ثمة مفاهيم سياسية أسطورية مندرِجة في بنية الخطاب السياسي العربي، ينبغي كشف النقاب عنها، قراءة ما سكتت عنه وخبأته خلف قناعها، منها أسطورة الافريقي الملون، الذي اعتلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية مُمَثلا بالكيني الأصل (أوباما) أو الآسيوي الملون مرموزاً إليه بـ(ريشي سوناك) الهندي الأصل الذي أصبح رئيساً لحكومة بريطانيا منذ 5 يوليو/تموز 2022، وهي أسطورة كونها كثيرٌ من المثقفين العرب في أذهانهم اعتماداً على ما يعرفونه عن الرجلين، قبل فوزهما في الانتخابات في كلا البلدين، وقد تفاءل كثيرون من الباحثين العرب، ومنهم كمال أبوديب وعبدالخالق عبدالله، باعتلاء أوباما سدة الرئاسة الأمريكية لأنه كيني الأصل، إسلامي الديانة، ومن شريحة بورجوازية متوسطة، واعتقدوا، استناداً إلى ذلك، أن الرجل سوف يكون، بحكم أصله وديانته وانتمائه الاجتماعي، نصيراً لقضايا المُهمشين والمظلومين في العالم ككل، وسوف يتخذ موقفاً نبيلاً من القضية الفلسطينية، ويتعاطف معها، وسوف ينحاز إلى حركة حماس في صراعها الدائر مع إسرائيل، ويبرهن من خلال هذا الموقف عن وجه إنساني مغاير لوجه جورج بوش القبيح؛ الذي تكشف بجلاء في الحربين الضاريتين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة ضد «الإرهاب!» و«الديكتاتورية!» في العراق وأفغانستان، وقد كتب أبوديب مقالين منفصلين في مجلة (دبي الثقافية / المحتجبة / العددين 46 و48) تناول فيهما شخصية أوباما، وقدم سردية لشخصيته، من خلال تحليل لنتاجه الفكري، والابتعاد ما أمكن عن القراءة الإسقاطية المغلقَة التي تحمل الظاهرة أو الشخصية ما ليس فيها، وتُضفِي عليها رغبات ذاتية لا تستبطنها، أو لا يمكن أن تتحملها. وحاول، في تحليله لهذه الشخصية، الوقوف على الحياد والتجرد ما أمكن، إلا أنه لم يُحسِن إخفاءَ مؤازرتِه لها، وتعاطفَه المشبوبَ معها، وهلعَه من أن تخفق في تحقيق حلمها، مع ما يستبطنه هذا الهلع من رغبة دفينة لدى الكاتب في الإبقاء على السياق والبنية التي دفعت بأوباما إلى السطح.
ويصل تماهي أبوديب مع أوباما إلى حد أن عينيه تغرغرتا بالدمع، وهو يقرأ كلماته التي يتحدث فيها عن زيارته الأولى لكينيا، ويصف فيها كيف يلتئم جرحُ تمزقه، ويلتئم بذاته، ويجد نفسه محبوكاً بهُويته الأصلية منتشياً بها، وهو يُنادَى باسمه من قبل مضيفة سوداء ترتدي زي مضيفات الخطوط الجوية البريطانية، وينقل أبوديب ما كتبه أوباما عن تلك اللحظة قائلا: «للمرة الأولى في حياتي شعرتُ بالراحة وبصلابة الهُوية التي قد يمنحُها الاسمُ للإنسان، وكيف يمكن أن يحمل الاسمُ تاريخاً بأكمله في ذاكرة أناسٍ آخرين، لقد انتسب اسمي وانتمى؛ ولذلك انتسبْتُ أنا، وانتميتُ « (دبي الثقافية، العدد 48). وقد وقف أبوديب، في دفاعه ذاك، مناوئاً للثقافة الأمريكية والأوروبية التي عملت على إشاعة نظرية دونية السود وتراتبية الأعراق المتقدمة والمتخلفة التي أسميَتْ في ما بعد (الرعية الخاضعة)؛ حيث كان الأوروبيون يملكون ما اعتبروه دليلا مباشراً على أنواع بشرية منحطة، كما يقول إدوارد سعيد في (الثقافة والإمبريالية، ترجمة : كمال أبوديب، دار الآداب، بيروت، ط2، 1998) .
وقد شابَه أوباما، في سردية أبوديب له، شخصية نابليون الضخمة التي تكاد تكون أيقونية في قصيدة هوغو «هو» (القصيدة في «الاستشراق» إدوارد سعيد، ترجمة: كمال أبوديب، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت، ط4، 1998) وحين صاغ أبوديب سرديته تحرر من نَزْعة العداء نحوه بوصفه أمريكياً ينتمي إلى دولة إمبريالية، وكتب عنه بوصفه مفكراً وإنساناً استطاع، في رأيه، أن يتحرر من السياق الإمبريالي المُشبَع بروح العداء للآخَر، وموْضَعَ ذلك بوصفه رئيساً في أفعال ملموسة، وهو، في رأيه، رئيسٌ عابرٌ للقارات، إنْ صح التعبير، لا ينضوي تحت لواء (الأمْرَكة) أو(الإمبريالية التقليدية) وأنظمتها، بل يتمرد عليها، ويعمل على نقضها، متجاوزاً (المفهوم الصلب للهُوية) ومناضلا ضد أفرقة الافريقي، وشرْقَنة الشرقي، وغرْبَنة الغربي، وأمْرَكة الأمريكي. وقد تحرر أبوديب، في إنشائه لسردية أوباما، أيضاً، من مفهوم الهُوية المتصلبة الساكنة، وبدا مناوئاً شرِساً لها كصديقه إدوارد سعيد؛ لأنها في رأيه صنفت نفسها نقيضاً للآخَر، وأقامت الحواجزَ بينها وبين العالم، ونظرتْ إليه على أنه معادٍ لها سلفاً، لأنه ينتسب إلى أمةٍ مغايرةٍ لها، وعرقٍ آخرَ وسياقٍ مختلفٍ، وقد نافح كصديقه إدوارد سعيد، أيضاً، ضد الهُوية العُزْلوية المتشبثة بتاريخ مُتخيل، وذات متوهمة، وسردية مُختلَقَة، وأسس لروح الهُيام بالإنسان أياً كان عرقُه ولونُه وجغرافيتُه، ذاهباً إلى أنه آن الأوان لنا لكي نؤسس لـ(هُوية هجينة) أكثرَ إنسانيةً وفاعلية في بناء الثقافة والارتقاء بالإنسان. وقد نبه إدوارد سعيد نفسُه إلى ذلك في كتابه «الثقافة والإمبريالية» حين قال: «مبدأ الهُوية مبدأ سكوني أساساً يُشكل لباب الفكر الثقافي خلال العهد الإمبريالي، وينهض على أن ثمة شيئاً جوهرانياً هو (نحن) وشيئاً هو (هم) وكل منهما مستقر تماماً، جلي مُبِينٌ، لذاته، وشاهدٌ على ذاته بشكل حصين منيع، وفي رأيه أن (الهُوية) لا تنضوي على ثبات، أو فذاذة، أو شخصية غير قابلة للتقليص، أو على مقام امتياز، معطاة وجودياً ومجتمعة إلى أبد الآبدين، كشيء كلي وكامل في ذاته، ومن ذاته (الثقافة والإمبريالية).
والواقع أن أوباما كشف، في مجمل خطاباته ولاسيما في (خطاب القاهرة) كما نعلم، عن وجه آخر مغاير لما يراه أبوديب، قد يكون أقربَ إلى وجه الواعظ والمبشر، وحاول أن يؤكد لمشاهديه ومتابعيه، أنه يتمتع بحس أخلاقي رفيع، ويحمل رسالة إنسانية تقوم على احترام العقائد والأديان، وتدعو إلى تطبيق القانون والمساواة وتحرر المرأة، وتنهض على الرغبة العارمة في تحقيق الخير والسلام في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، كما حاول أن يخلق لدى مستمعيه ميلا لقبول الولايات المتحدة الأمريكية بينهم من جديد، والتخلي عن فكرة أن لها مطامع استعمارية ورغبة في الهيمنة على مُقدرات حياتهم من جديد، فضلا عن أنه حاول أن يعزف على وتر «المشترَك» بين بلاده، وهذه الدول، وإظهار أن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق، ولاسيما في خطابيه الموجهين إلى تركيا وإيران، ولذلك لا عجب أن تنهض رموز أصلانية (حسب تعبير إدوارد سعيد) لمقاومة هذا النزوع / الإنساني التبشيري، والكشف عما يخبئه من مطامع مخبوءة. وليس هناك من شك في أن جمهرة كبيرة من المثقفين العرب، وفي مقدمتهم الإماراتي عبدالخالق عبدالله (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات) تعاملوا مع وعود أوباما المُتضمنة في خطاباته وحواراته، ولاسيما في خطاب القاهرة، على أنها «حقائق واقعية» و»نوايا طيبة « قيد الموضَعة والتنفيذ، محتذِين في ذلك خطى الشريف حسين في مراسلاته مع مكماهون، واقعين في المطب نفسه الذي وقع فيه أسلافُهم العرب في تعاملهم مع الوعود البريطانية، التي تكشفت في نهاية الأمر عن أنها لم تكن سوى فعل مخادع ينم عن انعدام الشرف، حسب توصيف إدوارد سعيد لها في تحفته (الثقافة والإمبريالية). وفي ظنِي أن سردية أبوديب المُبتَدعَة عن أوباما ساوت بين (أوباما الإنسان) الذي ساهمت في تشكيله أممٌ عديدة، وعروقٌ متباينة، وثقافاتٌ متنابذة، ورؤى متغايرة، و(أوباما الرئيس) الذي وضعته إمبرياليةٌ متوحشةٌ واحدة على كرسي، وكلفته بأن ينفذَ استراتيجيتها، ويُمَوضِعَ سياستها على أرض الواقع، ويعبـرَ عن مصالحها الاستعمارية، ويقودَ مسيرتها المتعثرة إلى الأمام، لإعادة الهيمنة على العالم من جديد، وهي فضلاً عن ذلك، سردية ذاتوية لا تتردد في الإفصاح عن نفسها، على الرغم من امتلاكها القوة المعرفية والسند التاريخي، وتنوء تحت ثقل عاطفة مشبوبة تُرخِي بكلكلها على المتْن والمبنى معاً، وهي تحاول صياغة إنشائها المُبتدَع، والدفاعَ عن موضوعيتها، وليس أدل على ذلك من هذا المقطع الذي يختم به أبوديب صياغته لهذه السردية بانحياز واضح إلى صاحبها؛ حيث يقول فيه: «هذا رجلٌ فذ، تحس فذاذته حين تقرؤه، وتحسها حين تبصره، وتراها وهو ينتصب بقامته الفارعة، وابتسامته الشاسعة، وملامحه الحادة، وسلاسة حديثه الشادة بين رجال الحكم وساسة العالم، وتراها وهو يخطر مسترخي القامة بين حشود الشباب الذين يتكدسون في المقاعد للاستماع إليه، ويرنُون بانسحار إلى كل حركة من حركاته. نجم سينمائي (أوروك ستار) ساطع، ومثقف ممتع بارع، ورجل سياسة داهية لامع، يعرف كيف يفتن، وكيف يأسر ويفتن، ويدرك من أين يدخل إلى العقول، وكيف يقطن القلوب) (دبي الثقافية).
أما عبدالوهــاب الأفنــدي، فقد كتب مقالاً في صحيفـة «القدس العربي» بعنوان «أوباما الأخرس وآخرون ليتهم كانوا» بتاريخ 16/ 1/2009، حمَل فيه على أوباما وفريقه الرئاسي حملة شعواء، ووصفه بأنه صهيوني الهوى، وساقطٌ في ميزان القيم الأخلاقية؛ لأنه لم يتخذ موقفاً واضحاً من الحرب الدائرة في غزة، ولم يستهجن المجازر التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين والنساء والأطفال، مسوغاً ذلك بأنه «لم يتول الرئاسة بعد» وانتهى الأفندي، في مقاله السابق، إلى أن «أي شخص لا يكون لديه موقف أخلاقي معلن حيال هذا الحجم من الجرائم لا يستحق أن يكون من البشر، ناهيك من أن يكون رئيس أقوى دولة في العالم».
وفي رأيي أن تصرف أوباما وموقفه من الحرب في غزة كانا منسجِمين مع موقف بلاده واستراتيجيتها السياسية العامة، ومعبرين عنها خير تعبير، وليس في ما قاله تعارضٌ مع هذه السياسة إطلاقاً، كل ما في الأمر أننا بنينا قصوراً من الأوهام حول أوباما ذي الجذر الافريقي، وحملْناه رغباتنا وأحلامنا في تغيير واقعنا على الأرض، وكونا صورةً غير واقعية عنه، أو أضفْنا إلى صورته الواقعية سماتٍ نحلم بها في مثلنا الأعلى، وحاكِمنا العادل، وبطلنا المُنتظَر؛ وهكذا اعتقدنا أنه سيفعل ما يجب أن يوازي صورته في أذهاننا، لا ما ينبغي أن يقوم به بوصفه أمريكياً، وأنه سيغير من استراتيجية بلاده حيال إسرائيل كرمى لعيوننا، وسيكون بطلَنا المرتجى وفارسَنا الأمثل القادم من بلاد واق الواق، وسيخرج عما عهدناه من مواقف للرؤساء الأمريكيين السابقين له، ويقف معنا ومع قضايانا العادلة، وهذا، في رأيي، غير صحيح من طرفنا نحن، وليس من طرفه هو؛ لأن أوباما كان مكملاً للسياسة الخارجية الأمريكية ولسان حالها الناطق، وليس معارضاً لها، ومهما كان رأيه في القضايا الخارجية الحساسة كقضية الصراع العربي الإسرائيلي، أو الموقف من إيران وملفها النووي؛ أو غيرها من القضايا، فلن يخرج على سياسة بلاده فيها، أو يضحي بمصالحها كرمى لعيون العرب، أو غيرهم. لقد عمل أوباما كجورج بوش وغيره من رؤساء أمريكيين سابقين وفقاً لمصلحة لبلاده، وجسدها في سياسته خير تجسيد كما نعلم، صحيح أنه اختلف قليلا عن بوش أو غيره في التعبير عن هذه المصلحة، أوفي هذه الجزئية أو تلك، وقد يكون سلك طريقاً مغايراً لطريق بوش في تجسيد هذه المصلحة على أرض الواقع، أو في الحقل التنظيري، لكن سلوكه، في نهاية الأمر، أو مواقفه أو مفاهيمه، عبرت بطريقة أو بأخرى، عن نهج بلاده وسياستها الخارجية الاستعمارية التي تقوم على التوسع والهيمنة، التي لا يمكن أن تقف موقفاً آخر من إسرائيل طفلتها المدللة، لأن إسرائيل هي الوجه المكمل للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وكل انتصار أو هزيمة لها إنما هو هزيمة أو انتصار للولايات المتحدة الأمريكية ومشروعها في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم.
لقد جسد أوباما على أرض الواقع بجلاء مقولة اللورد بالمرستون/ وزير خارجية بريطانيا، في ثلاثينيات القرن المنصرم، عندما قال: «لا يوجد أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط» (نقلاً عن صبحي حديدي في مقاله «كيسينجر حول غزة – خلائط من النظام الدولي الجديد/القديم» المنشور في «القدس العربي» لندن، الجمعة، تاريخ 16/ 1/ 2009).
أما في تقييم ريشي سوناك وتفكيك شخصيته، وما يمكن أن ينتهجه من سياسة إذا أصبح رئيساً لمجلس وزراء بريطانيا، فأظن أن أنضج ما كُتِب عنه هو ما صدر عن الباحث خالد الحروب في منشور ثرٍ وقصير له؛ إذ وضَع الحروب لمنشوره عنواناً كاشفاً قال فيه: «إن ريشي سوناك ليس ملوناً ولا هندياً! بل هو، في جوهره الحقيقي، أنجلو- ساكسوني أبيض، متحول، ومُحافظ، ومنغمس في السياسات الأكثر رجعية في بريطانيا، وأحد الأبناء المدللين لمهاجرين أثرياء تستخدمهم المؤسسة البريطانية كديكور تجميلي لتعزيز شرعيتها، وإضفاء سمات كوزموبوليتانية تسويقية على سياستها. ويرى الحروب أن سوناك، فضلا عن ذلك «متصهيِن سياسي يرى أن إسرائيل منارة تقدم في الشرق الأوسط، وهو لذلك يحظى بدعم اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا وخارجها، كما أنه رجل أعمال شريك في استثمارات وشراكات مع إسرائيليين، سواء في بريطانيا نفسها أو في الولايات المتحدة، وقد أوصلته المؤهلات التي يتمتع بها إلى سدة رئاسة الوزراء رغم صغر سنه».
ولعلنا لهذا لا نزال نرى أن مصلحة الولايات المتحدة وبريطانيا تتجسد حالياً في بقاء إسرائيل ونصرتها وازدياد قوتها، وليس في الوقوف إلى جانب العرب وقضاياهم، وسيبقى الوضع قائماً على ما هو عليه إلى أن يتغير ميزان القوى في الشرق الأوسط، ويثبت العرب أنهم لاعبون أقوياء على مسرحه، ويسلكون سلوكاً يدل على أنهم دخلوا إلى التاريخ من جديد، بعد أن خرجوا منه، وأصبحوا على هامشه في مجالات الحياة الراهنة كافةً؛ وعندئذٍ يمكن لأوباما أو لريشي سوناك أو لغيرهما أن يعيروا اهتماماً للعرب، ويتصرفوا في الحياة السياسية على أنهم موجودون، ولهم ثقل ينبغي أن يُحسَب حسابُه، وإلى أن يحدث ذلك سيبقى الوضع على ما هو عليه، وسيبقى العربُ هم العنصرَ الأضعفَ في المعادلة السياسية الراهنة، وهم الطرف الذي يتلقى الضربات من كل القوى المتحاربة على مسرحهم، وفي أرضهم، دون أن يُحسِنوا الرد على أي طرف وفق الآلية التي تعبر عن مصالحهم وهويتهم، وتؤكد أنهم موجودون حقاً.