تخطي إلى المحتوى
في اليوم العالمي لمنع الانتحار: لماذا ينتحر الكتّاب والشعراء العرب؟ في اليوم العالمي لمنع الانتحار: لماذا ينتحر الكتّاب والشعراء العرب؟ > في اليوم العالمي لمنع الانتحار: لماذا ينتحر الكتّاب والشعراء العرب؟

في اليوم العالمي لمنع الانتحار: لماذا ينتحر الكتّاب والشعراء العرب؟

العاشر من أيلول/سبتمبر هو اليوم العالمي للحدّ من ظاهرة الانتحار، ففي كل عام حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية ينتحر قرابة ثمانمئة ألف إنسان، أي حالة انتحار كل أربعين ثانية، وهو في بعض الدول كاليابان مثلا السبب الأول للوفيات بين الشباب من سن 14 إلى 30 عاما.
في كتابه المهم «الانتحار» أكد دوركهايم، أن الانتحار هو فعل اجتماعي يقوم به الفرد على أربعة أسس: الأنانية، الإيثار، القسرية، التمردية (اللامعيارية). ولا يقتصر الانتحار على عموم الناس، بل يتعدى إلى صفوة المجتمع من كتاب وشعراء وفنانين، وفي الغرب انتحر عدد مذهل من مثقفي الغرب من الأدباء، لعل أشهرهم: همنغواي، ماياكوفسكي، جيرار دي نرفال، فرجينيا وولف، تشيزاري بافيزي، آرثر كوستلر، هارت كراين وغيرهم.
في العالم العربي ينظر إلى الانتحار بكثير من النبذ والشجب والإدانة، فهو فعل محرّم كما ورد في القرآن (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، وفي حديث النبي (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته بيده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا).
فالمنتحر في الثقافة العربية يصم نفسه وأسرته، لأن الحديث عن الانتحار ذاته هو أحد التابوهات، ناهيك من الإقدام عليه: بيت المنتحر، أخ المنتحر، ولد المنتحر، إلخ. هذه التصنيفات تجعل أسرة المنتحر في ورطة اجتماعية، ولذا كثيرا ما يُخفى أمر انتحار أحدهم، كما ترفض العائلات التعاون مع الباحثين بشأن انتحار ذويهم. على قلة المراجع التي قاربت الموضوع مقاربة علمية موضوعية، لا يمكن للقارئ أن يتجاوز كتاب المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري «انتحار المثقفين وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، وكتاب خليل الشيخ «الانتحار في الأدب العربي» وكتاب جمانة حداد «سيجئ الموت وستكون له عيناك» الذي أحصت فيه أكثر من خمس عشرة حالة انتحار لكتاب وشعراء عرب استهوتهم شهوة الغياب، فخرجوا بإرادتهم من طابور انتظار الموت إلى السعي إليه بأنفسهم.
تتعدد أسباب الرحيل الإرادي بين الكتاب والشعراء العرب ومن أهمها، الإخفاق الأدبي، الإخفاق العاطفي، الفقر، المرض، الوضع السياسي والاجتماعي المتأزم، النزعة التشاؤمية، التي ترى نصف الكوب الفارغ، وترى في الحياة وهما وسرابا خادعا، تأكيدا لمقولة دي أونامونو (من يولد يتعذب ثم يموت)، وكأن الموت هو الحقيقة الثابتة، وما عداه وهم وسراب خادع.
يؤكد علماء النفس، أن الانتحار هو محصلة لمسار اكتئابي طويل وانسحاب من المجتمع وانقطاع الأواصر بين الفرد والمجتمع، وأسرته وعدم انسجام الفرد مع المجتمع ومع ذاته، ثم فقد الثقة في كل شيء، فتبدو له الحياة حينئذ أشبه بالعيش في شقة مشتعلة والخلاص يكون بالقفز من الشرفة. من ينتحر لا يكره الحياة لأن التعلق بالحياة والدفاع عن الوجود غريزة يتساوى فيها الناس جميعا، لكن من ينتحر يفقد القدرة على تحمل الآلام مع الإحساس بالعدمية والضياع، وقديما قال المتنبي:
ولذيذ الحياة أنفس في النفس
وأشهى من أن يُملّ وأحلى
وإذا الشيخ قال أف فما ملّ
حياة ولكن الضعف ملّا
وحذا حذوه المعري في التطرق إلى الموضوع فهو يرى في الموت خلاصا من الآلام والمحن والإحساس بفراغ الحياة وعدميتها، لكن ما يمنع الناس من الإقدام عليه هو الخوف من المجهول:
لو لم تكن طرق هذا الموت موحشة
مخشية لاعتراها الناس أفواجا
وكان من ألقت عليه الدنيا أذى
يؤمها تاركا للعيش أمواجا.
إن اللوحة المرفقة بالمقال رسمها شاب فنان تشكيلي مصري مقيم في الأردن هو أحمد الضبع حين نشرها على صفحته عام 2024 لم ينتبه أحد إلى رغبته في الرحيل، فخلفية اللوحة سوداء وعيون الناس المراقبة تشع نارا محرقة، والموت هو المهرب والخلاص بدليل الضياء المنتشر أسفل قدميه وهو القبر وفعلا نفذ الفنان الشاب عملية انتحاره وخرج من الحياة بإرادته.
كان انتحار الكاتب المصري من أصول تركية إسماعيل أدهم 1940 مدويا، فهو الكاتب الذي جعل من خصومة طه حسين مشروعا أدبيا، وكان مضطربا قلقا ميالا إلى الإلحاد وأخرج للناس كتابا جعل عنوانه «لماذا أنا ملحد؟» ويبدو أن هذا الكتاب زاد من تنفير الناس منه، فعاش في عزلة وكآبة وإحباط حتى تخلص من حياته بإلقاء نفسه في بحر الإسكندرية، وترك ورقة يخبر فيها المحققين أنه انتحر.
أما الشاعر أحمد العاصي 1930 فكان طالبا في كلية الطب، ولكنه لم يستطع إكمال تعليمه بسبب مرضه ووضعه الاجتماعي، مع أنه كان شاعرا نابغا وقد أخرج ديوانا شعريا قرظه أمير الشعراء ببيتين، ويبدو أن المرض والفقر قادا الشاعر إلى إنهاء حياته، بعد أن كتب ورقة عن قراره مع امتداح الموت كونه الخلاص من الآلام. من كتاب مصر وشعرائها الذين اختاروا نهاياتهم بأنفسهم المناضلة درية شفيق رائدة الدفاع عن حقوق المرأة، وقد ألقت بنفسها من شقتها في الطابق السابع، وكانت جارة للصحافي مصطفى أمين 1975، والشاعر فخري أبو السعود 1940، والشاعر صالح الشرنوبي 1951 ومنير رمزي 1945، الذي انتحر بسب علاقة عاطفية فاشلة، وعنايات الزيات 1963 والكاتبة اليسارية أروى صالح 1997مؤلفة كتاب «المبتسرون» والكاتب وجيه غالي1969 صاحب رواية «بيرة في نادي البلياردو»، ويبدو أن زيارته لإسرائيل عادت عليه بالوبال فقد أصبح غير مرغوب فيه، وعاش بقية عمره في لندن ولم يخرجه من محنته إلا الانتحار. أما الشاعر المصري صلاح جاهين 1986 فيبدو أنه انتحر بسبب حالة اكتئاب حاد لم تنفع معه الأدوية المضادة للاكتئاب، التي جيء بها من سويسرا فقضى انتحارا وهو الذي تحدث عن الانتحار في إحدى رباعياته:
الدنيا أوضة كبيرة للانتظار
فيها ابن آدم زيه زي الحمار
الهم واحد والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الانتحار
عجبي!!
وفي عام 1982لم يستطع الشاعر الحداثي خليل حاوي، رؤية الدبابات الإسرائيلية وهي تصول وتجول في بيروت فتناول بندقيته وفجر رأسه، هذا الرأس الذي أتعب الشاعر كثيرا، فسقط صريعا يتخبط في دمائه، لقد كان شاعرا عروبيا قوميا طالما تغنى بالفجر الموعود، والنهضة المنشودة والوحدة المرغوب فيها، ولكن أحلام الشاعر تبخرت، على وقع عربدة إسرائيل بدءا من هزيمة حزيران/يونيو 1967 إلى غزو بيروت 1982. والحقيقة أن هذا السبب كان القشة التي قصمت ظهر البعير والقطرة التي أفاضت الكأس، ففي دواوين خليل حاوي «نهر الرماد»، «بيادر الجوع»، «الناي والريح» والعناوين بلا شك عتبات محيلة على المضمون الشعري، فالنهر لا يجري بالماء الذي جُعل منه كل شيء حي، ولكن بالرماد الذي لا يصلح لشيء سوى كونه نتيجة حرائق كبيرة. والبيادر رمز الخصب والامتلاء والشبع لم تعد عبر هذه المفارقة الضدية، بيادر خير ولكنها بيادر شر، إنها بيادر الجوع، لقد عاش خليل حاوي قصة حب فاشلة مع القاصة العراقية ديزي الأمير، لم تكلل بالاقتران وهذا سبب جعل الشاعر يعيش منطويا على نفسه، ويعيش في وحدة قاتلة ويأس مطبق، ثم صرحت عائلته أخيرا بأنه كان يعاني من ورم في الدماغ وكانت تنتابه حالة إغماء أشبه بحالة الذين يعانون من الصرع ومع أنه كان يعالج، لكن الشفاء لم يكلل الجلسات العلاجية، وكان خليل لا يسمح لأحد بأن يتحدث عن مرضه، وهذه الأسباب الثلاثة المجتمعة: السياسي والعاطفي والصحي قادته في النهاية إلى التخلص من حياته، وفي دواوينه إرهاصات بهذه النهاية الفجائعية:
عمق الحفرة يا حفار
عمقها لقاع لا قرار
يرتمي خلف مدار الشمس
ليلا من رماد
وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار
لا صدى يرشح من دوامة
ومن دولاب نار
ولأسباب سياسية تتعلق بالمصير العربي، والهزائم العربية المتتالية في الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية، انتحر الشاعر الأردني تيسير سبول 1973 يأسا من واقع عربي منذر بمزيد من الخيبات والنكسات، لكن الكاتب الأردني عيسى الناعوري، كشف أن الشاعر كان يعاني من مرض في عينيه وكان في طريقه ربما لفقد البصر، وقدراته على النظر بدأت تتراجع، ويبدو أن السبب السياسي والصحي قادا الشاعر في النهاية إلى الانتحار، فالشاعر عموما معروف بالحساسية الزائدة والتعلق بالمثل والقيم العليا، والتعالي على المادة والأعراف والتقاليد الاجتماعية، التي يهيمن عليها الرياء والخوف والإثرة. وبعد تيسير انتحر الروائي عصام عماري 2002.
ومنذ مدة ليست بالبعيدة 2018 ترك المدون التونسي نضال غريبي رسالة مؤثرة، وعادة ما يترك المنتحرون رسائل قصيرة يشرحون فيها أسباب انتحارهم، وبعضها يحمل إدانة لمن يعتبرهم الشاعر، أو الكاتب، سببا في قراره، لكن نضال غريبي أرجع سبب قراره بالرحيل إلى الفقر والبطالة والتهميش، وقبل نضال انتحر كتاب وشعراء وفنانون من تونس، لأسباب مختلفة تتفاوت قيمتهم الأدبية، أو الفنية لعل أشهرم محمد العريبي، رضا جلالي والمسرحي الحبيب المسروقي.
ومن المغرب انتحر لأسباب مختلفة كل من الشعراء والكتاب، الشاعر كريم حوماري1997 والقاص سعيد الفاضلي 2004 والمسرحي حسين حوري 1984 والشاعر عبد القادر الحاوفي 2014. وانتحر رائد الرومانسية في الشعر الجزائري مبارك جلواح غرقا في السين 1943، ويبدو أن الغربة والمرض والتهميش، من الأسباب التي عجلت برحيله في شرخ الشباب، وغيره من كتاب وشعراء الجزائر عبد الله بوخالفة 1988 الذي ارتمى تحت عجلات قطار، وصفية كتو 1989 والشاعر فاروق سميرة 1994.
ومن لبنان انتحر غير خليل حاوي، الروائية منى جبور صاحبة رواية «فتاة تافهة» 1964 والشاعر أنطون مشحور 1975 بعد أن هجرته زوجته اليونانية والشاعرة آمال جنبلاط 1982 زوجة الشاعر سعيد عقل، وانتحر كذلك الأكاديمي رالف رزق الله 1995 بإلقاء نفسه في البحر قريبا من صخرة الروشة في بيروت، المشهورة بصخرة الانتحار، وكانت قصته موضوع رواية للكاتب ربيع جابر «رالف رزق الله في المرآة».
ومن سوريا شكلت حادثة الشاعر الواعد عبد الباسط الصوفي 1960 صرخة إنسانية في وجه الألم والاكتئاب والإحساس بالوحدة القاتلة، وقد انتحر في كوناكري بعيدا عن الوطن، لما أوفدته وزارة التربية معلما للعربية هناك، وبعد رحيله أخرجت وزارة الثقافة ديوانه الشعري، جمعه أساتذة أكاديميون، ثم انتحر الشاعر الكردي السوري مصطفى محمد 2006.
يتذكر العراقيون جيدا انتحار القاص مهدي علي الراضي في دمشق 2007 يأسا من حال العراق وهامشية الكاتب والمثقف العربي في الوقت الراهن، المتسم بالتشرذم السياسي والسطحية والابتذال، وسيطرة النزعة المادية الاستهلاكية. وقبل القاص مهدي الراضي انتحرالشاعر قاسم جبارة 1987 والشاعر والرسام إبراهيم زاير 1972.
ونختتم هذه الإطلالة المستفيضة على الشعراء والكتاب العرب الراحلين بإرادتهم، بالإشارة إلى الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكري، الذي انتحر بإلقاء نفسه من مبنى أكاديمية العلوم في موسكو 1989. وهناك انتحار آخر أنكى من الأول فالمثقف الذي ينافق السلطة، ويسعى لنيل رضاها هو مثقف منتحر، والشاعر الذي يسعى إلى المهرجانات التكريمية هو شاعر منتحر، وكذلك المثقف الذي يكتب بناء على الطلب مقابل التموقع والنجومية والمكاسب الشخصية على حساب تطلعات الشعب وآلامه ومعاناته من الفقر والطبقية والاستبداد والفساد، هو مثقف منتحر، والأكاديمي الذي لا يعرف من الأكاديمية إلا اللقب والتيه به على الناس بلا إنجاز علمي حقيقي، وتأليف رصين يضيف إلى العلم والأدب إضافة جادة هو أكاديمي منتحر، ففي المنعطفات الحضارية الكبرى وحين تكون الأمة شديدة الحاجة إلى مثقفيها للدفاع عن مصالحها ومحاربة الاستبداد والفساد والعمالة والطبقية الجائرة وانتشار الجهل والفقر والأمية، لا سبيل إلا التخندق مع مطامح الشعب وغير ذلك هو الانتحار. وبلا شك ان الانتحار الأول أرحم، فهو رسالة وصرخة أشبه بنداء الاستغاثة في السفينة الموشكة على الغرق قبل غرق الجميع.

المصدر: 
القدس العربي