تخطي إلى المحتوى
من سائل الغرغرة إلى البنادول.. كيف تطورت صناعة الأدوية عبر التاريخ؟ من سائل الغرغرة إلى البنادول.. كيف تطورت صناعة الأدوية عبر التاريخ؟ > من سائل الغرغرة إلى البنادول.. كيف تطورت صناعة الأدوية عبر التاريخ؟

من سائل الغرغرة إلى البنادول.. كيف تطورت صناعة الأدوية عبر التاريخ؟

عندما كان الإنسان القديم يُصاب بالمرض، كان يعتقد أنَّ مرضه عقابٌ من الرب، وكان الشفاء يعني تطهره من الذنوب والخطايا. وعبر التاريخ ارتبط المرض والدواء بالأديان ارتباطًا وثيقًا، حتى أنَّ كلمة «Pharmacy» والتي تعني الصيدلية بالإنجليزية، تنحدر من كلمة «Farmacon» اليونانية، والتي تعني التطهير بالتكفير. ولكن هذا الارتباط المفاهيمي، لم يوقف سعي الإنسان الحثيث للعثور على أدوية لشفاء الأمراض.

واعتمدت الحضارات القديمة على النباتات، والحيوانات، والمعادن لصنع المستحضرات العلاجية، وقد عُثر على أقدم السجلات الطبية في الصين، التي تعود إلى القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وهي عبارة عن نصٍّ منسوبٍ للإمبراطور شينونج جاء فيه احتواء مادة تعرف باسم تشانج شان (من الأنواع النباتية Dichroa febrifuga) على مواد كيميائية عضوية مضادة للملاريا.

الإنسان القديم وصناعة الأدوية

السومريون يخترعون سائل الغرغرة والحقن الشرجية

بحلول عام 3500 قبل الميلاد، طور الشعب السومري في منطقة دجلة والفرات، سوائل دوائية مثل سائل الغرغرة، والحقن الشرجية، والأعشاب المنقوعة والمغلية، كما استطاعوا تطوير التحاميل، والمراهم.

واكتشف علماء الآثار ألواحًا طينية، مكتوبًا عليها باللغة المسمارية، تحمل أسماء بعض الأدوية المستخدمة لعلاج عدد من الأمراض، والمصنوعة من المنتجات الطبيعية، ومن بين ما ذكر في الألواح استخدام الماء المالح للغرغرة، والخمر الحامض لعلاج الالتهابات وتعقيم الجروح، وملح نترات البوتاسيوم المستخلص من البول على شكل سائل قابض. واستخدم لحاء الصفصاف لخفض الحرارة، كما وثقت الألواح  استخدام السومريين زيوت نبات المر لعلاج السعال والبرد والالتهابات.

وتشير الأواني  الفخارية  إلى احتواء الأدوية المعوية لشعب سومر على وصفات الحليب والكربونات وورق النعناع، وذلك لعلاج عسر الهضم وحموضة المعدة.

كذلك، يعد الزيت الأصفر المستخلص من بذور الخروع أول العلاجات المسهلة الوارد ذكرها في السجلات التاريخية لبلاد الرافدين ووادي النيل، كما استخدم من قبل لترطيب الجلد وتسهيل انزلاق الحجارة الكبيرة على العجلات الخشبية لنقلها إلى أماكن البناء.

المصريون القدامى يبدعون

أما في مصر القديمة، فقد اكتشف عالم الآثار الألماني جورج إيبرس بردية كُتبت في وقت ما بين أعوام 1553 و1550 قبل الميلاد تُدعى بردية «إيبرس»، أوضحت أن الأطباء في مصر القديمة استخدموا الملينات المصنوعة من طحين قرون نبتة السنامكي وزيت الخروع لعلاج الإمساك، كما استخدموا أوراق النعناع والكربونات للتخلص من عسر الهضم، وخففوا آلام خلع الأسنان بالكحول الإيثيلي.

كما اخترع المصري القديم (خلال الأسرة الثانية عشرة) حبوب سكرية لتهدئة السعال تعمل على تهدئة عضلات الحنجرة، واستخدموا في ذلك العسل وبعض نكهات الأعشاب والبهارات والموالح. خلال انتقال تلك الوصفة عبر الحضارات المختلفة، خضعت إلى بعض التعديلات عبر إضافة لحاء شجر الدردار، وزيت الأوكالبتوس، وزيت النعناع.

لم تكن  الوصفات الدوائية هي كل ما تحويه بردية إيبرس، بل ضمت معلومات عن تسلسل عملية إعداد هذه الأدوية، فإنَّ رئيس محضري الأدوية يوجه مساعديه إلى جمع الأعشاب، والفلزات اللازمة لتحضير العقار، ثم تجفيفها وطحنها، ليأتي دوره في خلط الأدوية وتركيبها، كلّ حسب وصفته.

وقد ازدهرت مدرسة الكيمياء التابعة لمكتبة الإسكندرية في مصر في القرن الثاني قبل الميلاد، وتمكن الكيميائيون من إعداد العديد من المواد غير العضوية، ولكنهم استخدموا مواد أثبت ضررها البالغ في الوقت الحالي مثل الرصاص والزرنيخ والزئبق.

قطرة العين عند الصينيين

في عام 2737 قبل الميلاد، بدأ في الصين استخدام الشاي المخمر بوصفه أول مادة منبهة، حينما استخدمه الإمبراطور الصيني «شن نونج» ليقلص رغبته في النوم للتمكن من إقامة الشعائر الدينية. كما صنف الإمبراطور 365 عشبة من حيث المرارة، وكانت المجموعات الرئيسية قوية ومتوسطة ومعتدلة، وكان نبات «ما هوانج» يوجد في المجموعة المتوسطة، وقد استخدمه الأطباء الصينيون القدماء لأغراض متعددة. ونبات ما هوانج نبات يحتوي على الإيفيدرين، الذي يستخدم اليوم في العديد من المستحضرات الصيدلانية المخصصة لعلاج أعراض البرد والحساسية والربو.

وقد وثقت بعض الوثائق الطبية القديمة العديد من الوصفات الصينية الطبيعية لعلاج الأمراض، ومن بينها: وثيقة «وو شي إر بينج فانج» وتعود إلى عام 1100 قبل الميلاد وتحتوي على 52 وصفة طبية، ووثيقة «شينونج هيربل» التي تعود إلى 100 قبل الميلاد وفيها 365 وصفة دوائية، ووثيقة «تانج هيربل» عام 659 ميلاديًّا، التي تضم 850 وصفة علاجية.

أدوية الإغريق

بحلول القرن السابع قبل الميلاد، كان الإغريق يفسرون أن الأمراض عقاب من الآلهة الغاضبة، كما آمنوا بإله الشفاء «أبرلو». لكنهم في الوقت ذاته وضعوا مبادئ العقل والمنطق لتشخيص الأمراض وعلاجها.

في عام 100 ميلاديًّا، سجل الصبيب  اليوناني ديوسكوريديس جميع الأعشاب الطبية وطريقة تخزينها واستخدامها في كتابه «De materia medica»، وفيه وصف خلات النحاس الأساسية وكبريتات النحاس بوصفها عوامل دوائية.

كما أدرج الطبيب اليوناني جالينوس (حوالي 130- 200 ميلاديًّا) الأفيون ضمن الأدوية في متجره، ولا تزال تستخدم مشتقات قلويدات الأفيون على نطاق واسع لتخفيف الآلام اليوم. وعلى الرغم من أن العديد من المستحضرات الطبية التي يستخدمها جالينوس قد عفا عليها الزمن، فقد قدم العديد من المساهمات المفاهيمية المهمة في الطب الحديث، فقد أدرك أهمية استخدام الصنف المناسب وعمر العينات النباتية لاستخدامها في صنع الأدوية.

الهنود الحمر يستخدمون النباتات لتسهيل الولادة وتعزيز المناعة

استخدمت القبائل الأصلية من الهنود الحمر في جنوب كاليفورنيا نبات «السالفيا» الذي ينمو في جميع أنحاء المنطقة الجنوبية الغربية من الولايات المتحدة وكذلك شمال غرب المكسيك، استخدموه لتسهيل عملية الولادة.

كذلك، استخدموا رماد نبات السالفيا الساخن لدهان الذكور حديثي الولادة ليتمتعوا بصحة أفضل ويصبحوا أقوى أعضاء قبائلهم، وقد زعموا أن هذ يجعلهم محصنين من جميع أمراض الجهاز التنفسي مدى الحياة.

ادعى المؤمنون بالطب التقليدي أن نبات «العاقول المغربي» يساعد في علاج فقدان الشهية والإمساك والحمى والجذام، وقد دخنه شعب الكونكان (مجموعة عرقية هندو آرية موطنها منطقة كونكان في شبه القارة الهندية) لعلاج الربو، بينما استخدمه الرومان لعلاج السلائل الأنفية (أورام أنفية حميدة).

تطور علم الأدوية مع تطور علم الكيمياء

بدأ تحسن علم الأدوية بشكل ملحوظ مع بدء الاكتشافات الكيميائية الكبرى خلال القرن السادس عشر، وتزامن هذا مع إصدار أول موسوعة دوائية حديثة في ألمانيا عام 1546، وضمت مئات الأدوية والوصفات الكيميائية العلاجية وطريقة تحضيرها الدقيقة بنسب موحدة، وترجمت في سويسرا وإيطاليا وبريطانيا، وأصبحت تلك الموسوعة دستورًا دوائيًّا إلزاميًّا في شتى أنحاء إنجلترا عام 1618 لتصبح أول مثال على دستور الأدوية الوطني.

أحرز الطبيب الكيميائي السويسري «باراسيلسوس»، خلال القرن السادس عشر، تقدمًا مهمًّا آخر، إذ دعا معاصريه إلى استخدام الكيمياء لدراسة تحضير الأدوية، والابتعاد عن محاولة صناعة الذهب.

وفي لندن، تأسست جمعية الصيدلة عام 1617، كما أمر الملك جيمس الأول بضرورة فصل الصيدليات عن محلات البقالة، وكان هذا علامة على ظهور الصيدلة كيانًا متميزًا ومنفصلًا. وفي عام 1841 تأسست الجمعية الصيدلانية لبريطانيا العظمى، وأشرفت هذه الجمعية على تعليم الصيادلة وتدريبهم لضمان الأساس العلمي للمهنة.

وفي عام 1783، نشر الطبيب وعالم النبات الإنجليزي ويليام ويذرينج كتابه عن استخدام نبات القمعية الأرجوانية (Digitalis purpurea)، وشمل الكتاب وصفًا للنبات وبعض استخداماته الطبية، ووضع بعض الملاحظات العملية لتأثير النبات في عدد من الأمراض، ووضع اقتراحات حول كيفية تقليل سمية النباتات.

العصر الذهبي لتطور علم الأدوية

خلال القرن التاسع عشر، بدأ العصر الحديث لصناعة المستحضرات الصيدلانية، وذلك مع تطور عزل المركبات الكيميائية وتنقيتها وتصميم الأدوية بمساعدة الحاسوب. وكتبت هذه المرحلة الجديدة نهاية عصر الحدس والتجربة والخطأ من أجل اختراع دواء جديد.

خلال تلك المرحلة، جرى عزل العديد من المركبات المهمة من النباتات لأول مرة. وفي حوالي عام 1804 تمكن العلماء من عزل المورفين (المكون الفعال من الأفيون). وفي عام 1820 عُزل الكينين (علاج الملاريا) من لحاء الكينا، وتوالت عمليات العزل والتنقية، مما أدى إلى القضاء على التأثيرات السامة الناتجة من الشوائب في المنتجات النباتية، والتمكن من تركيب العديد من المركبات ذات الصلة بنيويًّا وتطوير عقاقير قيمة.

شهد القرن التاسع عشر تطورًا ملحوظًا في كيفية تناول الدواء، وهو ما زاد من فاعليته. فبينما كانت الأدوية تؤخذ عبر الفم، لاحظ العلماء أنه يجب أن تصل الأدوية إلى الأنسجة المصابة كي تكون فعالة، فبعض الدوية المأخوذة بالفم لا تُمتص بأكملها داخل الجهاز الهضمي.

وفي عام 1853، اخترع الجراح الفرنسي تشارلز غابرييل برافاز الإبرة المجوفة، والتي كان لها تأثير هائل في سرعة ظهور فاعلية الدواء، وابتكرت الإبرة المجوفة بعدما أظهر ريتشارد لور وكريستوفر ورين، العاملان في جامعة أكسفورد، أنه يمكن حقن الأدوية في مجرى دم الكلاب باستخدام ريشة مجوفة، وذلك في منتصف القرن السابع عشر.

وأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شهدت صناعة الأدوية تطورًا جديدًا، عندما بدأت الجامعات في تشجيع كلياتها على محاولة فهم المعلومات الموجودة، وتطوير طرق جديدة ومحسَّنة لفصل المواد الكيميائية عن المعادن والنباتات والحيوانات، وتصنيع مركبات جديدة.

بدأت كليات الصيدلة والطب في إنشاء أقسام علمية وتوظيف أعضاء هيئة تدريس لتعليم الطلاب المعلومات الجديدة في علم الأحياء والكيمياء، ومع التقدم السريع في عمليات الفصل والتركيب الكيميائي، لم يكن لدى الصيادلة المنفردين المهارات والموارد اللازمة لصنع الأدوية الأحدث النقية كيميائيًّا، وهنا بدأت شركات المواد الكيميائية والصيدلانية الكبيرة في الظهور وعملت على توظيف علماء مدربين في الجامعات ومجهزين بمعرفة أحدث التقنيات والمعلومات في مجالاتهم.

المصدر: 
ساسة بوست