تخطي إلى المحتوى
قراءة في كتاب الصوفية رؤية للعالم قراءة في كتاب الصوفية رؤية للعالم > قراءة في كتاب الصوفية رؤية للعالم

قراءة في كتاب الصوفية رؤية للعالم

بمناسبة ذكرى رحيل المفكر السوري ندرة اليازجي نعيد نشر قراءة في كتابه الحواري مع الدكتور هاني نصري" الصوفية رؤية للعالم".

المثالية، هي الواقع الذي ينشد غايته الشمولية، والميتافيزياء، هي الفيزياء المتحققة على نحو كوني، وما بعد الطبيعة، هي الطبيعة المتجلية في ذاتها، وعلى هذا الأساس، فإن الصوفية، هي تجاوز الثنائية والتعددية إلى الوحدة، ليكون الإنسان واحداً مع نفسه، ومتكاملاً في كيانه، وواحداً مع الكون، ومتكاملاً ومتوازناً في حياة إنسانية روحانية. فكيف عبر عن ذلك الأستاذ ندرة اليازجي، والدكتور هاني يحيى نصري في كتاب ( الصوفية رؤية للعالم)؟

الصوفية هي الحكمة المتحققة في الحياة.

بداية، يشير الأستاذ اليازجي إلى حقيقة الصوفية- الحكمة، والتي تتجلى في مظاهرها الثلاثة المتصلة، وهي ثيوصوفيا، أي الحكمة الإلهية. وصوفيا، أي الحكمة البدئية. وأخيراً، فيلوصوفيا، أي محبة الحكمة. وعلى هذا الأساس، فإن الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، هي الحكمة المنبثّة في كل نقطة من نقاط الوجود على نحو متصل، هي حكمة تتنوع في مستوياتها ومعالمها الظاهرية والباطنية، وتحتفظ بجوهر حقيقي واحد، وإن صوفيا هي الحكمة البدئية التي عرفها الإنسان الأول، أي الكائن الروحي البدئي، إذ كان متصلاً بها، وإن فيلوصوفيا هي الحكمة بعد تراجعها إلى النطاق العقلي، إذ أصبحت محبة،وفي الحقيقية أن هذه الحكمة الأخيرة حسب اليازجيتسعى جاهدة للعودة إلى مصدرها في الحكمةلتكون صوفية- حكمةمؤكداً أن المعرفة الثلاثية هذه للصوفية، تتمثل في إطارها عبر ثلاثة مستويات، المستوى الكوني، والمستوى البدئي الذي هو تجلّي المستوى الكوني للثنائية والتعددية، وأخيراً، المستوى العقلي المتصل بالثنائيةوالتعددية.

وبناء على ذلك، فإن الصوفية –الحكمة، لا ترنو إلى اعتزال العالم، أو الانسحاب إلى فردانية العيش، حيث من المحتمل أن تلعب مركزية الأنا دوراً سلبياً، ومحبطاً.

إنها فعلاً إرادياً يحقق الإنسان من خلاله، عقلانية متسامية إلى الروح، ووعياً كونياً، وحكمة بدئية صافية تتعمق وتتسع إلى نطاقات الحياة بمجملها. مشيراً إلى أهم المبادئ التي تتبناها الصوفية الحكمة، وهي، محبة الإنسانية جمعاء، وتوحيد نطاقات الفكر الإنساني، ووجهات النظر العديدة والمتنوعة، وتوسيع دراسة القوانين

الطبيعية، والإنسانية، والاجتماعية، والولوج إلى نطاق القوانين الكونية التي تشملها، والشعور الكامل بالقيمة والمعنىالمضمونين والكامنين في الوجود، فضلاً، عن التجربة النفسية، أو العقلية المتسامية أو الروحيةالمختبرة التي تنتهي إلى عرفانيتجلّى في تحقيق الشعور الأسمىبتكامل الوجود الطبيعي والإنساني والكوني. والتأكيد على وجود حقيقة باطنية أو جوهرية واحدة، وعقل إنساني جماعي شامل، وروح فاعلة في التاريخ الإنساني. وأخيراً، تقوم على تأسيس بنية عقلية ونفسية منفتحة ومكوّنة تصلح لإجراء حوار من أجل قبول الآخر، والاعترافبه، وتتجاوز الأطر المحدودة، والمناهج الأحادية البعد،وتوطيد التفكير المنطقي لبلوغ محاكمة سليمة تنقذ العقل من تحديدات الإشراطات العديدة التي تحول دون تطويره إلى عقل صوفي متصل بحكمة الروح.

أما الدكتور هاني نصري، وباتجاه معاكس تماماً، لما أورده اليازجي، نراه يعزف على موضوعة التصوف من منظور غربي مستعرضاً أفكار (هيوم، وكانط،وغرين، وغيرهم)، في تحليله الظواهر الصوفية، مشيراً إلى أن لغة التصوف المعاصرة المبنية على الخضوع لخالق، أكبر من كل تصور، وضعنا بعالم- كون- جبار من صنعه وأكبر من تصوراتنا، لذلك نحن بحاجة إلى لغة تستخدم كل معارف هذا العصر، والرموز الرياضية، لا الرموز السحرية، وإلى العلوم العصرية لا علوم الباطن المضمحلة بسرانيتها- حسب تعبيره- فالمتصوف اليوم عليه أن يكون صاحب طاقات وقدرات موهوبة، يوجهها لمعرفة موسوعية علمية ودينية قبل أن يدّعي أنه سالك، وبمعنى آخر، الارتكاز على حقيقة واقعة أن اللامرئي حتمي، والموت حتمي، والصلة بينهما لا تنال إلا بمقام العبودية لله دون سواه من ولي أو صاحب طريقة، أو قطب. وعلى هذا فإن الإشكال الأساسي للحقيقة الصوفية هوكيفية التواصل مع اللامرئي، وبأي الطرق، وبأي الوسائل، ما دامت أهمية هذا التواصل، هي التي تحدد القيم العليا التي يجب اتباعها. وفيما يتعلق بإشكالية النبوة والتصوف، فيشير إلى أن الاختراق ببعضها للامرئي عياناً أمامالجميع مع الوحي النبوي، وعدم تكراره بأي مقام، حالة صوفية، وما هو إلا دليل على تميز الحقيقة النبوية عن الأحوال الذاتية للصوفية. وفي مجال آخر، يؤكد على أن الصوفية، أو التصوف كظاهرة، ليست خاصة بالإسلام، فالديانات السابقة- والتي اختص منها، الهندوسية، والميستية المسيحية- عرفت التصوف بأشكال متعددة، مشيراً إلى قول (ماسينون) في الحلاج:“هو رجل متصوف روحاني، وإن فوارق الأديان لا يحسب لها حساب فيحالته“، أما الميستية المسيحية، فهي لا تسمح، من خلال الكنيسة، بالقداسة أن تتجاوز حدودها نحو التأله، وبعبارة أخرى، إن الكنيسة المسيحية ضبطت الشطح الصوفي كمؤسسة دينية إرجاعية، وهذا ما حدا به إلى الولوج في الأثر الهندي في التصوف، والأثر المسيحي الميستي. فوجد أن الصوفية الهندية، قدمت التقمص والتناسخ للعالم الإسلامي، وعززتها الحلوليةالميستية الفيثاغورية الإغريقية المتأثرة بالديانات الفينيقية، وخاصة، بالإله (تموز) إله التقمص الذي انتقل مع بعض الآريين إلى الهند قبل (الفيدا) بآلاف السنين. وفي تعقيب الأستاذ يازجي، على ما أورده الدكتور نصري، حول استعانة المتصوف بالعلم والفلسفة اللذين يؤكدان، بدورهما، وجود اللامرئي، وهذا ما يحتم علىالمتصوف أن يكون عالماً بالأديان، كما يجب أن يعلم العلوم الوضعية كلها، ويقتضي هذا الواجب عدم خلط الكفر بالإيمان، والسحر بالتصوف، كي يتجنب الشطح المعبرعنه بالسكر الروحي. وفي هذا السياق، أكد نصري، أن التصوف مقحمفي الإسلام. ومع ذلك، فهو يعترف أن المتصوف يجب أن يكون صاحب معرفة دينية واسعة بدينه، وبالأديان الأخرى دون تعصب،وصاحب طاقات وقدرات موهوبة. وبناء على استناده لآراء الفلاسفة، يؤكد له من هذا المنظور، أن الصوفيين الحقيقيين هم أصحاب النفوس المرهفة الذين يبحثون عن الحقيقة اللامرئية.

وبدوره ينتقد نصري، ما أورده اليازجي، مشيراً في نقده إلى الصوفية باعتبارها الحكمة المتحققة في الحياة، ولكن من منظور جديد نابع من مختلف المدارس والمذاهبالفلسفية ليصل فيالنهاية، إلى نتيجة مفادها، أن كل قدسية هي تعبير عن تصلّب دوغمائي لا يستطيع شرح منطلقاته، فالإطلالة على المبادئ المتضمنة في الحقيقة المطلقة، لاتتم إلا بمطلق مثلها في سكينة الأبدية أي الموت، وكل ادعاء على إمكان ذلك بحالة شبيهة بالموت، له تسمية مرضية في علم النفس، وأخرى في الفلسفة حيث تنبه إلى استحالة أن يخرق المحدود المطلق، قبل أن يصير من جنسهمطلقاً، لأن الشبيه لا يعرف إلا بشبيهه، وهذا حق فردي، وليس اجتماعياً، نناله حين الموت. لذلك، فإن أي نقد للمتصوفة يجب أن ينحصر في نقد كلماتهم، وما تشيرإليه دلالاتهم.