لاحظت المؤرخة هيلاري كاليزمان في كتابها «المعلمون وبناء الدولة في الشرق الأوسط»، أنّ الدراسات حول التعليم في المنطقة، لاسيما بعد الفترة العثمانية، تميل إلى التركيز على الوظيفة السياسية للتعليم، أي كيف شكّل التعليم نخباً جديدة في المدن، وأصبح وسيلة لتكوين بيروقراطية حديثة، أو فئات مثقفة مرتبطة بمشاريع الدولة الوطنية. ومع ذلك، تنتقد كاليزمان هذا التركيز الأحادي، معتبرة أنه يُهمل أحد أهم الفاعلين في العملية التعليمية: المعلم نفسه، إذ غالباً ما تفاوض المعلمون مع مشاريع الدولة، أو أعادوا تشكيلها، حسب السياق المحلي، ما يجعلهم فاعلين اجتماعيين وسياسيين، لعبوا أدوراً مهمة في صياغة العلاقة بين المدرسة والدولة والمجتمع.
هذه اللحظة النقدية التي تبرزها كاليزمان، تعيد الاعتبار لتاريخ المعلم كشخصية تاريخية تستحق الدراسة، وكعنصر أساسي في صناعة الدولة والمجتمع. وقد ركّزت في بحثها على فترتين أساسيتين في تاريخ التعليم: مرحلة الانتداب في المشرق العربي، ومرحلة ما بعد الاستقلال. ومن أبرز ملاحظاتها، أنّ مهنة التعليم بين عشرينيات القرن الماضي وخمسينياته، لم تكن مجرد وسيلة للحصول على وظيفة حكومية، أو مصدر رزق ثابت، بل كان ينظر لدوره باعتباره حاملاً لمشروع إصلاحي يسعى إلى تغيير المجتمع وأفكاره.
وقد أوضحت كاليزمان، أن قسماً كبيراً من المعلمين لم يعملوا في حقل التعليم بدافع الحاجة الاقتصادية وحدها، بل كان التعليم بالنسبة لهم وسيلة للارتقاء الاجتماعي، والمشاركة في مشاريع مجتمعية واسعة. فكما يظهر في سيرة ميشيل عفلق، لم يكن دخوله إلى حقل التعليم نابعاً من الحاجة المالية، أو البحث عن وظيفة؛ فهو ابن عائلة تعمل في تجارة الحبوب، ودرس في السوربون، بل ارتبط أيضاً بالرغبة في لعب دور اجتماعي وثقافي جديد خارج الأطر التقليدية. ويمكن القول إن هذا البعد الاجتماعي والرمزي لمهنة التعليم، هو ما جعل المعلمين مساهمين فعليين في عملية تشكّل الدولة الحديثة في الشرق الأوسط. فقد مثلوا أفكار الدولة الناشئة داخل الفصول الدراسية، في الوقت ذاته الذي مارسوا فيه دوراً اجتماعياً وثقافياً، وحتى سياسياً، خارجها. ومن خلال هذا الدور، ساهموا في إنتاج تصورات جديدة عن الدولة والهوية الوطنية.
لكن هذه الصورة تغيّرت تدريجياً بعد الستينيات والسبعينيات، مع انتشار التعليم الجماهيري في مدن المشرق العربي، فالمعلم الذي كان يُنظر إليه كشخصية مثقفة، بات في كثير من الحالات مجرد موظف ضمن جهاز بيروقراطي ضخم. هذا التحول لم يقتصر على الجانب المهني فحسب، بل حمل انعكاسات عميقة على الدور الاجتماعي والسياسي للمعلم، إذ أصبح العديد من المعلمين يشعرون بأن أدوارهم تراجعت، أمام فاعلين آخرين مثل المهندسين والأطباء والاقتصاديين.
ولكن لماذا أقول هذا الكلام؟ من ناحية بعيدة، كونه يسمح بإعادة التعريف بأطروحة كاليزمان، التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي، أو تُترجم للعربية بعد، ولسبب قريب يتعلق بصدور كتاب بعنوان «سيرتهم في التعليم» للكاتب المتخصص في السيرة الذاتية محمد السيف. في هذا الكتاب، يتبنى المؤلف استراتيجية مشابهة في روحها لما قامت به كاليزمان، وإن اختلفت في زاوية النظر، إذ اختار السيف تتبع السيرة الذاتية لستة معلمين عملوا في مواقع مختلفة داخل الحقل التعليمي في المملكة. من خلال هذه السير، يحاول المؤلف تقديم صورة حيّة عن كيفية تشكّل النظام التعليمي السعودي، ليس فقط باعتباره مشروعاً فوقياً، بل نتيجة لجهود مؤسسات، وتجارب فردية وممارسات مهنية للمعلمين. هؤلاء المعلمون لم يكونوا مجرد موظفين عابرين، بل كانوا جزءاً أساسياً من تطور سلك التعليم، وبناء المؤسسة البيروقراطية التعليمية السعودية، وساهموا في عملية تشكيل أنظمة الدولة التعليمية الحديثة.
دراسة ستة معلمين
اعتمد السيف على دراسة سير ستة معلمين، تباينت مواقعهم داخل الحقل التعليمي السعودي: ولي الدين أسعد، صالح البكر، عبد المحسن المنقور، عبد العزيز المنقور، عبد الرحمن البطحي، وعبد الله السيف. بعضهم تولّى مناصب عليا، مثل الإشراف على بعثات التعليم في الخارج، بينما عمل آخرون كمعلمين أو مديرين لفترات طويلة، فيما اكتفى بعضهم بالعمل في المدارس الابتدائية، لكن تأثيرهم كان ملموساً في الحياة الثقافية والتعليمية اليومية.
ما يميز هؤلاء المعلمين، أنهم انخرطوا في العملية التعليمية منذ الستينيات، وهي فترة حاسمة في تاريخ المملكة، إذ شهدت بدايات النمو السريع للدولة السعودية، وتوسع المؤسسات الحديثة، وتضخم الجهاز البيروقراطي، ليشكلوا خلفية أساسية لفهم كيفية مساهمتهم في بناء النظام التعليمي السعودي وتشكيل الدولة الحديثة.
يمكن وصف هؤلاء المعلمين بأنهم كواكب مضيئة في تاريخ التعليم والثقافة والمجتمع، في المناطق التي نشطوا فيها، فقد أداروا عملية التعليم، وأسهموا في صوغ ملامح الحقل التربوي، ما جعلهم شخصيات استثنائية. ولتجنب التعقيد، سأركز هنا على سيرتين من بين الست، لإبراز التنوع والثراء الذي يميز المجموعة.
السيرة الأولى لشخصية لافتة: الأستاذ عبد الرحمن البطحي، من أبناء مدينة عنزة، عمل معلماً في المرحلة الابتدائية. ومن خلال الحوار الذي أجراه السيف معه، تتضح سمتان أساسيتان حوله: الأولى، أن البطحي لم ينظر يوماً إلى وظيفته على أنها مجرد مهمة تعليمية بحتة، بل كان مثقفاً واسع الاطلاع، سواء في التاريخ الاجتماعي، أو الثقافة العامة، ما جعل صورته تتجاوز صورة «المربي» التقليدي لتقترب من صورة المؤرخ المحلي، أو الذاكرة الشعبية.
والثانية، هو الوعي بتاريخ المكان الذي عاش فيه وتحولاته، فقد أشار إلى أن عنزة تحولت من بلدة صغيرة إلى مركز مهم في نجد، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بسبب حركة جذب ضخمة تمثلت في استقرار أسر مهاجرة متنوعة، مثل آل خويطر، وآل تركي، وآل أبا الخيل، ساهمت في النهضة العلمية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة.
أما السيرة الثانية، فهي للمعلم عبد الله السيف من الزلفي، أحد أعلام التعليم وروّاد الحقل التعليمي في المحافظة. امتدت مسيرته التعليمية لأكثر من 36 عاماً، عمل خلالها معلما ومديرا للعديد من المدارس. ولعل ما استوقفنا في هذه السيرة ملاحظتان أيضاً: الأولى، أنها تتيح لنا تتبع تطور التعليم والمؤسسات التعليمية في السعودية على مدار ثلاثة عقود، وفهم ديناميات النمو المؤسسي في المناطق الريفية والحضرية الصغيرة. كما تبرز دور المعلمين في هذا التطور، حيث لم ينظروا إلى مهنتهم على أنها وظيفة عادية، بل رأوا فيها مسؤولية اجتماعية واسعة تتجاوز حدود الفصول. فقد كان عبد الله السيف يحرص على متابعة تلاميذه خارج المدرسة، ويقنعهم بأهمية التعليم لبناء مستقبلهم، ما يعكس وعياً بالبعد الاجتماعي والتربوي للمعلم.
والثانية، أن عبد الله السيف هو والد المؤلف محمد عبد الله السيف (مؤلف الكتاب). فعلى مدى السنوات الماضية، انشغل محمد عبد الله السيف بكتابة عشرات السير الذاتية، لكن ربما لم تُتح لنا قراءة تفاصيل من سيرته الذاتية، وهو ما نعثر على جزء منه، من خلال سيرة والده وعائلته. فقد عمل جده محمد الصالح السيف إماماً ومؤذناً في مسجد السيف، خلفاً لوالده، ما انعكس على حياة المعلم عبد الله السيف من حيث الالتزام الاجتماعي والأخلاقي والعمل الدؤوب، إضافة لذلك، كان التعليم في هذه المناطق محدوداً قبل تأسيس الدولة الحديثة، وكان يعتمد على الكتاتيب التقليدية التي ركزت على مهارات القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ما يبرز أهمية دور المعلمين في ربط المجتمع المحلي بالدولة الناشئة وبناء أسس التعليم الحديث. ومن خلال هذه الممارسة، لم يقتصر دورهم على التعليم الديني، بل شمل التنمية الاجتماعية والثقافية، ما ساعد في تشكيل قاعدة معرفية متقدمة للأجيال القادمة.
هوامش على سيرة المعلمين:
تعتقد فرجينيا وولف، أن لكل سيرة ألف وجه ووجه، ويمكن القول إن السيف نجح في التقاط عشرات الصور من حياة كل معلم تتبّع سيرته. ومع ذلك، تظل هناك بعض الهوامش التي يمكن تسجيلها على بعض المحطات، لا بهدف الانتقاص من أسلوب جمع السير، وإنما لإثارة أسئلة إضافية توسّع من دائرة النقاش حول سيرة المعلمين والتعليم عموماً في السعودية.
عند العودة إلى ملاحظات هيلاري كاليزمان، نجد أنها تشير إلى أن جزءاً كبيراً من المعلمين، في فترة ما قبل الستينيات، لم يكن ينظر إلى وظيفته كمصدر دخل مالي فحسب، بل كوسيلة للارتقاء الاجتماعي، وأداة لاكتساب موقع أعلى في السلم الاجتماعي. هنا يبرز سؤال أساسي: ماذا كان يعني أن يكون الشخص معلماً في الستينيات والسبعينيات من تاريخ السعودية؟ هل كان مجرد موظف حكومي يؤدي واجباته مقابل راتب؟ أم أنه كان شخصية اجتماعية مميزة، تكسب من مهنتها رأس مال اجتماعياً يرفعها عن غيرها؟ هل انعكس ذلك على لباسهم وعلاقاتهم وصداقاتهم؟ ما هي اهتماماتهم الفكرية وما الذي كانوا يقرأونه؟ وكيف نظروا إلى مجتمعاتهم المحلية؟ والأهم، كيف نظر المجتمع السعودي آنذاك إلى مهنة المعلم التي حلّت تدريجياً محل مهنة شيخ الكتاتيب؟
النقطة الثانية التي تستوقف القارئ تتعلق بغياب واضح أحياناً لتأثير التحولات الاجتماعية الكبرى على سير هؤلاء المعلمين، إذ يظهر المعلمون أحياناً وكأنهم معزولون عن التحولات الاجتماعية الكبيرة التي عرفتها السعودية في بعض الفترات، مثلاً كيف نظروا إلى تحديات الصحوة الإسلامية في السعودية، وكيف تعاملوا معها داخل المدارس؟ وكيف تعاملوا مع ظاهرة المعلمين الوافدين الذين جلبوا معهم أفكاراً جديدة إلى البيئة التعليمية، سواء عبر المناهج، أو من خلال التوجهات الفكرية التي بثّوها في الطلاب؟
على الرغم من هذه الهوامش، يُحسب للسيف أنه استطاع، من خلال هذه السير الجديدة، أن يثير كماً كبيراً من الأسئلة حول تاريخ المعلمين، ومهنة التعليم في السعودية والخليج. وربما هذه هي الغاية الأعمق لكل كاتب سيرة: ألا يكتفي بحفظ الماضي والذاكرة، بل يجعل من السيرة مدخلاً للتساؤل عن المجتمع وتحولاته عبر الزمن.