تخطي إلى المحتوى
طه عبد الرحمن و«روح الحداثة» طه عبد الرحمن و«روح الحداثة» > طه عبد الرحمن و«روح الحداثة»

طه عبد الرحمن و«روح الحداثة»

دأب الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن على نقد الواقع الفلسفي في العالم العربي، وكذا نقد التراث الفكري، ومحاولة تأسيس فلسفة عربية إسلامية خالصة، ونجح في ذلك إلى حدّ بعيد، حيث انطلق في مشواره الفلسفي بفلسفة اللغة، وصولا إلى تأسيس نظريته الائتمانية، التي طبّقها في كتابه «ثغور المرابطة / مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية»، كما ألقى محاضرة فلسفية في رحاب كلية أصول الدين وحوار الحضارات في مدينة تطوان في المغرب، حول موضوع «الأوامر الإلهية والفلسفة الأخلاقية»؛ ومن خلالها انتقد فيلسوفين أمريكيين، ثم أسس اقتراحه بالاعتماد على مقاربته الائتمانية. كما أنه انتقد التقليديين المسلمين في كتابه «سؤال الأخلاق»، ثم وضع لبنات ما انتقده في كتابه التالي «روح الحداثة»، حيث سعى من خلاله إلى تبصير الحداثيين بما هم فيه من تقليد مطبق لفتح فضاء الإبداع، عن طريق التفريق بين روح الحداثة التي ينبغي حفظها وواقع الحداثة الذي يمكنه تركه إلى واقع غيره لا يقل عنه حداثة. ويهمنا هنا الوقوفَ عند روح الحداثة عند الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، من خلال كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، والذي يحاول من خلاله بناء مدخل لتأسيس الحداثة الإسلامية، مخالفة للتراثيين التقليديين والحداثة الغربية.
وقد تعددت واختلفت وتنوعت التعاريف التي وضعت لمفهوم الحداثة، فمنهم من قال إنها النهوض بأسباب العقل والنقد والتحرر، ومنهم من قال إنها ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية، أي السيادة على الطبيعة والسيادة على المجتمع والسيادة على الذات، وهناك من جعل الحداثة هي قطع الصلة بالتراث، أو طلب الجديد، أو إنها محو القدسية من العالم، ومنهم من قال إنها العقلنة، أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، أو قطع الصلة بالدين، أو إنها العلمانية، إلخ. لكن الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يقول، إن الحداثة مشروع غير مكتمل. وسواء كانت الحداثة تتمثل في أحد التعاريف السابقة أو جميعها، فإن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يحدد بعض خصائص روح الحداثة، من خلال التفريق بين «روح الحداثة» و»واقع الحداثة»؛ ولأجل ذلك، يُقسِّم مبادئ روح الحداثة إلى ثلاثة أقسام، وهي: مبدأ الرشد/ مبدأ النقد/ مبدأ الشمول.
أولا: مبدأ الرشد:
ويقتضي أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد، أي تخطي اختيار التبعية للغير، من خلال التبعية الاتباعية (تسليم القيادة للغير عن طواعية)، والتبعية الاستنساخية (إنزال نتائج تفكير الغير في الواقع بصورة أصلية)، والتبعية الآلية (التماهي مع الغير والانسياق نحو التقليد في مناهج التفكير ونتائجه)؛ وبالتالي فإن مبدأ الرشد يقوم على الاستقلال من جهة، والإبداع من جهة أخرى، أي أنه يستقل عن غيره في التفكير ويتحمل مسؤولية النتائج، ويسعى إلى الإبداع في تفكيره وأقواله وأفعاله، لأن القيمة العليا تكون للاختراع والابتكار.
ثانيا: مبدأ النقد:
ويقتضي هذا المبدأ أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من الاعتقاد إلى الانتقاد، ويقوم هذا الأخير على مبدأين مهمين هما: التعقيل (العقلنة)؛ أي إخضاع جميع المؤسسات الإنسانية وظواهر العالم إلى العقلانية، لأننا في زمن تغلب عليه طبيعة التقنية بدل العِلم. ثم التفصيل (التفريق)؛ أي نقل الشيء من صفة التجانس إلى صفة التغاير، فعملت الحداثة على التفصيل بين القيم العملية والقيم الرمزية في ميدان الثقافة، على سبيل المثال، ومثل مفهوم العلمانية الذي نفصل به بين الدين والدولة تطبيقاً لمبدأ الحداثة الرامي إلى التفريق بين المكونات.
ثالثا: مبدأ الشمول:
ويقتضي هذا المبدأ أن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول، سواء خصوصية المجتمع أو خصوصية المجال، ويقوم هذا المبدأ على التوسع؛ فلا تنحصر أعمال الحداثة على مجال أو مجالات محددة بدقة، بل إنها تنفذ في جميع المجالات. ثم التعميم؛ فلا تبقى الحداثة حبيسة المجتمع الذي نشأت فيه، بل تتجاوز ذلك وتدعو إلى تحرير الإنسان. وهناك عدة نتائج مترتبة على مبادئ روح الحداثة، وهي:
ـ تعدد تطبيقات روح الحداثة لأن هذه المبادئ لا يستنفدها تطبيق واحد، بل كل تطبيق يتم في سياق اعتقادات وافتراضات خاصة «مسلمّات التطبيق».
ـ التفاوت بين واقع الحداثة وروحها: فهما ليس شيئا واحدا، بل هما متناقضان.
ـ خصوصية واقع الحداثة الغربية: حيث كاد أن يصبح لكل مجتمع غربي حداثته الخاصة، ولم يعد هناك نسق حداثي يجمعهم.
ـ أصالة روح الحداثة: فالحداثة ليست صنيع المجتمع الغربي، بل هي امتداد لحداثة من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره.
ـ الاستواء في الانتساب إلى روح الحداثة: أي أن الحداثة ليست ملكا لأمة دون غيرها، بل هي لكل أمة نهضت بالفعل العمراني والفعل التاريخي.
وقد قدّم طه عبد الرحمن الشروط العامة للتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وتبدأ باجتناب آفات التطبيق الغربي لروح الحداثة، حتى لا تصبح السيادة عبودية، ولا يصبح الاستقلال تبعية، ولا يصبح الخاص عامّاً، ولذلك فإن الصواب ليس نقل تطبيق الحداثة عند الغرب، بل نقل الأصل، أصل الحداثة وروحها. إلى جانب اعتبار الحداثة تطبيقا داخليا وليس خارجيا، ولذلك فإن كل أمة مطالبة بصنع حداثتها الداخلية، أو ستكون من دون حداثة. ثم اعتبار الحداثة تطبيقا إبداعيا وليس تطبيقا اتباعيا؛ لأن الحداثة تُنال عن طريق الإبداع والاختراع والابتكار والاستقلالية، ولا تُنال عن طريق الاتباع والتقليد والتبعية.
ومن خلال ما تقدم، يمكننا القول إن الواقع الإسلامي لا يستوفي الآن الشروط المطلوبة لبناء الحداثة، فليس الواقع واقعنا تطبيقا داخليا لروح الحداثة، ولا هو تطبيق مُبدِعٌ في أركانها، بل هو تقليد لتطبيق روح الحداثة، التي أبدعها الآخر الذي لا يمثل الـ»نحن»، وهو الغرب؛ وهو تطبيق من الدرجة الثانية، ما جعل البعض يقعون في لبْسٍ خطير، حتى ظنوا أننا في حداثة، لكن الأمر ليس صحيحاً، فلا وجود لحداثة مع التقليد، لأنهما ضدان لا يتوافقان.

المصدر: 
القدس العربي