في كتابه "العالم الجديد" الصادر عن دار الفكر بدمشق و دار الفكر المعاصر في بيروت، يكشف مالك بن نبي عن رؤيته العميقة لمستقبل البشرية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مستشرفًا ملامح عالم يتشكل على أنقاض الحضارة الغربية المادية التي بلغت ذروتها ثم بدأت في الانحدار.
هذا النص، الذي يُنشر لأول مرة، يُعدّ امتدادًا لفكره في كتابه "وجهة العالم الإسلامي – المسألة اليهودية"، ويأتي ضمن سلسلة "مشكلات الحضارة" التي كرّسها لتحليل أسباب الانحطاط الحضاري وسبل النهوض.
ينطلق بن نبي من تشخيص دقيق لأزمة الحضارة الغربية، معتبرًا أن التقدم المادي وحده لا يكفي لبناء عالم إنساني متوازن، بل إنه قد يؤدي إلى الانهيار إذا لم يُرافقه تطور أخلاقي وروحي. فالعالم الغربي، في نظره، يعيش حالة من الفراغ القيمي، حيث انفصل الإنسان عن المعنى، وغابت الرسالة التي تمنحه التوازن بين العقل والمادة، وبين الفرد والمجتمع.
في هذا السياق، يطرح بن نبي فكرة أن الإسلام يمكن أن يكون حاملًا لرسالة جديدة في هذا العالم المتغير، ليس من باب التبشير الديني، بل من منطلق حضاري وإنساني. فالإسلام، كما يراه، يمتلك من المقومات الروحية والأخلاقية ما يؤهله لتقديم نموذج بديل، بشرط أن يُعاد تقديمه في إطار ثقافي متجدد، يتجاوز الجمود والتقليد، وينفتح على العصر دون أن يفقد جوهره.
ويضع بن نبي شروطًا واضحة لهذه النهضة، تبدأ بتحرير الإنسان المسلم من آثار الاستعمار، ليس فقط السياسي، بل الثقافي والنفسي، ثم بضرورة بناء ثقافة جديدة تنبع من الواقع وتخاطب المستقبل، وتنتهي بوضع خطة استراتيجية حضارية تُعيد للمسلم دوره الفاعل في التاريخ. ويؤكد أن النهضة لا تكون بردود فعل عاطفية، بل بفهم عميق للواقع، وبإرادة واعية للتغيير.
وفي أحد أبرز أجزاء الكتاب، يقدم بن نبي جدولًا تحليليًا لوراثة عناصر العالم الحديث، موضحًا كيف يمكن للمسلم أن يستوعب منجزات الحضارة الغربية دون أن يُذوب هويته فيها. فهو يدعو إلى التمييز بين الوسائل والغايات، ويرى أن التقنية والعلم يجب أن يُوظفا في خدمة الإنسان، لا أن يتحول الإنسان إلى خادم لهما. كما يُشدد على أهمية نقد النموذج الغربي دون رفضه كليًا، بل بوعي حضاري يُعيد ترتيب الأولويات ويُعيد بناء الإنسان.
في ختام الكتاب، الذي جاء في 72 صفحة من القطع الكبير، يُعيد بن نبي التأكيد على أن الإسلام ليس مجرد دين خاص بأمة، بل هو رسالة إنسانية شاملة، قادرة على أن تُلهم العالم في لحظة فراغ روحي وتصدع حضاري. لكنه يُحمّل المسلمين مسؤولية حمل هذه الرسالة، ويُطالبهم بأن يكونوا على مستوى التحدي، عبر تجاوز الانحطاط، واستعادة المبادرة، وبناء عالم جديد يقوم على العدل، والمعنى، والكرامة الإنسانية.