يُعد كتاب "مرآة الشام، تاريخ دمشق وأهلها" للمؤرخ السوري عبد العزيز العظمة (1856-1943) وثيقة تاريخية وثقافية فريدة من نوعها. إنه ليس مجرد سرد للأحداث، بل يمثل شهادة حية من شاهد عيان على فترة حاسمة في تاريخ دمشق وبلاد الشام، ويبرز من خلال محتواه الغني، وأسلوب مؤلفه ومنهجه الفريدين، وقيمته التاريخية والثقافية العميقة.
عبد العزيز العظمة، وهو شخصية مخضرمة عاصرت أواخر الحقبة العثمانية وبدايات الانتداب الفرنسي، شغل مناصب حكومية رفيعة في الدولة العثمانية، مما شكل جزءًا كبيرًا من رؤيته السياسية والتاريخية. كما أن شقيقه هو يوسف العظمة، بطل ميسلون، وابناه نبيه وعادل العظمة، كانا أيضًا شخصيات سياسية بارزة، مما يضيف بعدًا شخصيًا وعائليًا لتجربته التي انعكست في كتابه.
أسلوب ومنهج عبد العزيز العظمة في "مرآة الشام"
يتميز العظمة في "مرآة الشام" بأسلوب يجمع بين السرد الشامل والتفاصيل الدقيقة. منهجه التاريخي يتعمق في الحياة اليومية، العادات، الأخلاق، التعليم، والموارد الاقتصادية لدمشق، متجاوزًا السرد السياسي الجاف. لغته واضحة وسلسة، مما يسهل استيعاب المعلومات التاريخية المعقدة.
كونه معاصرًا للأحداث، يضفي العظمة على سرده صبغة ذاتية وشهادة شخصية تمنح الكتاب حيوية ومصداقية. يتناول الكتاب تاريخ بلاد الشام منذ التنظيمات العثمانية، مرورًا بجمعية الاتحاد والترقي، وصولًا إلى الاحتلال الفرنسي وفترة الانتداب حتى أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين، رابطًا الأحداث المحلية بالتطورات الإقليمية والدولية.
يُظهر الكاتب قدرة على النقد والتحليل، كما يتضح من مناقشته التفصيلية لصك الانتداب الفرنسي. كما يبرز موقفه من الأحداث، مثل موقفه غير المؤيد للثورة العربية الكبرى وتأييده للدولة العثمانية، وهو ما يمثل نقطة خلافية هامة. يشتهر الكتاب كذلك باحتوائه على العديد من الصور الفوتوغرافية لمدينة دمشق وشخصياتها، مما يعزز قيمته كمرجع بصري.
القيمة التاريخية والثقافية للكتاب
تبرز القيمة التاريخية لـ "مرآة الشام" في كونه مصدرًا أصليًا وشهادة معاصرة من مؤرخ عاش الأحداث وعاصر التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يجعله مصدرًا أوليًا لا يقدر بثمن. يوفر الكتاب معلومات تفصيلية غنية عن الحياة اليومية، العادات، والتقاليد في دمشق، ويُسلط الضوء على شخصيات بارزة وأسر دمشقية لعبت أدوارًا مهمة، مثل السلطان محمود وأحمد باشا الجزار وعدد من الولاة العثمانيين، بالإضافة إلى شخصيات مثل أمير الحج الشامي عبد الرحمن باشا اليوسف والنائب عوني القضماني. كما يرصد التأثير الأجنبي والصراع على الهوية في تلك الحقبة.
أما من الناحية الثقافية، يعمل الكتاب كـ "مرآة" حقيقية لـ حفظ الذاكرة الجماعية لمدينة دمشق وأهلها، ويُسهم في فهم تطور الهوية الدمشقية والسورية. يُعد مرجعًا أساسيًا للمؤرخين والباحثين، ويوفر وصفًا حيًا للمشهد الثقافي في دمشق. بفضل أسلوبه الأدبي وقيمته التوثيقية البصرية، فإنه ليس مجرد سجل تاريخي، بل أرشيف بصري ونصي ثمين.
القضية المثيرة للخلاف: موقف العظمة من الثورة العربية
تعد القضية المثيرة للخلاف في هذا الكتاب هي آراء المؤلف في علاقة العرب بالدولة العثمانية، وفي الثورة العربية التي قام بها الشريف حسين أمير مكة، خلال الحرب العالمية الأولى بالاتفاق مع بريطانيا، وهدف بها إلى الانفصال عن الدولة العثمانية وإقامة دولة عربية مستقلة.
يُقدم عبد العزيز العظمة في كتابه موقفًا غير مؤيد للثورة العربية الكبرى، ويميل إلى تأييد الدولة العثمانية والدفاع عن بقائها ككيان جامع للمسلمين. من منظور العظمة، الذي رأى في الدولة العثمانية "دولة الخلافة الإسلامية"، فإن الخروج عليها في وقت الحرب العالمية الأولى كان بمثابة طعنة في الظهر للكيان الإسلامي، ويخدم مصالح القوى الغربية الطامعة في تقسيم المنطقة. هو يرى أن هذه الثورة لم تحقق الاستقلال الحقيقي للعرب، بل فتحت الباب أمام السيطرة الاستعمارية الأجنبية (الفرنسية والبريطانية) على بلاد الشام والعراق، وهو ما تجلى في فرض الانتداب.
هذا الموقف يُعتبر مثيرًا للخلاف لأنه يتحدى الرواية القومية العربية السائدة، التي رسخت الثورة العربية كحدث بطولي ومفصلي نحو التحرر من الحكم العثماني. إنه يعكس تنوع وجهات النظر وتباين الآراء بين النخب السورية والعربية في تلك الحقبة الحرجة، ويُقدم منظورًا مختلفًا للأحداث، من زاوية شخص آمن بالخلافة العثمانية كحصن للأمة.
في الختام، يظل "مرآة الشام" لعبد العزيز العظمة كتابًا محوريًا لفهم دمشق وتاريخ سوريا الحديث. إنه يمزج بين السرد التاريخي الدقيق والشهادة الشخصية، ويُقدم رؤية تاريخية قد لا تتفق بالضرورة مع السرديات السائدة، مما يجعله كتابًا غنيًا يثير التفكير ويدعو إلى تحليل عميق لتلك الفترة المصيرية.
رابط الكتاب : https://fikr.com/products/