العربية ليست لغة،إنها لُغات،إذا نظرنا إلى اللغة، هنا، بمعنى الأسلوب.فالعربية،إذا اكتفينا بالنظر إليها، باعتبارها ماضٍ،فنحن نكون أخطأنا معرفتنا بها،لأنّ اللغة التي نكتب ونقرأ بها اليوم، ونستعملها في الإعلام، وفي المدرسة والجامعة، هي غير لغة «لسان العرب» فهي لم تبق سجينة ما قبل النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، الذي اعتمده ابن منظور، كمصدر ومرجع للعربية، إبَّان زمن التدوين، ولم يتجاوز هذا التاريخ إلى ما بعده، في جمع اللغة وتدوينها.
عربية الماضي، حين نقرؤها في سياقها الفنيّ الإبداعي والجمالي، فهي لغة استطاعت أن تخلق مجازاتها، وما ظهر فيها من مسافات عند عدد من الشُّعراء والكُتَّاب، في مستوى التخييل، أو ما عرفته علاقة الدال بمدلوله من توتُّرات، كان عبد القاهر الجرجاني الأكثر وعياً بضرورتها كخلق وإبداع، رغم أنه كان حريصاً على إعجاز القرآن، في مفهومه للنَّظْم، وهو ما استفاد منه النقد في النظر إلى الشِّعر، وفي الانتقال من المعنى الواحد، إلى ما سمَّاه بمعنى المعنى، الذي سنجد بول ريكور عاد بعد كل هذا الزمن ليتحدث عنه في سياق جمالية أخرى، لها سياقاتها الإبداعية التي هي غير سياقات الماضي.
اليوم، صرنا نزدري هذه اللغة، ونحكم عليها، بنوع من التعصُّب الجاهل بالعربية في تاريخها الجمالي، وثمة من ربطها بالتعصُّب، وبالإرهاب، وهذا جهل مُطْبِق عند هؤلاء، رغم أنهم هم أيضاً يكتبون باللغة العربية. لا يَهُمّ، فقط، علينا أن نفهم ما في مثل هذه المواقف من فقر في العلاقة باللغة العربية، كلغة العرب، وهو الفقر نفسه، في علاقتهم بالثقافة العربية، التي يختزلونها في بعض السلفيات المغلقة، من الحكم بالجزء على الكل. والغريب أن هؤلاء، حينما يتعلق الأمر باللغة الفرنسية، مثلاً، ينبرون للدِّفاع عنها، وينسون أن هذه اللغة نفسها، هي لغة لها ماضيها، وفيها ما مات، وما توقَّف عن الاستعمال، ربما كون الفرنسية تتجدَّد، في معاجمها، ما أوحى لهم بكونها لغة حية، والعربية لغة ميتة، وهذا خلل في التمييز بين ما يكون في اللغة في ذاتها، وفي المؤسسات التي ترعى هذه اللغة.
حين نقرأ الشعر والفكر والرواية والقصة والمسرح، والأعمال الإبداعية، مما ينتمي إلى الحداثة، أو ما يتميَّز منها بالجرأة في الابتداع، وفي الاختراقات التي تتم فيها، في مستويات مختلفة، خصوصاً في طبيعة التركيب والبناء، سندرك أن العربية التي في هذه الأعمال، تفوق الفرنسية نفسها، وهي لغة تُضاهي لغات الكون وتتجاوزها. مشكلتنا هي الترجمة، وهي نظرة الآخر إلينا، ونظرتنا القاصرة إلى ذواتنا، ما عطَّل اكتشافنا لما يجري في اللغة من اختراق واختلاق، ومن اكتشاف من نحن، وما عندنا من تِبْر كامن في ما نعتبره تُراباً.
العربية اليوم، هي لغة حيَّة في ما نكتبه، وما نُعيد به رؤية العالم والأشياء. وليست لغة واحدة، بل هي لغات، بمعنى أنها أساليب، وطُرق في الكتابة والإبداع، وفي خلق المسافات الفنية الجمالية الممكنة في تطور اللغة، وفي حياتها وحيويتها، خارج المؤسسات وبعيداً عنها.
٭ شاعر وناقد مغربي
مشاريع التغيير الغائبة: عبد الله العشي
واجهت العربية “الآخر” في لحظتين حاسمتين من تاريخها، ودخلت في تحدٍّ مرتين، مرة في العصر الوسيط، ومرة في العصر الحديث، فبينما استطاعت أن تواجه في المرة الأولى، تلكأت واضطربت في المرة الثانية.
والأمر لا يعود إلى اللغة في ذاتها، إنما يعود إلى الثقافة التي تؤطرها وتسندها؛ ففي العصر الوسيط كان ثمة حضور قوي للثقافة العربية في مجالات العلوم المختلفة، وكان خلف هذه الثقافة أمة قوية لها وزنها التاريخي في العالم آنذاك. فكانت العربية تتعامل مع الثقافات الأخرى من موقع القوة وتتحاور معها حوار الندّ للندّ، وتحول ما تنقله إلى جزء من ثقافتها و تخضعه إليها ولا تنخضع إليه.
أما في العصر الحديث فالأمر مختلف؛ فقد غابت تلك الدولة العالمية القوية وانحدرت تلك الأمة، فتم الاتصال بالآخر تحت إكراهات تاريخية أفرزتها سياسات الاستعمار، فلم يكن للعربية خيار، كانت مدفوعة إلى الغرب دفعا ومن موقع الضعيف، ولم يكن لها ما يكفي من القوة الذاتية لتتقي أضرار هذا التواصل.
وهنا بدأت الدعوات إلى التطوير الشامل تحت شعار النهضة العربية، وطرح السؤال كيف نتقدم، وانشغل العرب بالإجابات بينما انشغل الاستعمار بالتوغل في كل مجالات الحياة العربية، ولم تكن إجابات العرب كافية لإيقاف الزحف الثقافي واللغوي الغربي. وأهم ما قاموا به بعد سنوات بدافع ذاتي أو خارجي، هو العمل على تحديث اللغة، وانشغل القوم بالمسائل التقنية في اللغة ظنا منهم أن الخلل في بنية اللغة، ولم ينشغلوا، جدّيا، بحالها الثقافي والسياسي والفكري. وانصرف كل واحد يشتغل تحت إكراهات إيديولوجية مختلفة وبضغط جهات أجنبية أو داخلية مختلفة، ولم يخل انشغالهم من صراعات سياسية وإيديولوجية.
اللغة لا تُطوَّر لغايتها وفي ذاتها، لكنها تُطَوَّر من أجل أن تكون وسيلة لتحصيل المعرفة الضرورية، والمعرفة أيضا لن تكون مهمة في ذاتها ما لم يكن لها أثرها في الواقع الاجتماعي، ونحن في وضع معقد، ومن الصعب ترتيب أولوياته، فكل شيء يحتاج إلى تحديث، سواء ما كان ماديا أو معرفيا، وكل شيء يحتاج، لأجل أن يتطور، إلى تطوير الأمر المجاور له والقريب منه.
لم تشهد العربية وضعا تاريخيا مثل ما تشهده الآن؛ فهي في حالة أقرب مما تكون إلى حرب اللغات، واللغات في زمن العولمة لا تخوض حروبها بذاتها، أي باعتبارها لغات فقط، بل تخوضها بآليات أكثر قوة وأشد تأثيرا، بفعل قوة الثقافة والاقتصاد والمال والإعلام والسياسة والعلم والتكنولوجيا، ولم يتح للعربية أن تمتلك مثل هذه الأسلحة، وليس أمامها في هذي الحال إلا أحد أمرين: إما الاستعانة بالماضي، أو التبعية للغرب، وفي الحالتين تضيع ذاتها وتخرج من تاريخها.
والغريب أننا أسرى السؤال الذي طرح مع بدايات التنوير العربي والمتعلق بسؤال التقدم، ومازلنا كذلك، رغم التحولات الكثيرة في العالم، ورغم التجارب الخاطئة التي مررنا بها. أسرى نفس الإجابات عن ذلك السؤال، لم نكتشف أسئلة أخرى ولا قدمنا إجابات جديدة، ولا قدمنا رؤى مختلفة، مازلنا نطرح نفس السؤال الذي أثبتت الوقائع هشاشته، ونقدم نفس الإجابات التي بينت الوقائع ضحالتها وقصورها.
نتساءل اليوم كيف يمكن تحديث العربية في ظل ثقافة تعتمد في مجمل معارفها على الآخر الغربي، وفي ظل أنظمة سياسية لم تنجز ما ينبغي على أي نظام أن ينجزه، وفي ظل مجتمعات تتجاوز نسبة الأمية فيها ثلث سكانها، وتحت ضغوط أجنبية تكاد تفقدنا سيادتنا، وفي واقع عالمي يخوض حروبا مضمرة أو ظاهرة لا نكاد ندرك مقاصدها، وفي ظل غياب استقرار اجتماعي وأمني، وفي واقع اقتصادي يمس الفقر نسبة عالية من سكانه، إضافة إلى مؤسسات قاصرة وأنظمة تعليم متخلفة ومؤسسات إدارية فاسدة وغياب للعدالة والحرية والديمقراطية، إضافة إلى الضغوط العالمية التي توجهها العولمة ومؤسساتها. ما الذي ينبغي إذن أن نبدأ به كي نقوم بتحديث اللغة في ظل هذه المشكلات المتداخلة، وما هي الاستراتيجية السليمة التي يجب اعتمادها؟
اللغة لا تُطوَّر لغايتها وفي ذاتها، لكنها تُطَوَّر من أجل أن تكون وسيلة لتحصيل المعرفة الضرورية، والمعرفة أيضا لن تكون مهمة في ذاتها ما لم يكن لها أثرها في الواقع الاجتماعي، ونحن في وضع معقد، ومن الصعب ترتيب أولوياته، فكل شيء يحتاج إلى تحديث، سواء ما كان ماديا أو معرفيا، وكل شيء يحتاج، لأجل أن يتطور، إلى تطوير الأمر المجاور له والقريب منه. فمن أين تبدأ الحلول، وما الأمر الذي ينبغي أن نراهن عليه لإنجاح عملية التحديث؟ واضح أن “الكل يحتاج إلى تطوير”، لكن الكل ينبغي أن يرتبط برؤية واستراتيجية ومشروع، والمشاريع التي تم تنفيذها لم تثبت نجاعتها إلى اليوم، لقد فشلت كلها وما تزال في نقطة البداية رغم ما تم إنجازه من مؤسسات، لكنها بقيت بلا فاعلية لم تساهم في الإقلاع الحضاري، ولم تدفعنا إلى الأمام. وينبغي أن لا نتفاءل كثيرا بالاعتراف العالمي باللغة العربية وثقافتها وتخصيص يوم سنويا للاحتفاء بها على الرغم من أهمية ذلك، كما ينبغي أن لا يلهينا ذلك عن ضرورة الإقرار بتخلفنا. ما عساه يفيد هذا الاعتراف إذا كانت اللغة غريبة في أوطانها مغيبة على مستوى الإعلام والإدارة والتعليم، مهانة لدى أبنائها ومستبعدة من الاستعمال العام.
٭ شاعر وأكاديمي جزائري