهاية فلسطين مهما كانت الاختلافات القبلية والإثنية والدينية والأيديلوجية. كانت أسوار السجن مدرسة مؤلمة لهم، ولكن حقيقية خارج الخطابات الجوفاء والسهلة. نذكر في هذا السياق وثيقة «الوفاق الوطني» التي توصلت إليها الحركة الأسيرة في أيار/ مايو 2006 وتبنتها القيادات السياسية في غزة ورام الله في الشهر التالي. حول أشكال الفعل الثوري المستجدة والأنماط التنظيمية الحيوية مع بيروقراطية أقل، وإنهاء الفرقة التي كانت وبالاً على الشعب الفلسطيني. وهزت هذه المبادرات أركان جيش الاحتلال وسجونه التي فشلت في شلهم حتى وهم أسرى. كما ناضلت في تحسين ظروف الحركة الأسيرة بخلق أشكال نضالية تضع الاحتلال أمام مسؤولياته وتفضحه دولياً. وكان على رأس هذه الأشكال الإضرابات المتلاحقة، منها الإضراب عن الطعام أو ما يُسمى معارك «الأمعاء الخاوية» بالتوقف عن الأكل باستثناء الماء وقليل من الملح للاحتجاج والرفض. وقد خلفت هذه الأشكال النضالية ضحايا من الأسرى، لكنها خلقت أيضاً ظروفاً أفضل على الرغم من التعنت الإسرائيلي. وحرك ذلك الكنيست لإصدار قوانين جديدة، منها الإطعام القسري للأسير المضرب حتى تتفادى الإدانة دولياً.
يشكل اليوم أدب السجون ظاهرة شديدة التميز، بقدر ما هي مؤلمة، فهي مهمة لحفظ الذاكرة لجيل احترق وصمم أن يدافع عن حقه في العيش في وطن سرق منه ضمن جو تواطئي لا إنساني. أعتقد أن الحالة الفلسطينية كشفت «الادعاءات الإنسانية» التي ليست في النهاية أكثر من لغة وخطاب استهلاكي، لأن أرضية الواقع تكذب ذلك.
ولعل ما حدث ويحدث اليوم في غزة من قتل وتهجير وإبادة عنصرية منظمة يدلل على عنصر البنية الإجرامية لدى جيش لا يملك أي أخلاق، فقد بني في الأصل ليكون ذراع الصهيونية منذ أن كان في شكل عصابات متناحرة متحالفة: الهاغانا والشتيرن وغيرهما. وحكام اليوم ليسوا إلا الأحفاد الطبيعيين لتلك العصابات التي جعلت من الدم الفلسطيني وسيلتها للاستمرار والعيش.