تخطي إلى المحتوى
عالم من دون أقلام وأوراق.. خط واحد للجميع عالم من دون أقلام وأوراق.. خط واحد للجميع > عالم من دون أقلام وأوراق.. خط واحد للجميع

عالم من دون أقلام وأوراق.. خط واحد للجميع

يتراجع استخدام القلم في الكتابة بسرعة كبيرة حتى يكاد ينقرض، هل تذكرون كم مضى من الوقت على كتابتكم رسالة بالورقة والقلم؟

الكتابة هي أهم حدث في تاريخ البشرية، أرّخت للحضارة، وسمحت بحفظ ونقل تجارب وخبرات ومعلومات البشر، بين الأجيال.

تغير أسلوب الكتابة بصورة جذرية عدة مرات، وما زال يتغير، من الحفر على الحجارة إلى الكتابة الرقمية.. وقد كان اختراع قلم "الستيلو"، ثم قلم الحبر الناشف ثورة عظيمة، أدت لانتشار الكتابة على مستوى لا سابق له في التاريخ. صار الأطفال، وأفقر الناس، يملكون أدوات الكتابة لم تكن تتوفر إلا للملوك وأغنى الناس.

هذه الثورة تلتها ثورات أعظم، إنما باتجاه معاكس، جعلت الناس يستغنون عن القلم. الثورة الأولى كانت اختراع الطباعة، التي جعلت ألوف الكتبة والنساخين، بدون عمل. والثورة الثانية تحصل الآن حيث صارت نسبة عالية جداً من الكتابة مجرد طرق على أزرار الحاسوب (الكومبيوتر)، وشاشة الهاتف النقال (الموبايل).

الكتابة الإلكترونية وتمزيق الأوراق

والكتابة الإلكترونية فيها مميزات كبيرة. فالكلمات المكتوبة آلياً تكون واضحة، ولا تحتاج لمن يفك غموضها، بينما الكتابة باليد والقلم تكون في أحيان كثيرة غير واضحة وبحاجة لوقت وجهد لفهمها، ويمكن أن لا نفهم خط كثير من الأشخاص، أما خط الكومبيوتر والموبايل، فكل الناس تفهمه وبسهولة.

ومن ميزات الكتابة الإلكترونية ما ذكره لموقع تلفزيون سوريا الخطاط أحمد هنداوي أنه "عندما أكتب بالإلكتروني، أستطيع التغيير والتعديل والمسح ونقل الجمل والمقاطع وتغيير مكانها وتصحيح الأخطاء بسهولة غير موجودة في الكتابة باليد، أي خطأ أو تعديل أو إضافة أو مسح في الكتابة اليدوية، يعني إعادة الكتابة من جديد، وتمزيق الأوراق".

"حسّن خطك" العبارة التي كنا نسمعها باستمرار من أهلنا ومن مدرسينا، لم نعد نسمعها تقريباً الآن، لأننا لا نكتب بأيدينا، وإنما نضغط على أزرار تخرج لنا حروفا صنعتها آلات. ولولا تنوع الأحرف التي تطبعها الكومبيوترات والموبايلات، لصار خط كل البشر واحداً. فهل تصل الأمور إلى حد التساؤل: لماذا نتعب أنفسنا وأولادنا في تعلم الكتابة، طالما أنهم لن يكتبوا بأيديهم؟

يقول الخطاط أحمد هنداوي: "الكتابة بالقلم العادي تراجعت لصالح الحاسوب والهاتف النقال، لكن الكتابة بالقلم ما زالت موجودة، وستظل موجودة لوقت طويل، فَلِتعلُّم الكتابة على الآلات، أو الكتابة الإلكترونية، يجب أن يتعلم الإنسان أولاً الكتابة بالقلم. يجب أن يكون الإنسان ملماً بقواعد الخط، ثم بعد ذلك يكتب يدويا أو إلكترونياً. الآلات تكتب نفس الحروف التي تكتب باليد والقلم، أعتقد أن الإنسان سيظل يكتب بالقلم مهما تطورت تقنيات الكتابة".

الحقيقة أن الأمر تجاوز التساؤل، ووصل إلى حد تراجع اهتمام البشر، فعلاً، بتعلم وتعليم الخط، فمع انتشار الكومبيوتر والآيباد والموبايل، يكتب البشر من أبناء هذا العصر كثيراً، كثيراً جداً، أكثر من أبناء كل العصور السابقة، لكنهم غالباً لا يكتبون بالقلم، وإنما بالطرق على لوحات الحروف.

ومع تراجع استخدام القلم، يخسر الإنسان واحدة من أهم مميزاته التي تميزه عن غيره من البشر، وهي خطه في الكتابة. فكما أن لكل إنسان شكل مميز، وصوت مميز، وبصمات مميزة، فإن خط الإنسان يعبر عن شخصيته المتميزة عن باقي البشر. ويقول أطباء النفس إن دراسة الخطوط هي إحدى الطرق للتعرف إلى شخصية الإنسان.

ولقد وصل الأمر إلى حد أن التوقيع الشخصي بالقلم، وهو مزيج بين الكتابة والرسم، يعادل قانوناً بصمة الإنسان التي تميزه عن كل البشر، الأحياء والأموات، التوقيع الشخصي هذا صار توقيعاً إلكترونيا، ومسبق الصنع.

يقول محمود مستو أستاذ اللغة العربية: "نعم يؤلمنا جداً أن تتراجع الكتابة العربية، وتجابه تحديات قاسية. فالصراع راعف بين الكمبيوتر والقلم. تضعف ملكة الذوق لدى الإنسان من جراء عدم كتابته بالقلم الذي يعد بريد القلب ومستودع العواطف، وتخلو كتابته من اللمسات الإنسانية، وقد سلبت تقنية الحاسوب روح الكتابة، وغدت نوعاً من الرتابة ضمن قوالب نمطية جامدة مبرمجة".

الخط.. روح وهوية

حتى الأمم سيخسر بعضها ، وخاصة الأمة العربية، فناً يعبر عن روحها وهويتها، لا بل وعقيدتها. فكل الشعوب تقريباً عرفت فن الخط، لكن العرب برعوا فيه بعد الإسلام بسبب القيود والضوابط التي فرضها الإسلام على فن الرسم، وخاصة تقييد تجسيد الأرواح والكائنات الحية وتفاصيل الجسد، الأمر الذي جعل الخط هو البديل عن الرسم للتعبير عن الروح والإحساس، عند المسلمين.

يقول الأستاد محمود مستو: "بدأ العرب بكتابة الحروف فنّيّاً بعد صدر الإسلام، وغدا الخطّ العربيّ حاملاً حضارياً وثقافياً وفنياً للعرب. وأخذ يتطور، ويبرز الاهتمام به جلياً، لا بل أخذ أبعاداً مقدسة وروحانية ومعرفية لا نجدها في فن آخر. ومع الفتوحات الإسلامية، أصبح له مكانة مرموقةً لدى كل المسلمين".

والسؤال الذي سيجيب عليه المستقبل وحده، هو هل انحسار (أو توقف) استخدام الكتابة بالقلم، سينقل فن الخط من البيوت والمدارس كما كان لفترة طويلة، إلى المعارض والصالات والمعاهد المختصة كما هو الآن، ثم لاحقاً إلى المتاحف بجانب المسلات والنصوص المنقوشة على الحجر والخشب ؟ هل سنصل ليوم لا نرى فيه كلمات مكتوبة بخط اليد والقلم، إلا في معارض الخط، وربما لاحقاً في المتاحف فقط؟

الخطاط الأستاذ خالد الأفندي يرفض مجرد تخيل هذا الاحتمال، يقول: "الكومبيوتر هو مساعد وليس ندا للخط، ولن يكون نداً للخط أبداً، وخاصة الخط العربي، لأن الخط العربي هندسة روحانية، فهو أعلى الفنون وأرقاها على الإطلاق. القلم باق، لا أظن أبدا أن ينتهي، فهو كما يقال يشرب سواداً وينفث نوراً، فمن المستحيل أن ينتهي".

ولكن التقدم التقني يهدد القلم بالفناء، لا بل ويهدد فن الخط وينافسه. فما بات يسمى بالذكاء الصناعي، جعل من الممكن أن تقوم آلة برسم لوحة فنية، وأن تقوم بالتخطيط الفني. بات ممكنناً أن يقوم كومبيوتر بتخطيط آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وحكم وأبيات شعر، بطريقة فنية. أي بات يستطيع أن يقوم بدور الخطاط الفنان.

يقول الخطاط خالد الأفندي: "نعم هناك آلات ترسم الخط العربي، وهذا يسمى ذكاء صناعي، أجل هذه الآلات موجودة، ويمكن أن تتطور أكثر، ولكن لا روح فيها، الخط العربي هو هندسة روحانية، ولا يكون بدون الروح البشرية التي ترسمه. يمكن لرجل آلي (روبوت) أن يكتب الخط العربي، ولكنه سيكون مجرد ناقل، والناقل لا يبدع. الروبوت أو أي آلة، ستكون ناقلة للخط العربي، ولن تكون مبدعة في الخط العربي".

الحقيقة أن القلم، وفن الخط، وحتى الورق ذاته، لم تنته الحاجة لهم بعد، لكنها حاجة تتراجع باستمرار. ولا يمكن لأحد أن ينسى أن كل أشكال الكتابة قبل القلم، أي الحفر على الحجر، ثم على الطين، ثم الجبس، ثم الخشب، ثم الكتابة بالريشة على الجلود، ثم على البردي والقماش.. كلها انقرضت تماماً ولم يعد لها وجود سوى في الآثار والمتاحف.

المصدر: 
عين العربي