نحن أمام إشكالية عويصة حين نتحدث عن أدب الطفل، إنه «أدب سهل» وذو جودة متواضعة، وفي الوقت نفسه هو الأدب الأكثر صعوبة من حيث إيجاد الموضوعات وطريقة طرحها وصياغتها. ولأنه يتطلب أفكارا ولغة مبسطتين، فإنه في الغالب لا يحظى باهتمام الجمهور النقدي والأكاديمي. طبعا من المحزن أن أدب الطفل وفق هذه المعطيات يعتبر أدبا غير مكتمل، وحتى لو كرّس البعض أبحاثه للدفاع عنه، إلا أنه أخفق في أهم مهمة وُجد من أجلها وهي شد اهتمام الطفل.
في عودة إلى زمن مضى حين كنت طفلة سأذكر دائما، أن قصص الأطفال المترجمة، وقصصا أخرى أُخِذت من التراث وتم تبسيطها، كانت أكثر سحرا وإغواء لي مقارنة مع غيرها، ومع هذا فقد التهمت كما هائلا من الكتب، ولم أشعر يوما بأني توقفت عن عشق كتب الأطفال، رغم قراءتي لطه حسين والمنفلوطي وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهم باكرا.
بالنسبة لي كان الانتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية أكبر، أمرا لا أكاد أشعر به، والصراحة تقال، لم أشعر أبدا بأني غادرت طفولتي، فأنا كائن مركب ومعقد يحضن جميع الأعمار، ولست أكذب إن قلت إني أحيانا أشعر بأني شخت، وبأني بعمر النخلة حينا، وبعمر شجر الزيتون حينا آخر، فيما في ظروف فجائية ينتابني العجز تماما فأشعر بأني طفلة ولا أريد سوى حضن أمي. كثيرا ما اختبرت طفولتي المختبئة بين ضلوعي مع أطفال العائلة، فأصاب بصدمة أعبر عنها بتهويل أقل مما أشعر به، فأطفال هذا الزمن «أطفال بالغون»، ما داموا خبراء في التكنولوجيا، ويقرأون بالإنكليزية قصصا لا تشبه قصصنا، بل يحكمون على قصص الأطفال المكتوبة باللغة العربية بأنها أقل نضجا، ويخاطبون الكبار بلغة لم نكن نعرفها أبدا.
طيب! هل هذا جيد أم سيئ؟
لا أدري صراحة إن كان هذا الأمر جيدا أم سيئا، فعن نفسي أعيش حيرتي مضاعفة مع ابنة اختي، التي اعتبرها ابنتي، فهي طفلة حين تريد، ثم فجأة تأخذ دور أمي، فتنهال عليّ بنظريات ونصائح وكأنها خريجة علم نفس. أذكر في عمرها أن أقصى اهتماماتي التفوق في المدرسة، وألا تفوتني مسلسلات الكارتون خاصتي. حتى ألعابي اختلفت عن غيري، لقد أحببت أداء أدوار مسرحية مختلفة، ابتكرت مسرحياتي وأدواري، ومنحت نفسي دورا قياديا. منذ تلك الأيام وابتكار القصص يسكنني، حتى حين أكتب قصائدي تتسلل التفاصيل القصصية إلى نصي، بلمسات تشبه خفق أجنحة الفراشات. أعترف بأن الأجيال الجديدة مُحبِطة، فكثيرا ما اقتنيت قصصا لأطفال العائلة، لأكتشف في ما بعد أني اقتنيتها لنفسي، كون ذائقتهم اختلفت تماما. لكن إعجابي بكتب الأطفال، خاصة برسوماتها لم يتوقف أبدا، فهو شغف أمارسه بعيدا عن الأعين. في معارض الكتب أقف مطولاَ عند دور النشر المختصة في أدب الطفل، أتأملها بحب وأقرأ بعضها، وكلما تعثرت بكتب قديمة كتلك التي زينت طفولتي ابتهج من أعماق قلبي، بل أحيانا أحضنها كمن التقى صديقا قديما من الغوالي.
منذ أكثر من سنتين قررت أن أنشر نصا من هذه النصوص التي تسكن رأسي، أردت أن أخرجه للعلن حتى لا يبقى معتقلا في جمجمتي، محدثا ضوضاء لا تنتهي. وأعترف بأني أقلقت أكثر من صديق لقراءته، وفي كل مرة أجري تعديلات عليه، دون أن أنسى مستشارتي و»قارئتي المُحبطة» ابنة أختي بروينة التي لا يعجبها العجب، وكدت أخضع لتأثيراتها وألغي مشروعي من أساسه، وهي تضع أمامي نماذج من قصص أجنبية بعيدة حتى عن القصص المترجمة التي قرأتها في طفولتي.
أي نعم كل شيء تطور، أو تغير، لكن بالتأكيد ليس بالنسبة نفسها، إذ لا أعتقد أن أبناء البلد الواحد يعيشون طفولة متشابهة، فالأطفال اليوم متأثرون جدا بالطبقية المقيتة بشكل مبالغ فيه، وأصبحوا يولدون ويكبرون في عوالم متوازية قد لا تلتقي أبدا، سواء في المدارس والجامعات أو حتى في قطاعات العمل.
تحضرني هنا قصة الأمير والفقير للكاتب الأمريكي مارك توين، وهي من القصص التي أثرت فيّ كثيرا، فهل يمكن أن تؤثر في أطفال اليوم؟ يبدو لي أحيانا أن الفروق النظرية بين الناس أصبحت من البديهيات عند هؤلاء «الأطفال الفلاسفة»، لكن الأكيد أن الطفل يبقى طفلا، وما يبهره اليوم، قد لا يبهره غدا، هي فقط مسألة تشبع وإدراك لعمق الأشياء. لقد اتسع عالم الطفل، ولعل إرضاءه اليوم وإدهاشه قد يكمن في أخذه إلى الماضي، ما دام حاضره يبهرنا نحن ويثير ملله.
ووفق تجربتي الشخصية، وتجاربي العديدة مع الأطفال فالحيوانات التي تتكلم تبقى كائنات محبوبة لدى أطفال أقل من خمس سنوات. بعد عمر أكبر بقليل يزيد شغف الطفل باكتشاف عوالم تختلف عن عالمه الصغير، ثمة ارتباط وثيق بينه وبين الطبيعة، وهذا الشغف مشترك بين الأطفال وكبار السن، ثم تأتي بعدها غرائب العالم وعجائبه، وأذكر أني لم أخيب أمل أي طفل أهديته كتابا عن الحضارة الفرعونية والكنوز التي حوتها الأهرامات. في عمر المراهقة يتسع فضاء المخيلة فيحلق عاليا، ولهذا ربما نجحت ج. ك. رولينغ في إقناع شريحة واسعة من الأطفال والناشئة والمراهقين بقراءة كتب ضخمة تفوق السبعمئة صفحة، وهو الأمر نفسه قامت به ستيفاني ماير بسلسلتها عن مصاصي الدماء الرومانسيين.
تختلف بداية الكتّاب عن بعضهم بعضا، ولكن في الغالب كل الذين ذهبوا للكتابة للأطفال بمختلف أعمارهم فعلوا ذلك لمتعة شخصية، أو بحثا عن طريقة لملء فجوة ما في الداخل بقيت خاوية. لمن يتذكر الكونتيسة دي سيغور وذهابها للكتابة في عمر الثامنة والخمسين، سيفهم أنها استرجعت ما سرق من عمرها منها بسرد يوميات «صوفي المعذبة» أو «متاعب الطفلة صوفي» لأنها بكل بساطة هي نفسها صوفي، وهو اسمها الذي لم تستعمله قط في الكتابة، فقد تفرغت لعائلتها، خاصة حين كان أبناؤها الثمانية صغارا، وظلت الكونتيسة التي حملت لقب زوجها إلى أن وجدت فرصة لتعيش حياة موازية على الورق، فكتبت روايات ناجحة للصغار والكبار، حيث قضت آخر عشرية من عمرها في الكتابة.
الآن حين أسأل كيف دخلت عالم أدب الطفل، أجيب أني لم أخرج أبدا منه، فقد بقيت وفية له، إلى أن خطر ببالي أن أكتب ما يجول في خاطري من أفكار، بدل سردها في حكايات شفهية في الجلسات الضيقة. ثمة عالم اليوم ينحسر بكل جمالياته ليترك مساحته للتغيرات الجديدة، لا أريده أن ينقرض. في قصتي «جدي والواتس آب» الصادرة مؤخرا عن دار نوفل (هاشيت ـ أنطوان) أنا التي أفتقد الرسائل الورقية، وساعي البريد، والشوق الذي يرافق انتظار رسالة، ونوع الورق، والكتابة بخط جميل لإثارة إعجاب المتلقي، وكل تلك الطقوس التي قتلتها الهواتف الذكية في أولادنا، حتى أنهم يكتبون رسائل قصيرة بأحرف أجنبية وأرقام تُلفظ بلغة عربية بشكل مشوه، وأحيانا يختصرون جملة بأكملها برموز تعبيرية «إيموجي» تضحك وتبكي وتندهش وتغضب وتعشق وتكره.. من المستحيل أن تضاهي الرسومات المعبرة في كتب الأطفال، التي تبث البهجة فعلا في قلب ناظرها. وتجعل خيال الطفل ينتعش وكل حواسه وقدراته الإدراكية تعمل.
هل تريدون معرفة سر آخر؟
كلما شعرت بلاجدوى الكتابة، عدت لقصص طفولتي التي صقلت مواهبي، وتذكرت كم كانت حقيقية، وهي تمسك بي من يدي لأرافقها بكل اطمئنان وهي تشق لي طريقي في الحياة، ولم تخيب أملي أبدا.