بعد تزايُد عدد المسلمين بفرنسا خلال العقدَين الأخيرَين، اشتدّت حاجة تقريب القرآن إلى أفهام أجيالهم المتعطّشة لمعرفة طبيعة هذا النصّ المركزيّ في الثقافة الإسلامية. إلا أنّ مسار التقريب هذا، سواء أكان ترجمةً أم تبسيطاً، قد يُسفر عن نتائج عكسيّة تطاول جوهرَ الخطاب المقدّس ونمط حضوره في الوعي. وهو ما يخلق مفارقةً طرفاها واجبُ التعريف بالقرآن، وخطرُ إفراغه من أبعاده المُتعالية.
وهي مفارقة نسعى لتحليلها عبر عرض كتاب الباحث الفرنسيّ موريس غلوتون(1926 - 2017) الموسوم بـ"مقاربة القرآن عبر المُعجم والتركيب"، الذي يتجاوز 870 صفحةً، وفيه استعرض نصفَ آيات القرآن تقريباً، وتَرجمها إلى الفرنسية بعد أن رتّبها حسب الجذور الثلاثيّة والرباعيّة وفق النظام الألفبائي، إذ يقوم منهجه في اختيار الآيات على ذِكْر "الجذر" ثمّ تقديم أهم معانيه التي شهدت بها المعاجم القديمة، ثم عرض مُشتقّاته الاسميّة والفِعليّة العشر، من صيغة فَعل إلى استفعل، مُبيّناً دلالاتِها وتواتُرها في النصّ القرآنيّ.
مقدّمة للحديث عن رمزية القرآن ومعانيه الإشاريّة
ففي هذا العمل، يستعيد غلوتون، بطريقة عصرية ونسقيّة، كتبَ إعراب القرآن التي كانت تورِد الوظائف النحويّة لكلّ مفرداته من أجل الوقوف على دلالاتها، لأنّ الإعراب هو الذي يفتح مُغلقَ المعاني ويكشف دونها القناع. ومن أشهر تلك الكتب "إعراب القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثّنى، وآخر بذات العنوان للأخفش، ولأبي حاتم السجستاني وغيرهم.
وإلى جانب ذلك، خصّص غلوتون مقدّمة للحديث عن رمزية القرآن وانطوائه على معانيَ إشاريّة، فضلاً عن تاريخه ومراحل جمعه وأهميته في الفكر الإسلامي، ولكنه أغفل بشكل تام للمنظور الاستشراقي الذي انتشر في فرنسا في زَمنه وقبله بسنوات، ولا سيما أعمال بلاشير وأركون ودلروش، ولا شك في أنّ هذا الصمت اختياريّ، ينمّ عن رفض هذه المقاربات التشكيكيّة التي تضرب قدسيّة القرآن وتنتقدها. كذلك حرّر العديد من المُلحقات المعجميّة حول مفردات القرآن وعددها 5000، رتّبها حسب الجذور التي بلغت هنا 1726 جذراً، فضلاً عن ترجمة 2500 آية، وهو ما يمثّل ثُلث القرآن تقريباً. ولعله نوى، في البداية، استعراضَ كلّ الجذور، لكنه أحجم بسبب كَثرتها حيث يعدُّ القرآن أكثر من 51167 كلمةً، حسب إحصاءات السّيوطي التي تحقّقت منها خديجة أبكر في كتابها "المدخل المعرفي واللغوي للقرآن الكريم". وقد ختم عَمله بمُلحق مُفيد حول أسماء الله الحُسنى الواردة في القرآن، مع بيان جذورها ومعانيها الأولى وتطوراتها الدلاليّة المشيرة لِصفات الله.
ورغم أنّنا لا نشكّك في النيات الطيبة للكاتب، فقد دافع عن الإسلام وترجم للعديد من مفكّريه، لكنّنا نرى في هذا المنهج تقطيعاً لأوصال السور القرآنية، ونفياً للارتباط العُضويّ بين آياتها وسياقاتها النصّيّة داخل السورة الواحدة، ولِما بينها من التناسب، كما بيّنه شمس الدين البقاعي في تفسيره "نظم الدُّرر في تناسب الآيات والسور". بالإضافة إلى ذلك، لا يقدّم التفسير الإعرابي، القائم على التحليل الصرفيّ والنحويّ، سوى شظايا من المعنى وقطع مجزّأة من دلالات الآيات التي يجب أن تؤخذ من تضافر معطيات السّياق وأسباب النزول وغايات الكلام والجدل مع المخاطَبين المباشَرين بالنص القرآني، كما شرحه الباحث مهدي عزيز في كتابه "الخطاب المُضاد للقرآن".
يستعيد الباحث كتب إعراب القرآن بطريقة نسقية عصرية
ويهمل هذا العمل اختيارات التراث التأويلي الضخم الذي شيّدته، طوال قرون، أجيال العلماء حول النص القرآني بياناً لغامضه وتوضيحاً لمُجمله ومتشابهه. ومعلوم ما في التخلّي التام عن هذا التراث التفسيريّ من ابتسار للمعنى الذي لا يوجد فقط ضمن الأبنية اللغويّة، بل يتجاوزها إلى نصوص الحديث ووقائع التّاريخ وتوجيهات علماء العقيدة والفقه، كما يُغفل غالباً المعاني المجازيّة والصُّور البيانيّة التي لا يكفي التحليل الصرفيّ لفهمها؛ ناهيك عن استجماع الإيحاءات الإشاريّة والتخييليّة التي تنطوي عليها. واللافت أنّ الكاتب، وهو المتخصّص في ترجمة الأدب الصوفي والتعريف بالتزكية الرّوحيّة في الإسلام، لم يولِ هذا البُعد الأهميّة التي يستحقّها، فكانت ترجمته وتحليلاته مركّزة أكثر على الأنظمة الشكلانيّة للخطاب.
ورغم الطابع المدرسيّ الذي يغلب على هذا العمل المتوجّه إلى القارئ الفرنسي المبتدئ في علوم العربيّة، فإنه لا يخلو من فوائد للباحث المتخصص، إذ يُثبت لديه معاني المفردات ويُرجعه الى فِطرة القرآن قبل أن تتراكم عليه تأويلات المفسّرين. لكن قد تحجب هذا النوع من المقاربات سعة المعاني القرآنيّة الكامنة وراء حجاب اللغة، كما قد تُغيّب الترجمة، شأنها شأن أيّ نقل، ثراءَ المراجع والمدلولات التي لا يمكن لغير الضاد أن تنهض بتأديتها. فما تستدعيه سُور القرآن أبعد مما يكشفه اللقاء المبسّط مع مفرداته وتراكيبه التي ليست سوى وسائط إلى ما هو أبعد.