تخطي إلى المحتوى
من أكثر مدن أوروبا حيوية وثراء سراييفو.. تحمل عبق الشرق الإسلامي من أكثر مدن أوروبا حيوية وثراء سراييفو.. تحمل عبق الشرق الإسلامي > من أكثر مدن أوروبا حيوية وثراء سراييفو.. تحمل عبق الشرق الإسلامي

من أكثر مدن أوروبا حيوية وثراء سراييفو.. تحمل عبق الشرق الإسلامي

سراييفو.. مدينة إسلامية ساحرة تقع في قلب أوروبا، وتحمل عبق الشرق الإسلامي بكل جمالياته وعمارته وأصالته وروحانياته، حيث المساجد والمباني الإسلامية والأسبلة‏ والمدارس التاريخية والحمامات والتكايا والخانقاوات، التي تنتشر في ربوع المدينة. وقد صارت، بعد إنشائها بسنوات قليلة، عاصمة للبوسنة والهرسك، وأعظم مدن البلقان وأوروبا الشرقية، وأكبر المراكز الثقافية الإسلامية المتميزة في العمق الأوروبي.

ويمكن لزائرها أن يميز عبق قرون من التاريخ، كأنها تنبعث من داخل شوارع المدينة وأحيائها، في تفرد عجيب لتلك البلاد، التي تحتفظ بهويتها الإسلامية في قلب أوروبا، ويؤكد ذلك الطابع المعماري الإسلامي لعدد كبير من العمائر والبنايات التي تقف شامخة حتى اليوم في تلك المدينة العجيبة.

ويرتبط تاريخ سراييفو، إلى حد كبير، بتاريخ البوسنة، باعتبارها حاضرة هذه البلاد ومركز الحياة فيها، ولعدة قرون جعلها موقعها في قلب أوروبا مجمعاً للحضارات، فقد احتضنت الحضارات البيزنطية، والإسلامية، والرومانية، والنمساوية، والمجرية.

تأسست هذه المدينة الخلابة في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، على يد الفاتحين المسلمين، وجاء بناؤها في واحدةٍ من أكثر المناطق جاذبيةً في البلاد، حيث شيدت في منطقة وادي سراييفو وسط البوسنة والهرسك، الذي كان من الاتساع بحيث أتاح للمدينة نمواً حضارياً وسكانياً كبيراً في المروج الخضراء المحيطة بها، والتي تنتهي بجبال شاهقة الارتفاع هي جبال الألب الدينارية، وهو ما أعطى المدينة بهاءً وجمالاً زاد منهما نور الإسلام. ويعد نهر (ميلاتسكا) واحداً من المواقع الجغرافية الرئيسية للمدينة، وهو يسير عبر المدينة من الشرق مروراً بالوسط إلى الجزء الغربي من المدينة، حيث يلتقي في النهاية مع نهر البوسنة، كما تمر العديد من الأنهار الصغيرة والجداول عبر المدينة.

ويقدر عدد سكان سراييفو اليوم بنحو نصف مليون نسمة، يتألفون من خليط عرقي ديني فريد، حيث يشكل المسلمون نحو (44%) من السكان، والصرب نحو (31%)، والكروات (17%)، فيما يتألف الجزء الباقي من السكان من خليط من الألمان والنمساويين والأتراك والألبان.

هذا التناغم الديني جعل المدينة تشتهر بلقب (قدس أوروبا)، أو (قدس البلقان)، أو (مدينة السلام)، حيث تعد المدينة الأوروبية الوحيدة التي تضم الأديان السماوية الثلاثة بمعابدها في حي واحد، وهذا ما يجعلها واحدة من أكثر المدن حيوية وثراء ثقافياً في أوروبا.

ويعود تاريخ سراييفو الإسلامي، إلى النصف الأول من القرن الخامس عشر الميلادي، وتحديداً سنة (1435م)، عندما تمكن العثمانيون من السيطرة الكاملة على المناطق التي كانت تشكل فيما مضى يوغسلافيا الاتحادية، وأحدثوا تغييرات هائلة في جوانب الحياة، وأقيمت مدن كثيرة ذات طابع شرقي إسلامي، وتميزت بكثرة سكانها، وأغلبيتهم من المسلمين.

وكانت سراييفو أهم هذه المدن على الإطلاق، فعلى ضفاف نهر ميلاتسكا، وضع (عيسى بك إسحاقوفيتش) أساس المدينة، واسمها مشتق من كلمة (سراي) العربية، وتعني القصر، وفي نهاية القرن الخامس عشر، بدأت سراييفو تنمو، وتوسعت في الضواحي المجاورة، حتى ظهرت كمدينة شرقية إسلامية مختلفة تماماً عما كان يوجد في المنطقة.

وتمثلت نواة المدينة، في أول مسجد أسس في البوسنة، والذي بناه عيسى بك على الضفة اليسرى لنهر ميلاتسكا، عام (862هـ) (1457م)، باسم السلطان محمد الفاتح، ولذلك عرف منذ ذلك الوقت باسم (جامع السلطان). وبعده قام عيسى بإنشاء وقفه، الذي يعتبر النواة الحقيقية لسراييفو، فقد بنى حماماً عاماً، قرب الجامع، وميداناً لسباق الخيل، وجسراً على نهر ميلاتسكا، الذي يشق سراييفو، وعلى الجانب الأيمن للنهر، في الجهة المقابلة للمسجد وبالقرب من السوق القديم، أقام أول استراحة للقوافل، وأنشأ حولها عدداً كبيراً من المحلات للحرفيين والتجار، وشيد في المنطقة التي تعلوها استراحة للمسافرين وتكية، وأدخل شبكة للمياه بالمنطقة.

وبلغت المدينة ذروة تقدمها في نهاية القرن الخامس عشر، من ناحية التطور العمراني، وكان الفن المعماري أكثر فروع الفنون تطوراً ونماء، فتم تشييد أكبر عدد من المساجد، وأوقف عيسى بك العديد من الطواحين والكثير من الأراضي، للصرف على المؤسسات المعمارية التي أنشأها، وكتب وقفية لذلك باللغة العربية، وثقها عام (866هـ) (1462م).

وهذه الوقفية تعد وثيقة مهمة عن تاريخ البوسنة وسراييفو، إذ إنها أقدم وقفية توثق لأولى المنشآت الإسلامية التي بنيت هناك، حتى عام (866هـ) (1462م)، كما أنها توثق لتأسيس مدينة سراييفو التي غدت المركز الأشهر في البوسنة، ومن أهم مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان.

وقد نالت هذه الوقفية اهتمام الباحثين خلال القرن الماضي، فكان الباحث الصربي (غليشا الزوفيتش)، أول من اهتم بها، ونشرها باللغة الصربية في حولية (الآثار التركية)، التي صدرت في بلجراد عام (1940م)، ثم اهتم بها أكثر، العالم البوسني (حازم شعبانوفيتش)، ونشرها في ترجمة منقحة في مجلة معهد الاستشراق في سراييفو، خلال عام (1952م)، ونشرت هذه الترجمة للمرة الثالثة في كتاب (وقفيات من البوسنة والهرسك- القرن 15-16)، الذي أصدره معهد الاستشراق في سراييفو (1985م).

والنسخة المصدقة من هذه الوقفية محفوظة في سجل المحكمة الشرعية في سراييفو، والذي يحمل الرقم (71) لسنة (1254هـ/1838م)، والمحفوظ الآن في مكتبة الغازي خسرو بك بالمدينة، وهناك عدة نسخ أخرى منها.

وقد وصلت سراييفو، التي أصبحت عاصمة للبلاد، إلى عصرها الذهبي في النصف الأول من القرن السادس عشر، وهو عصر الغازي (خسرو بك)، الذي شغل منصب والي منطقة البوسنة من عام (1521م) حتى (1541م)، وشغف بمدينة سراييفو وتعلق بها، حيث أقام مسجداً عام (1531م)، يعد من أكبر مساجد البوسنة وأجملها، ويسمى (مسجد الغازي خسرو بك)، وبنى بعده في عموم البوسنة (41) مسجداً، وأوقف عليها أكثر من ثلاثمئة وقف. كما أقام كتّاباً ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، ومدرسة أخرى خاصة بالفلسفة الصوفية، ومكتبة وحماماً به قسمان: قسم للرجال وآخر للنساء، واستراحة للقوافل، وبعض الفنادق، ونحو ثلاثمئة دكان، وبسبب كل هذه الأعمال والمنشآت الخيرية، تثني عليه الأجيال في البوسنة إلى اليوم.

وتذكر المصادر أن عدد أحياء المدينة بلغ (104) أحياء، منها (72) حياً للمسلمين، وكان فيها (17) ألف منزل، و(170) مسجداً، ومن أكبرها: جامع سلطان باشا، وفرهاد باشا، وخسرو باشا، والغازي علي باشا، وعيسى باشا.. إلى جانب المساجد الحديثة، ومنها جامع الملك فهد، وهو أكبر جامع في شبه جزيرة البلقان. وكانت تضم (180) مدرسة للأطفال، و(74) تكية، فيها (176) طاحونة، وخمسة أسواق، و(70) حماماً، وثلاثة قصور للقوافل، و(23) خاناً كبيراً للتجار، و(8) خانات لأبناء السبيل، وسبعة مطاعم خيرية تقدم الطعام لطلاب العلم وعابري السبيل والفقراء، وعدد من الدكاكين، وسوق مغطى، و(300) سبيل، منها سبيل فرهاد باشا، وسبيل خسرو بك، وسبيل مراد باشا، وسبيل الغازي عيسى بك، ولم يبق اليوم سوى سبيل خسرو بك. كما كانت تضم (26) ألف حديقة وبستان، وسبعة جسور على نهر ميلاتسكا.

وفي سنة (1878م)، وعلى إثر توقيع معاهدة برلين الشهيرة، خرجت تركيا من البوسنة، ليخلفها الاستعمار النمساوي المجري، وفي الحرب العالمية الثانية، تركزت هجمات الألمان على سراييفو، وتم احتلالها سنة (1941م)، وسلموها لدولة كرواتيا.

وقبل الحرب الأخيرة التي جرت في تسعينيات القرن الماضي، كانت سراييفو أكثر مدن أوروبا ميلاً إلى الطراز الشرقي، وكان سائحو أوروبا يزورونها لرؤية مساجدها وأسواقها وحوانيتها على الطراز الإسلامي. وهي تعد اليوم من أهم المراكز الثقافية الدينية في منطقة البلقان، فهي مقر رئيس العلماء المسلمين اليوغوسلافيين، ورئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الشرقية وأسقفية الروم الكاثوليك، وفيها عدة أكاديميات ومعاهد إسلامية، وفيها جامعة واحدة هي جامعة سراييفو، التي أسست عام (1949م)، وتضم ثماني كليات في مختلف الاختصاصات العلمية.

وتزخر بالعديد من المعالم التاريخية، ومن بينها متحف النفق، وهو عبارة عن ممر تحت الأرض على عمق (2600) قدم، تم حفره عام (1993) لإنشاء طريق سري لتهريب المواد الغذائية والإمدادات الأخرى أثناء حصار سراييفو. وهناك مسرح الحرب، الذي أقيم بعيد حصار المدينة لرفع الروح المعنوية للمقاتلين المحليين، ولحثهم على حماية المدينة. ونجد برج الساعة الذي يُطلق منه مدفع رمضان يومياً، عند دخول موعد المغرب ليُعلن انتهاء الصيام.

وهناك العديد من المتاحف والمعارض الفنية، من بينها متحف (آرس أفي) للفن المعاصر، الذي تأسس عام (1992م)، من قبل مجموعة من الفنانين، ويضم أعمالاً لفنانين مثل: (جانيس كونيليس) و(روبرت كوشنر). كما نجد متحف مدينة سراييفو الواقع في قلب المدينة القديمة، يرصد تطور مدينة سراييفو عبر العصور، ويحتوي على نموذج مصغر من البلدة القديمة. وهناك العديد من المهرجانات الثقافية، التي يتم تنظيمها في المدينة، مثل مهرجان سراييفو السينمائي، ومهرجان الشتاء، ومهرجان سراييفو الدولي للموسيقا، ومهرجان موسيقا الجاز.

وقد اجتذبت سراييفو اهتمام العالم عدة مرات طوال تاريخها، ففي عام (1885م)، كانت أول مدينة في أوروبا وثاني أكبر مدينة في العالم، بعد سان فرانسيسكو، لديها شبكة الترام الكهربائي، وفي عام (1914م)، كانت موقع اغتيال الأرشيدوق النمساوي، ذلك الحدث الذي أشعل الحرب العالمية الأولى، وفي وقت لاحق بعد ذلك بسبعين عاماً، استضافت سراييفو الألعاب الأولمبية الشتوية (1984م).

ومنذ أن توقفت حرب البوسنة في نهايات القرن الماضي، وجدت مدينة سراييفو نفسها أمام مرحلة جديدة للبناء والتعمير، وإعادة ترميم الآثار التاريخية التي دمرتها الحرب كلياً أو جزئياً، وقد وضعت مؤسسات المجتمع المدني خططاً طموحة لحماية التراث الإسلامي بالمدينة من الاندثار، وبدأت بالعمل على ترميم المساجد القديمة والمتاحف والمخطوطات الإسلامية لكونها تمثل الذاكرة الحضارية للمسلمين، في هذا الجزء من العالم.. وها هي اليوم تقف على قدميها ثانية، لتستعيد مكانتها السابقة، كمصدر جذب للسياح الأوروبيين، باعتبارها تحمل بين أحيائها الطابع الأوروبي الممزوج بطابع الشرق الإسلامي.

مجلة الشارقة الثقافية