أصدرت دار الفكر بدمشق مؤخراً رواية بعنوان "الطوشة" للدكتور نزار أباظة تحكي قصة حب صعب بين شاب مسلم وفتاة مسيحية قامت على هامش ما جرى في حوادث فتنة 1860م التي جاءت بنكبة دهياء على دمشق فآذت النصارى والمسلمين على حد سواء، وإن كانت أذية المسيحيين أشد وأعظم.
الرواية تصف الحوادث المؤلمة التي قتل فيها آلاف المسيحيين وهدمت بيوتهم وكنائسهم، وأعدم فيها مئات المسلمين السنة، ونفي عدد من كبار العلماء إلى قبرص والأناضول وحكم على بعضهم بالسجن سنوات دون إثبات جرم عليهم.
زعزعت النكبة هدوء المدينة واستقرارها، وقضت على اقتصادها وأفقرها- وأرّثت الحقد بين المنكوبين.
مضت سنوات استقرت الحياة في دمشق وتعاون أهلها كلهم على اختلاف منازعهم ونما شركات وتجارات ومعاملات وصلات بين المسلمين والمسيحيين بعد أن تناسوا ما جرى وتولت شخصيات من المسيحيين مسؤوليات دقيقة في الوطن على رأسهم فارس الخوري رئيس الوزراء الذي وقف في وجه الفرنسيين عند احتلالهم سورية.
ثم يأتي اليوم من يثير النزعات الطائفية، يعيدها إلى ذلك التاريخ المشؤوم، وخصوصاً عندما حدث التفجير اللئيم يوم الأحد في 22 حزيران 2025 في كنيسة مار إلياس بضاحية الدويلعة شرق دمشق يذكّر الناس أن الشيطان يتربص بالبلاد يريد أن يثير النزعات ليقتل المواطنون بعضهم بعضاً من غير ثمن.
ومن هنا ثار الناس على وسائل التواصل الاجتماعي أخذاً ورداً وعلى نحو تستغني عنه دمشق في هذا الوقت الحساس من قيام الدولة الجديدة التي ثارت على ظلم استمر أكثر من ستين سنة.
ما فائدة إثارة الطائفية اليوم؟ ألا يؤدي ذلك إلى مزيد من الاحتقان والكراهية ونزع فتيل الفتنة النائمة التي يريد بعض الناس أن يوقظها بكلام غير مسؤول؟
ثم ما معنى تحميل أهل السنة من المسلمين ما جرى للمسيحيين على أيدي غيرهم؟ والتاريخ شاهد على غير ذلك.. بل إن الذين حموا المسيحيين بدمشق هم من رجالات المسلمين ولولا ذلك لأبيد كثير من الناس.
لا ينسى التاريخ موقف الأمير عبد القادر الجزائري الذي سلّح المغاربة واستنفرهم لحماية المسيحيين، وفتح بيته لاستقبالهم وبث رجاله في كل مكان وخاصة حول القلعة لحراسة من التجأ إليها وأنقذ من القتل نحواً من 15 ألف شخص من الأعيان والرهبان والراهبات.
ومعروف موقف مفتي الشام محمود حمزة وأخوه أسعد وبذلهما جهدهما في الدفاع عنهم وكذلك عمر آغا العابد وسليم العطار وسعيد النوري وصالح آغا المهايني وهم من كبار الوجهاء بدمشق ومعونتهم المسيحيين قدر المستطاع.
وربما كان في الناس من ينسى الشيخ عبد الغني الغنيمي مرجع الحنفية لزمنه وفارس الميدان الذي وقف وقفة بطولة حين خرج مع جماعته فجابه الغوغاء الذين يريدون مداهمة حارات النصارى في الحي فأنذرهم بطشة الرجال وردهم على أدبارهم لما رأوا الجد في كلامه واندفاعه، فلم يقتل مسيحي واحد في الميدان ولم يُروّع أحد.. وسلمت الكنائس فيه.
عرفت الدول الأوربية مواقف هؤلاء الرجال وقدّرتها حق قدرها وخاصة الأمير عبد القادر فمنحته أوسمة فخرية من المرتبة الأولى، وسام الجوقة الفرنسي ووسام صليب النسر الأبيض الروسي ووسام صليب النسر الأسود البروسي.. ووسام صليب المخلّص اليوناني وأهدت إليه ملكة بريطانية بندقية مرصعة بالذهب، وقد كتب لها يقول" إنني لم أفعل إلا ما توجبه علي فرائض الدين ولوازم الإنسانية".
أما مفتي الشام محمود حمزة فقد وجه إليه نابليون الثالث إمبراطور فرنسا بندقية صيد محلاة بالذهب ووساماً لم يقبله.
وبعد
فإن أصل الفتنة كانت صدى للحوادث التي جرت أيام إبراهيم بن محمد علي باشا في زحفه على الشام عام 1831 حتى انسحابه منها عام 1840م.
كان في جيشه قوات فرنسيون وشايعه واستقبله الأمير بشير الشهابي الذي دخل النصرانية وقام معه ضد الدروز وحصل بينهم وبين الباشا وقائع ومقتلة من الطرفين في عدد من المواقع. مما دفعه مرة إلى تسميم القناة التي تدخل قرى الدروز.
وحين رأى الفرنسيون هذه الحوادث خافوا على نصارى لبنان وسلحوهم. مما دفع الإنكليز إلى تسليح الدروز الذين استجاروا بهم.. جاء في مرآة الشام نقلاً عن اللورد دوفرين أحد أعضاء اللجنة الدولية التي قدمت المنطقة عقب الحادثة المشؤومة في تقريره إلى حكومة انكلتره: "لما زرت لبنان قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين، فالدروز كانوا مستعدين للقتال، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد آذنت ساعة فوزهم، وادخل إلى لبنان من عام 1857 إلى عام 1860 أكثر من 120 ألف بندقية و20 ألف مسدس.. وكان الفريقان كثيراً ما كانوا يقتل بعضهم بعضاً.
ومن هنا اشتعل جبل لبنان وظهر الدروز على المسيحيين في عدد من قرى الجبل واضطرب حبل الأمن مما دعا كثيراً من المسيحيين إلى النزوح لدمشق طلباً للأمان. وإذ ذاك قام أعداؤهم بتعقبهم؛ قال محمد كرد علي: حوادث الشام سنة 1860 بدأت في بيت مري وثنت بدير القمر، ومن هناك انتشرت في الأطراف.
وإذن فالمسألة ليست داخلية فحسب، إنها من تأريث إبراهيم باشا والفرنسيين والإنكليز الذين كانوا يتربصون بالبلاد من موقفهم على ساحل بلاد الشام، وكادوا يتدخلون بجيوشهم وخصوصاً الفرنسيين.. لولا أن سارعت الدولة العثمانية فأرسلت فؤاد باشا مبعوثاً لمعالجة الفتنة والسيطرة ومعه سلطات واسعة بالتصرف دون الرجوع إلى السلطان.
فعنف على السكان وقسا عليهم وأعدم كثيراً بالرصاص أو الشنق وقبض على كبار العلماء فعاقبهم كما ذكرنا بالسجن والنفي لأنهم سكتوا، وفرض أتاوات مجحفة على المسلمين للتعويض على النصارى، فدفعوا ثمن عدوان لم يكن لهم فيه يد.
أما المتسببون الفعليون الذين حماهم الإنكليز فلم يحرك ضدهم عقوبة وإنما نفى عدداً منهم إلى شمال إفريقية.
وبعد أيضاً
فمن الرابح حين تثور الفتنة التي تأتي على الأخضر واليابس؟ هل يريد أصحاب الفتن أن يعيدوها لتستأصلهم قبل غيرهم؟
المصادر:
-تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري 1/81.
-خطط الشام 3/79 وما بعد، محمد كرد علي، دمشق، مكتبة النوري 1403هـ/1983 ط3.
-حوادث الشام، ميخائيل مشاقة.
-علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 1/443 في صفحات متعددة، 2/771، 2/795 وما بعد.
-مرآة الشام، عبد العزيز العظمة، دمشق، دار الفكر، 2002م 316 وما بعد.
رابط الكتاب: https://fikr.com/