عادة لا تبدأ مقدمات المقالات بأسئلة، لكنني سأخالف القاعدة هذه المرة، وأطرح منذ البداية السؤال التالي: لماذا علينا أن نقرأ كتاب بيتر جاكسون «المغول والعالم الإسلامي»؟ وربما تكون الإجابة ببساطة أن هذا الكتاب يمثل نوعاً من المفاجأة والصدمة المعرفية لكثير من القراء والمهتمين بتاريخ المنطقة. فالصورة الشائعة عن المغول ظلت أسيرة مشهد واحد: هولاكو يدخل بغداد، يدمّر الخلافة العباسية، ويغرق المدينة في الدماء. وهكذا تكوّن مخيال عام لدى العرب، وحتى لدى الأوروبيين، يربط المغول بالخراب وحده، ويُظهر عصرهم كمرحلة بربرية خالصة.
مع ذلك، فإن هذا المشهد لا يعكس كما يعتقد جاكسون الحقيقة الكاملة عن المغول. فهناك اليوم مراجعات تاريخية تظهر أن بعض الكتب التي وضعها المسلمون، مثل ابن الأثير، قدّمت صورة غير دقيقة عن المغول وعن العصر الذي جاءوا منه. كما أن موقف ابن تيمية كان أكثر تشدداً تجاههم، إذ شكك في إسلامهم ووصفهم بغير المسلمين، مع أن الواقع التاريخي أعقد بكثير.
لم يكن المغول بدائيين من الناحية الإدارية، كما صوّرتهم بعض المصادر المتأثرة بصدمة الغزو، إذ ورث جنكيز خان عناصر تنظيمية من أسلافه، ومن القبائل الأخرى، لكنه منحها شكلاً متماسكاً وأوسع نطاقاً. كان النظام العشري الذي نُسب إليه وسيلة فعّالة لتنظيم الجيش والإدارة معاً. فالوحدات العسكرية من عشرة إلى عشرة آلاف، لم تكن مجرد تشكيلات قتالية، بل كانت أيضا وحدات اجتماعية وإدارية. وكان قادتها مسؤولين عن جباية الضرائب، وتنفيذ العدالة، وتسيير الأمور اليومية. كانت هناك وظائف بيروقراطية محددة: فالكُتّاب، وغالباً ما كانوا من الأيغور الذين تبنّوا الأبجدية السريانية في الكتابة، لعبوا دوراً محورياً في تسجيل المراسيم والأوامر. كما أن هناك وظائف ارتبطت بالرقابة والإشراف على الأقاليم المفتوحة، وتحصيل الضرائب منها. بعد معركة عين جالوت عام 1260 وهزيمة قواته في الشام، عاد هولاكو إلى إيران مع معظم جيشه، تاركاً جيشاً صغيراً لمراقبة الأراضي التي خضعت حديثاً. بعدها بدأ بالتركيز على تثبيت سلطته في بلاد ما بين النهرين وإيران، مستفيداً من الفراغ السياسي الذي خلفه سقوط الخليفة العباسي في بغداد سنة 656 هـ/ 1258م.
في العراق، كان التحدي الأكبر لهولاكو هو السيطرة على المدن الكبرى وتأمين الطريق بين بغداد والكوفة والبصرة، فضلاً عن فرض سلطته على القادة المحليين. قام بإعادة تنظيم الإدارة، حيث عيّن حكاماً من المغول ووكلاء محليين لإدارة المدن، مع الإبقاء على بعض الأمراء العباسيين ورجال الدولة، الذين كانوا قادرين على العمل كوسطاء بين السكان المحليين والسلطة المغولية، طالما لم يشكلوا تهديداً لسيطرته. وفي المدن الكبرى مثل بغداد وأصفهان، حرص هولاكو على استقطاب خبراء محليين في الإدارة والفنون العسكرية والهندسة، بمن في ذلك المهندسون المسؤولون عن الحصون والمنشآت الدفاعية، لضمان السيطرة على المدن وتأمين الطرق التجارية والزراعية. كما قام بتعزيز البنية التحتية للجيش، من إنشاء الطرق وإمداد المؤن إلى تجهيز وحدات المشاة والفروسية.
في ما يتعلق بالاقتصاد، وضع هولاكو نظاماً صارماً لجمع الضرائب والرسوم، واستغل الأراضي الزراعية الخصبة في العراق وإيرادات المدن التجارية الكبرى لضمان تدفق الموارد. كما فرض على التجار المحليين والأجانب النظام المغولي في التجارة، بما في ذلك مراقبة السلع وتسجيل القوافل، لضمان السيطرة على الثروات وتحقيق استقرار مالي للدولة الناشئة، وربط العراق بشبكة اقتصادية تمتد حتى الصين. قراءة كتاب بيتر جاكسون تتيح للقارئ إدراك أن القرن الثالث عشر والرابع عشر يمثلان عصر المغول بشكل كامل، وأن هذا العصر أسس لعالم مختلف، ليس فقط على صعيد تدمير المدن أو الهجمات العسكرية، وإنما أيضاً على صعيد الدين الإسلامي وحركة الدول، والتحولات الديموغرافية. فقد أدت الهجرات الكبيرة التي نتجت عن الغزوات المغولية إلى تغيير المشهد السكاني والثقافي في المنطقة، وأثرت في مناطق إيران والهند والصين، ما ساهم في تشكيل امتداد واسع للثقافة الإسلامية على المستوى الجغرافي. وعلى الرغم من العنف الشديد الذي عرفته غزوات المغول الأولى، فإن الغزو المغولي، حسب جاكسون، لم يؤدِ بالضرورة إلى انهيار الثقافة العربية والإسلامية، على العكس، ساهم في دفع موجات من المهاجرين عبر المحيط الهندي، ما ساعد على انتشار الإسلام وتوسع الدور الثقافي للمسلمين. كذلك، فإن الحكومة المغولية ساعدت على إعادة تنظيم المدن، وإعادة بناء الأسواق، بما فيها بغداد، كما شارك المغول والموظفون الذين عُينوا فيها، في استعادة النشاط الاقتصادي والثقافي للمدينة.
والطريف في الكتاب أنه يعتمد أيضا على أهم القراءات والأبحاث التي انشغلت في السنوات الأخيرة بدراسة تاريخ المغول، فمثلاً، نعثر على دراسة للمؤرخة ميشال بيران «بغداد تحت الحكم المغولي»، التي ترى أن دخول هولاكو إلى بغداد كان نقطة تحول كبيرة في تاريخ المسلمين، فقد أدى إلى انهيار الخلافة العباسية التي حكمت المجتمع الإسلامي، سياسياً وثقافياً، لأكثر من خمسة قرون، ومع ذلك، تشير بيران إلى أن المدينة استمرت كمركز حيوي، بل ازدهرت تحت الحكومة المغولية، وليس على الرغم منها. وترى أن الغزوات الأولى والممارسات العنيفة كانت نمطاً من القتال السائد في تلك الحقبة بين مختلف الدول والإمارات، سواء في إيران، أو حتى في القدس، وأن هولاكو نفسه ساهم لاحقاً في وضع خطة لإعادة بناء بغداد واستمرار دورها الحضري والثقافي، خلال حكم ابنه أباقة خان.
واللافت أن المدارس الدينية، والعلماء في بغداد لم يتوقفوا عن النشاط، بل استمروا في التعليم والحفاظ على المؤسسات العلمية والفكرية، حيث حصلوا على دعم جيد من الحكام المغول، ما يدل على أن المدينة استعادت مكانتها العلمية والثقافية بسرعة، بعد أقل من عامين من الغزو.
وربما هذا النفس الذي نلمسه بداية في دراسة بيران، هو ما يطغى أيضاً على قراءة بيتر جاكسون للقرنين الثالث عشر والرابع عشر، اللذين يصفهما بأنّهما «قرنان مغوليان»، ساهما في انتشار الإسلام وفي تشكيل عالم ممتد في الثقافة الإسلامية من الصين إلى قلب المنطقة الإسلامية. إذ أدّت غزوات المغول وهجماتهم إلى تلاقح ثقافي كبير، انعكس لاحقاً لصالح الثقافة العربية والإسلامية، وأعطى لها شكلاً جديداً. وفي هذه الفترة أيضاً تعمّق انتشار الإسلام، خاصة في آسيا الوسطى والغرب، كما امتد تأثيره إلى الهند وافريقيا. ولعل هذه النتيجة هي التي وصل اليها أيضاً تيموثي ماكنتش في كتابه «العرب.. ثلاثة آلاف عام»، إذ لاحظ أن انهيار الخلافة العباسية لم يؤد بالضرورة إلى انهيار الثقافة العربية، بل أدى بسبب الهجرات إلى انتشارها على طول المحيط الهندي. هذا الانتشار ترافق مع سيطرة سياسية واسعة للمغول، على طول العالم الآسيوي، ومن اللافت أنّ المنطقة صارت، إن صحّ الوصف، تتحدث لغة قريبة ومتشابهة في مفرداتها الإسلامية والعربية والثقافية. هذا وفّر فرصة كبيرة للعلماء المسلمين للانتشار، وأبرز من يمثل هذا الامتداد هو ابن بطوطة.
ففي حالة ابن بطوطة، نرى أن هذا العالم المولود في بداية القرن الرابع عشر زمن التوسعات المغولية، قد تمكن بفضل انتشار الثقافة العربية والتوسع المغولي، من اكتشاف عالم المحيط الهندي. وقد لاحظ في رحلاته مدى انتشار العرب في المحيط، ليسوا محاربين، بل تجارا ومغامرين في قوس المحيط الهندي، كما أبدى اندهاشه من مدى انتشار اللغة العربية، فقد بدت له مدينة دلهي مكاناً يهاجر إليه العرب في خطوة تشبه هجرة الهنود هذه الأيام إلى منطقة الخليج. ولذلك يمكن القول، إن ابن بطوطة، الذي ظهر في القرن الرابع عشر، لم يكن مجرد مبادر فردي، أو مثقف مسلم خرج ليستكشف العالم المحيط به، بل كان ابن عصر المغول، والبنية التحتية المغولية، التي فتحت الطرق من بغداد إلى آسيا، وأصبحت الحركة فيه أكثر سهولة مقارنة بالقرون السابقة. وبالتالي فهو في بعض وجوهه نتاج مباشر لتطور هذه المرحلة التاريخية الكبرى، وتجربته تعكس ذلك الامتداد الجغرافي والثقافي الواسع للعالم الإسلامي.
الرؤية الإيجابية تجاه المغول هذه، انعكست أيضا في آراء بعض المثقفين المسلمين في تلك الفترة، مثل الدمشقي ابن عربشاه، الذي كتب عن الدولة التيمورية. فقد أُخذ أسيراً بعد غزو تيمورلنك لدمشق عام 1400 وعاش لسنوات في سمرقند. لكنه، عندما عاد، كتب مؤلفه الشهير «عجائب المقدور في دولة تيمور»، وأبدى فيه تقريظاً لتاريخ تيمورلنك الذي أخذه أسيراً. وهو ما أثار استغراب المؤرخين: كيف بأسير يكتب عن آسِره بإعجاب؟ لكن سرعان ما نكتشف أن ابن عربشاه تعلم الحديث والقرآن في سمرقند، وأن علماءها وفّروا له مساحة لاكتشاف عالم إسلامي أوسع. ومع مرور الأيام أدرك أن المغول تمكنوا من تشكيل شبكات عالمية إسلامية كبيرة داخل العالم الآسيوي.
هذه الرؤية التاريخية تؤكد أن المغول، رغم سمعتهم كغزاة ومدمرين، كانوا جزءا من حركة أكبر من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي شهدها العالم الإسلامي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لقد كانوا غزاة من جهة، لكنهم كانوا أيضاً وسطاء ثقافيين، أعادوا تشكيل المشهد الإسلامي والعربي في صورة جديدة.