تعزيز أدوار اللغة:غزاي درع الطائي..أبدأ كلامي في اليوم العالمي للغة العربية بالقول إننا نحتفل باللغة العربية لمدة يوم واحد في العام،لكن علينا أن نعمل من أجلها كل يوم.
ولا أقول في اليوم العالمي للغة العربية:قفوا نبكِ، ولا أطلب من الشعراء أن يكتبوا مرثياتهم للسان العربي ، ولا أركب مركب التشاؤم وأنا أنظر إلى واقع لا يسر الناظرين، وأنا أعرف، أعرف تماما، أنّ اليد الواحدة لا تصفق، لكني أعرف في المقابل أن اليد الواحدة قادرة على أن تقوم بأعمال كثيرة، وأقف لأقول: إن اللغة العربية كانت وما زالت، عبر أدوارها التاريخية المختلفة، حلقة وصل وتواصل، ووسيلة حوار، وراية سلام، وأداةَ استحداثٍ وتحديث للمعارف والعلوم ونقلها وتناقلها، ومرآة للشعر والأدب وللثقافة بكل أصولها وفروعها، وركيزة مشتركة بين أبناء الأمة في السراء والضراء؛ إنّها اللغة التي امتدت من أطراف الصين إلى سواحل الأطلسي، وتميزت بحروفها وحركاتها وألفاظها وتراكيبها وأصواتها ونحوها وصرفها وإملائها وبلاغتها وتفردت بأساليبها المتنوعة، وكانت لغة للحياة كلها بما فيها من فكر وعلم وأدب وفن وثقافة وحضارة، ونزل بها القرآن الكريم فكُتب لها الحفظ بحفظه، ومع الحفظ كُتب لها الخلود والسمو والرفعة.
وفي الوقت الذي نجد فيه العشرات من اللغات في العالم مهددة بالانقراض سنويا، بسبب تناقص عدد المتكلمين بها، فإن اللغة العربية تبدو شابة دائما، وثابتة وقوية، ونامية ومتجددة، بالرغم من كل ما يحيط بها من انكسارات وانهيارات وتراجعات، وهي اللغة التي تُستخدم على نطاق واسع في العالم؛ فهي اللغة الرابعة في العالم من حيث عدد المتكلمين بها، إنها لغة أكثر من (400) مليون عربي يملؤون ما بين المحيط والخليج، فضلا عن أن أكثر من مليار ونصف مليار مسلم في طول الأرض وعَرضها يحتاجون إليها في أداء صلواتهم ومناسك حجهم وتلاوتهم للقرآن الكريم. وهي لغة رسمية في منظمات ومؤسسات دوليه عديدة، منها: منظمة المؤتمر الإسلامي، والإتحاد الإفريقي، وصندوق النقد الدولي، والإتحاد الدولي لجمعيات المكتبات ومؤسساتها، ومنظمة شرطة الجرائم الدولية، وتجمُّع دول الساحل والصحراء، فضلا عن كونها لغة من اللغات الست الرسمية في الأمم المتحدة وهيئاتها ومؤسساتها.
إن اللغة العربية مظهر من مظاهر الأمة العربية، وحال اللغة العربية مثل حال الأمة العربية، وما دامت الأمة في تراجع ونكوص وتقاعس وانتكاس، فإن حال لغتها مثل حالها. وهنا لا أريد ان أكون متشائما وأنا من الداعين إلى التفاؤل، ولا من المتطيرين من الإظلام وأنا من العاشقين للإشراق، لكن النقاط يجب أن توضع على الحروف، والمسمَّيات يجب أن تُسمّى بأسمائها.
إن اللغة العربية في أمسّ الحاجة إلى تعزيز مكانتها، وتحقيق حمايتها، ودفعها إلى الأمام في ميادين التمكين المختلفة، وكل هذا لا يمكن الدفع به إلى الأمام إلا عن طريقين مهمين هما: تشريعات القوانين التي تحمي اللغة العربية، وإيجاد المؤسسات الفاعلة الخاصة بالعناية بها، ورب قائل يقول: لقد أصدرت العديد من الدول العربية قوانين وأوامر وتعليمات وتوجيهات تهدف إلى حمايتها، وهنا أقول لهذا القائل: ليست العبرة بالتشريع، بل بالتنفيذ ، فكم من القوانين التي صدرت هنا وهناك في هذه أو تلك من الدول العربية ظلت حبرا جافا على ورق بارد، وشابها الكثير من التسفيه والإهمال والتغاضي والكسل .
إن اللغة العربية مظهر من مظاهر الأمة العربية، وحال اللغة العربية مثل حال الأمة العربية، وما دامت الأمة في تراجع ونكوص وتقاعس وانتكاس، فإن حال لغتها مثل حالها. وهنا لا أريد ان أكون متشائما وأنا من الداعين إلى التفاؤل، ولا من المتطيرين من الإظلام وأنا من العاشقين للإشراق، لكن النقاط يجب أن توضع على الحروف، والمسمَّيات يجب أن تُسمّى بأسمائها. وقول الحق في ظل اللغة في مكانه وزمانه هو نصرة لها وليس تجنِّيا عليها، وفي كل الأحوال لا يمكن غض النظر عن العديد من الإخفاقات اللغوية، التي منها شيوع الغلط اللغوي (النحوي والصرفي والإملائي) شيوعا لم يعد بالإمكان القبول به والسكوت عليه، ومن ذلك شيوع هذا الغلط في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام وفي (فيسبوك) خاصة، وهو الأكثر استعمالا عندنا؛ فمن المعيب أن نقرأ (لكي) و(جدن) و(نورن) والمقصود هو على التوالي (لكِ، جدا، نورٌ) والأكثر سوءا من هذا هو انتشار الغلط اللغوي عند العديد من الأدباء والكتاب والشعراء، وأصبح الغلط النحوي والصرفي والإملائي في المقالات والدراسات وفي الكتب وفي المهرجانات من الظواهر المعيبة، ومما يؤسف له هو بروز من يدعو إلى عدم الالتفات إلى هذه الأغلاط ، لأسباب واهية وضعيفة الحجة .
وهنا أعرض عددا من المسائل التي أرى أن لها أهميتها ، أمام الحريصين على اللغة العربية تاريخا وحاضرا ومستقبلا :
1 . من الضروري العمل من أجل تحديث المعاجم العربية لاستيعاب ما استجد من ألفاظ وتراكيب، أنتجتها تراكمات الأيام والأعوام، وفرضتها حاجات العلوم والفنون والآداب، وطرحتها للاستخدام في البيت والشارع والسوق والمكتبة وفي الجامعة، لتلبية الحاجات المستجدة.
2 . من المنتظر أن تقوم مجامع اللغة العربية، وهي كثيرة، بواجبها تجاه اللغة العربية، وأن تتصدى لكل المحاولات التي تهدف إلى تقليص دور اللغة العربية الفصحى في الحياة ومرافقها بكل أنواعها وأشكالها، وأن تؤدي واجبها في تعزيز مكانة اللسان العربي ورعايته والعناية به وتقوية مركزه، ولا بد من أن يكون لها موقفها الحازم من ثلاث مسائل مهمة هي: الأولى: انتشار اللهجات في مقابل تقليص دور اللغة الفصحى في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والخطابات والاحتفالات والمنصات، وكذلك في البرامج الإذاعية والتلفازية. والثانية: النظر بجدية إلى أن يكون التعليم العالي والبحث العلمي كله باللغة العربية الفصحى، ولا يمكن استثناء كليات الطب والصيدلة والعلوم من هذا الأمر. والثالثة: العناية عناية خاصة بالمصطلح بكل أنواعه: العلمي والأدبي والفني والثقافي والقانوني والإداري والاقتصادي… إلخ، وضرورة المضي في متابعة ما استجد من مصطلحات عالمية في كافة مفاصل الحياة، وتوفيرها باللغة العربية، ومعالجة تعدد المصطلحات التي لها مفهوم واحد عبر مركزية لها فاعليتها، والتخلص من العشوائية وعدم الانتظام في العمل المصطلحي، وإضافة إلى كل ما تقدَّم أدعو إلى المزيد من التنسيق والعمل المشترك وتعزيز إطارات التبادل فيما بين مجامع اللغة العربية نفسها خدمة للغة العربية ولتوحيد العمل المجمعي الناضج والمثمر .
3 . لا بد من ترصين أسس تعليم اللغة العربية في كل مراحلها، ولا بد من إعادة النظر في المناهج التعليمية وفي طرائق تدريس اللغة العربية ابتداءً بالروضة وليس انتهاءً بمرحلة الدراسات العليا، من أجل تحبيب اللغة العربية للمتعلمين والكشف عن جمالياتها والسعي إلى تذوقها والتعرف على آدابها وفنونها وبلاغتها وأساليب القول فيها، ومن بين ما اضطرني إلى طرح هذا الأمر، هو أن خريجي أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية أنفسهم، أو الكثيرين منهم، لا يجيدون اللغة العربية نحوا وصرفا وإملاءً ونطقا، بالمستوى المطلوب .
إن الحديث عن اللغة العربية وأحوالها طويل وعريض وعميق ومتشعب، فهي معنا حيثما نكون، وهي معنا دائما: عندما نقرأ وعندما نكتب، وعندما نغني وعندما نحب وعندما نفكر وعندما نحلم، وعندما نقرأ القرآن الكريم وعندما نصلي وعندما نؤدي مناسك حجنا. معنا في الفرح والحزن، في السكن والسفر، في كل مكان وكل زمان، وما دامت هي معنا ، فلا بد أن نكون معها؛ نعم ، لا بد أن نكون مع اللغة العربية .
٭ شاعر وأكاديمي عراقي
تثمين اللغة: العربي بنجلون
غالبا ما نربط غَيْرتَنا على اللغة العربية بكونها لبنةً أساسيةً لصيانة الدين والهوية والتاريخ، وتلحم بعضنا بعضا من المحيط إلى الخليج، وهي بالفعل، كذلك!…إلا أن الجيلَ الجديدَ له وجهة نظر أخرى، إذ يعتبرنا (منحازين) لرؤية قديمة تجاوزها العصر، وتعارض العولمة والتفتح على اللغات والثقافات. وأذكر أن مؤسسة يرتكز تعليمُها على الفرنسية، دعتني يومًا ما لأحاضرَ في (واقع اللغة العربية) وكان عليَّ أن أقنعَ طلبتَها بجدوى تعلُّمِها، ولا سبيلَ أمامي إلا ربطها بالمالِ والعملِ، لأن غالبية آبائهم يشتغلون في التجارة، أو مدراء ورؤساء شركات ومعامل، ومسيري مقاولات، أو يحتلون مناصب إدارية كبرى. فافتتحتُ محاضرتي بمثالٍ حي، تجلى في طبيبين بمدينة فاس: الأول، لا يعرف إلا اللغة الفرنسية، والثاني يجيد اللغتين معا. فكان عمومُ المرضى يلجأون إلى الثاني، لأنه يتواصل معهم بلغتهم الأم، ليحصل التفاهمُ والتفاعلُ بينهم، ما جعله يحصدُ حصةَ الأسد منهم، أكثر من الأول. وبهذا المثال، أحسوا بالدور الذي تلعبه اللغة العربية في الدخل الفردي للمواطن، ونجاحه في عمله، سواء كان المتعلمُ لها طبيبا أو مهندسا أو تاجرا أو مسؤولا… وهنا تماديتُ في تعداد فوائدها على الاقتصاد الوطني، وعلى التنمية بصفة عامة. فالدول المتقدمة تنظم جوائزَ عالميةً للأعمال الأدبية المكتوبة بلغتها، وتشيد مراكز ثقافية ولغوية، لتقوي حضورها، وبالتالي، لتخلق أسواقا لمنتوجاتها، منافسةً لغيرها. فالغاية من تلقي اللغة، أي لغة، هو تشكيل عقلياتٍ قابلةً لتستهلك صناعاتها، وتنمي اقتصادها بدرجة أولى، قبل الأهداف الأخرى. لكنْ، مع تقدم العمر، والمرور بتجاربَ حياتيةٍ، يصبح المواطن متشبثا بلغته، كرصيد ثقافي وهوياتي، يحمي ذاته من الذوبان في الآخر. لهذا أرى أن السبيل إلى إقناع الأجيال الصاعدة بجدوائيةِ اللغة العربية، يمر عبر دورها في صيانة الاقتصاد الوطني، الذي هو عصب تنميتها واستثمارها…!
٭ أديب وكاتب متخصص في أدب الطفل