قبل ثلاثة عقود وأكثر، كان المؤرخ الأمريكي وليام كليفلاند قد قرر إعادة كتابة سيرة الأمير شكيب أرسلان، بوصفه آخر جنتلمان عربي عثماني، ولأن أرسلان عاش سنوات من حياته خلال الحرب العالمية الثانية في سويسرا، وجد كليفلاند أنه لا سبيل لإكمال قصة هذا الرجل المعروف آنذاك، دون الاطلاع على أرشيف الشرطة السرية السويسرية، وما دونته عنه، وخلافا للصورة التي رسمت عن أرسلان بوصفه الأمير الذي لا يقبل الجلوس إلا في أفخم المطاعم، أظهرت تقارير الشرطة أنه اضطر إلى شرب الماء من نوافير الحدائق، لعدم امتلاكه ثمن فنجان قهوة في المقهى، وبدا أرسلان مع كليفلاند في فصله الأخير رجلا متعبا يعيش في غرفة فندقية، مطاردا من دائنيه.
لكن على الرغم من هذه الصورة الجديدة التي رسمتها الشرطة السويسرية، بدا كليفلاند أحيانا حذرا من تقاريرها، فهي في نهاية المطاف تخضع لشروط عديدة، وقد لا تنقل الصورة كاملة، وربما تؤوّل بعض الأحداث واللقاءات بشكل آخر، ولذلك ختم فصله عن هذه السجلات بالقول إنه في الوقت الذي أصدرت فيه هذه الشرطة مذكرة تقول إنه لم يعد من داع للتنصت على هاتف الأمير، لم تكن قد عرفت بأنه قد توفي قبلها بيومين. مع ذلك فإنّ ما يحسب لكتاب كليفلاند، تقديمه لصورة أكثر قربا عن هذا الرجل في سنواته الأخيرة، من خلال هذه السجلات. ولعل الإحساس ذاته قد يتبادر لذهن القارئ وهو يطالع كتاب «وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي» الذي صدر بطبعة جديدة عن دار الفكر الشامية، المختصّة بنشر تراثه، بعد صدوره العام السابق في تونس (جمع وتعليق رياض شروانة..علاوة عمارة). وخلافا للصورة التي رسمها بن نبي عن حياته في سيرته، وتطور الكتابة عن الذات، وفق تعبير عمر مسقاوي، ومرورها بأكثر من طور بين شاهد على القرن وسيرة العفن، وهذا أمر لا يقتصر على مالك بن نبي بل يطغى على عالم السيرة، فهو عالم خطابي لا ينقل الماضي فقط، بل يعيد تذكره وفقا لظروف ودور الذات الساردة، وموقعها في المشهد، ولذلك يبدو الاطلاع على مصادر أخرى حول سيرته، شيئا مفيدا كما وجدنا مع شكيب أرسلان. وفي أوراقه في الأرشيف الفرنسي، والتي بذل الباحثان جهدا كبيرا في جمعها من أكثر من مصدر، يشعر القارئ بالاقتراب أكثر من ظروف هذا الرجل، فخلافا لصورة المفكر المشغول بسؤال النهضة، نرى في الوثائق صورة أخرى مهمومة ومليئة بالمشاكل والفقر والسجن، ولذلك تشكّل قراءة هذه الوثائق فرصة للتعرف على بن نبي بعيون الآخرين، ويا حبذا لو ترك القارئ لنفسه فرصة قراءته، دون المقارنة مع سيرته أحيانا، ليتيح لهذه الوثائق فرصة التعبير عن نفسها، وذلك على نقيض ما فعله المحققان أحيانا وهما يلاحقان ما ذكر فيها تفنيدا أو دعما لدرجة مبالغ بها منعت هذه الوثائق من إكمال سيرتها أو رأيها.
يحيا هتلر
تتناول الوثائق المنشورة فترة تمتد من عام 1945 (سجنه بتهمة النازية) إلى آذار/مارس 1954، وقد عمل المحققان على نشر الوثائق بترتيب زمني متسلسل، ما ساهم في قراءتها ووضعها في سياق واضح. نتعرف على خلفية سجن مالك بن نبي في أيار/مايو 1945 من خلال المحاكمة التي أجريت له والشهادات التي جمعت، وتظهر وثيقة تعود إلى 18 مايو قيام المدعو جوزاف قودار بالتصريح بتجنيده سرّاجا في ألمانيا، قبل التحاقه بمصنع في مدينة بالسرود (شمال ألمانيا) وهناك وجد مالك بن نبي مندوبا للعمال الفرنسيين في المصنع، ووجده متعاونا مع الألمان وكان يقوم بالتحية الهتلرية. ويؤكد شاهد آخر (27 أيلول/سبتمبر) يدعى فريديك ستيفان أنّ الألمان جندوا بن نبي للعمل مترجما لهم، كما ستقرر المحكمة في اليوم نفسه الاستماع لشهادة زوجته، التي اعتقلت أيضا بتهمة التعامل مع الألمان، وخلال الاستجواب نعرف أن زوجته بولاث فليبون مولودة في عام 1900 في باريس وهي ابنة أوجان فاستون الذي قتل خلال الحرب العالمية الأولى في معارك فاردان، وتزوجت بن نبي عام 1931 عندما كان يواصل دراسته. وخلال شهادتها تبدو العلاقة بين الزوجين غير مستقرة، بسبب تأزم الأوضاع الاقتصادية، إذ اضطرت الزوجة، كما تقول، إلى بيع ممتلكاتها وتربية المواشي بينما عمل بن نبي في مصنع مطاط، وبعد فصله التحق بخدمة الألمان من خلال عمله حارسا ليليا في ورشة بناء معسكر لهم، ثم خادم اصطبل، وبعدها سافر إلى ألمانيا للعمل في مصنع ورق السلوفان، بصفة عامل، وقد عاد إلى فرنسا في يناير/كانون الثاني 1944، بعد 18 عشر شهرا وكان مريضا، ولذلك طلبت منه مغادرة منزلها رافضة تحمل نفقاته باستمرار، وبعدها بيوم ستستجوب الشرطة أم زوجته، التي ستؤدي دور «الحماة» في قاعة المحكمة، من خلال وصف زوج ابنتها بالكسول والمتعجرف.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر، وبناء على تحقيقات أخرى، ستصدر مذكرة عن قاضي التحقيق في فرنسا ضد مالك بن نبي بتهمة المساس بالأمن الخارجي للدولة، وسيدافع عن نفسه رافضا هذه التهم، مؤكدا أنه دافع عن العمال الفرنسيين ضد المسؤولين الألمان، وفي 13 كانون الأول/ديسمبر سيعاد التحقيق مع أحد الشهود (ستيفان) الذي سيغير من روايته قليلا، ويخبر المحكمة بأن بن نبي لم يبد تعاطفا مع ألمانيا، وإنما قال بأنّ هذه الأخيرة حضّرت جيدا للحرب، في مقابل عدم تحضير فرنسا لنفسها نتيجة ظروفها السياسية الداخلية، ويبدو أنّ هذا التراجع في الشهادة سيدفع بالإدارة القضائية إلى طلب مزيد من التحقيقات في هذا الجانب. والطريف أنّ دائرة الشرطة ستقوم بجمع معلومات عن مالك وزوجته من جيرانه وبائعي الحي، ومن بينهم السيد ريفيار البالغ من العمر 55، الذي عمل بائع زبدة، وقال إنه لم يلحظ أي تردّد للألمان على بيت زوجته وحماته، ولم يسمع بأي معلومة عن تعاطفهما مع الألمان ومعاداتهما للحلفاء، بينما ذكر بائع آخر أن حماته امرأة شريرة لا تتوقف عن اغتياب الناس (كما فعلت في المحكمة).
وفي 14 يناير 1946 سيقول بول سان راب مدير في الشركة الوطنية للسكك الحديدية، إنّ مالك بن نبي كان يتحدث عن الدين في المصنع الألماني، وإنه شرح له مشروعه الخاص بالخط الإبراهيمي، الذي يشمل الديانات السماوية الثلاث. وفي هذه الفترة تذكر الوثائق عودة مالك للرد على الاتهامات الموجهة إليه، إذ يؤكد أنّه كان يؤدي التحية الهتلرية مجبرا أمام الضباط الألمان، وفي تاريخ 23 يناير ستطلّع المحكمة على تقرير آخر حول مالك بن نبي يتناول حياته منذ طفولته، وهذا ما يمثّل فرصة للتعرف أكثر عليه، ووفقاً للتقرير كان والده يعمل كاتبا مترجما في بلدة تبسة في الجزائر وعند بلوغه سن الـ16 درس في مدرسة قسنطينة/قسم الفقه الإسلامي وحصل بعدها بأربع سنوات على دبلوم التعليم العالي الإسلامي، ويبدو أنّ والده اضطر لاحقا إلى الاستقالة من منصبه وفتح مطحنة، غير أنّ تراجع سعر الحبوب في سنتي 1929 و1930 أرغمه على إغلاقها، ولذلك وجد الشاب نفسه بعد نصيحة والده مضطرا للسفر إلى باريس لمتابعة دروسه في الكهرباء والميكانيك، واللافت في هذا التقرير أنه لا يبدي أي حساسية أو قراءة لتحيزاته الأيديولوجية أو السياسية، بل نراه يركز على جانب يتعلق بالسياق الاقتصادي لهذا الشاب وعائلته، ولا نعرف هل كان يعكس ذلك تأثرا من قبل إدارة الشرطة الفرنسية بهذه القراءة؟ أم هو سياق خاص بمعدّ التقرير.
ما يميز وثائق ما بعد 1946، ظهور بن نبي بوصفه مثقفا وناشطا سياسيا، خلافا لصورة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا ما سنراه مرة مع عقده ندوة بدعوة من لويس ماسينيون، الذي سيظهر في هذه الرسالة داعما له، خلافاً لما كتبه لاحقا من أن ماسينيون كان يضايقه.
وبكل الأحوال، يذهب التقرير إلى أنّ الشاب بحث بعد دراسته عن عمل، لكن فرنسا كانت تمرّ بأزمة صناعية، فأرغم على العودة في عام 1937 وقام بإعطاء دروس في الرياضيات لسنة تقريبا، واضطر بعدها إلى العودة مرة أخرى لفرنسا للبقاء إلى جانب زوجته، وهنا سيعود التقرير ليركز على الجوانب الاقتصادية من حياته، إذ يلاحظ أنّ فترة العودة لم تكن مثالية، فقد اضطر للعمل في مصنع مطاط، وبعد إغلاق المصنع اشتغل كاتبا في بلدية درو (شمال فرنسا) حتى نيسان/إبريل 1941 إذ سُرِّح عدد من العمال، فاشتغل حارسا ليليا في مصلحة تابعة لمعسكر ألماني، ثم حارسا في النهار، وحاول العودة للجزائر لكن خلافات عائلية حالت دون ذلك، ليقرر في ظل تفاقم أوضاعه السفر مرة أخرى إلى ألمانيا، وبعد عودته إلى فرنسا عمل في مصلحة ألمانية، وفي عام 1944 اقتيد مع زوجته إلى مركز بتفيي. ويقول التقرير إنّ مالك بن نبي عمل بعدها كمحضر للعطور في مصنع مرينقون في باريس إلى غاية توقيف زوجته للمرة الثانية واضطراره تسليم نفسه. ولا يشير التقرير هنا إلى علاقة بين بن نبي والألمان، خلافا للاتهامات الأولى، مع ذلك سيؤكد شاهد جديد في 19 شباط/فبراير 1946، يدعى أوجان دالقو، وهو أحد الذين عاشوا معه في المعمل في ألمانيا، أنّ المتهم كان يتمنى انتصار ألمانيا النازية، لكن دون أن يضرّ الفرنسيين في شيء، كما أنّه تدخّل لحماية فتاتين رسمتا صورتين لهتلر في دورة مياه، وفي شهادة أخرى ستؤكد إحدى النساء أن بن نبي قد نصحها في المعمل الألماني بتجنّب العقوبات، ويبدو أنّ تقرير الشرطة بالإضافة إلى الشهادتين الأخيرتين مثلت نقطة تحول في قضيته، إذ سيصدر القاضي في 11 إبريل قراراً بالإفراج عنه.
وثائق ما بعد 1946
ما يميز وثائق ما بعد 1946، ظهور بن نبي بوصفه مثقفا وناشطا سياسيا، خلافا لصورة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا ما سنراه مرة مع عقده ندوة بدعوة من لويس ماسينيون، الذي سيظهر في هذه الرسالة داعما له، خلافاً لما كتبه لاحقا من أن ماسينيون كان يضايقه. ويبدو أنّ نشاطه السياسي قد حال أحيانا دون تركيز التقارير على حياته الشخصية، فمعظم ما سيدونه أفراد الشرطة في هذه الفترة هو لقاءاته بالقادة الوطنيين الجزائريين، بينما لا نعثر على أي تفاصيل أخرى عن حياته، ما قد يعكس حالة القلق الفرنسية التي أخذت تتشكل في هذه الفترة من أي حراك سياسي. كما تظهر الوثائق أنّ الموقف الرسمي الفرنسي منه بقي متضاربا، فبعض الرسائل تصفه بالمتعجرف (قدماه لا تلامسان الأرض) في حين توصي تقارير أخرى بضرورة الاستفادة منه على صعيد العمال شمال الافريقيين في فرنسا. وفي هذه الفترة أيضا سيعود وضعه الاقتصادي المزري ليطغى على تصرفاته، وسيذهب بن نبي إلى أنّ عدم حصوله على وظيفة كان بسبب رفضه عروض عمل في الشرطة، بينما كان الفرنسيون يبررون ذلك بغياب مؤهلات كافية (شهادات).
واللافت أنّ شعور بن نبي بالحصار سيتفاقم، لذلك سيقوم مناضلو الاتحاد الديمقراطي بحملة جمع التبرعات لصالحه للسفر إلى المدينة المنورة، لكن يبدو أنّهم لم يتمكنوا من جمع المبلغ، ويفسر هذا تقرير أحد المسؤولين كون القاعدة النضالية لم تكن مهتمة بمناضل يريد الاستقرار في الشرق الأوسط، ويبتعد عن القضية الجزائرية.
طباعة كتب مالك
لربما من بين المعلومات القليلة الأخرى عن كتب بن نبي رسالة بتاريخ 8 آب/أغسطس 1947، تظهر طلبا من دار نشر النهضة إلى مدير مصلحة الصحافة والنشر ويخص تزويدها بـ800 كغ من ورق الطباعة لسحب 4400 نسخة من رواية مالك بن نبي «لبيك» ولعل عدد نسخ الطبعة هنا قد يجعلنا نتوقف لنطرح تساؤلا، حول إن كان الكتاب آنذاك منتشرا لهذا الحد، أو كان هناك إقبال كبير على القراءة وشراء الكتب في الجزائر، أم أنّ ذلك يتعلق فقط بكتب مالك التي بيعت منها آلاف النسخ في السنوات الماضية بعد إعادة طباعتها، ولعلنا نحتاج إلى مصادر أخرى للإجابة، لكن اللافت في هذا الجانب ما نعثر عليه في وثيقة أخرى صدرت بعد أسبوع من الطلب في 15 أغسطس عن موقف مصلحة الاتصالات العامة من الطلب، التي وجدت أنّ دار النشر موالية للتيار الوطني من خلال إدارتها وهي من تقوم بنشر مناشيرهم، ولذلك فهي ترى في طلب 800 كغ طلبا مبالغا به، وربما هناك سعي لتضخيم غير حقيقي لعدد النسخ المطبوعة والكمية المطلوبة بقصد استعمال باقي الورق في طبع مناشر دعائية، ولذلك ستقترح تزويد الدار بـ200 كغ فقط، وربما في هذه المعلومة ما يكشف عن جانب آخر من عالم الطباعة يتعلق بدور الحكومات الاستعمارية، ولاحقا الوطنية في ضبط موضوع الطباعة.
وتبقى ملاحظة أخيرة أنّ الكتاب بطبعته الثانية صدر في دمشق مع ذلك لم تراع الدار الناشرة تعديل بعض تسميات الأشهر، فقد حافظت عليها كما تذكر وكان الأحرى بها تعديل ذلك في الطبعة الشامية التي كان لها إسهام كبير في إعادة التعريف بمالك بن نبي وأفكاره في العقدين الأخيرين.
القدس العربي