تخطي إلى المحتوى
نحن والجبل جيران! الأستاذ الوالد محمد عدنان سالم بقلم د.أحمد خيري العمري نحن والجبل جيران! الأستاذ الوالد محمد عدنان سالم بقلم د.أحمد خيري العمري > نحن والجبل جيران! الأستاذ الوالد محمد عدنان سالم بقلم د.أحمد خيري العمري

نحن والجبل جيران! الأستاذ الوالد محمد عدنان سالم بقلم د.أحمد خيري العمري

نحن والجبل جيران! ( مقال كتبته عن الأستاذ الوالد محمد عدنان سالم مدير دار الفكر -دمشق، كان يفترض أن ينشر في وقت سابق،ثم تعرقل الأمر..ولم أرغب في أن يبقى المقال حبيسا في الحاسوب) لا يمكن لي أن أتحدث عن الأستاذ عدنان سالم على نحو موضوعي.

الأمر معقد جدا!

هل يمكنك أن تكون موضوعياً حقاً وأنت تتحدث عن أبيك؟

هل تستطيع أن تتنصل من أثره عليك؟ من فضله عليك؟ من مشاعرك تجاهه.

لا أعتقد شخصياً أن ذلك ممكن، أن تفصل عواطفك عن قلمك، أن تفصل شرايينك عن أوردتك، أن تتأمل والدك ومسيرته كما لو كنت تتأمل آلة حديثة طلب منك تقييمها وإبداء رأيك فيها.

بالنسبة لي، لا يمكنني أن أتحدث عن الأستاذ عدنان سالم وأضع نفسي ومشاعري جانباً.. لذا فإن حديثي عنه، لا بد أن يكون في جزء منه حديثاً عن نفسي.

أظن أن أغلب من سيكتب عنه، سيجد أنه يكتب عن نفسه بطريقة ما.

هذه واحدة من ميزات الأستاذ عدنان..

أنه صار جزءاً من كثيرين..

لا.. لم يكتف ببصمة يتركها فيهم..

بل صار جزءاً منهم..

*************

نظر إليَّ، وثبت عينه في عيني وقال: هل إلى خروج من سبيل؟!

كان هذا في أول لقاء لي معه في صيف 2005، أول مرة أزور سوريا فيها.

أعاد طرح هذا السؤال مراراً وتكراراً بعدها.. ربما صار لازمة تقليدية في كل حواراتنا، وقد كانت كثيرة ومتعددة.

ذلك أنني صرت جاراً له، ولقاسيون، فيما بعد.

وكنا نلتقي كل فجر، في صلاة الفجر في جامع الخير.. في تلك "الطلعة المضيئة " إلى قاسيون..

كل فجر، بعد الصلاة، كنا نرجع أنا والأستاذ عدنان، نتحدث غالباً عن جواب ما مقترح لذلك السؤال..

هل إلى خروج من سبيل؟

*****

كم يبدو اليوم عنوان الأستاذ عدنان موحياً..

طلعة جامع الخير..

الطلوع: الصعود إلى الأعلى، والجامع، والخير..

ثلاث كلمات يمكن أن تغطي جزءاً كبيراً من مسيرة حياة الرجل الحافلة بالعطاء.

مسيرة حياته كانت طلوعاً مستمراً نحو الأعالي.. آمن أن الكتاب هو وسيلة الارتقاء الأفضل، فعمل على الارتقاء به، ونشر الارتقاء عبره.

آمن الأستاذ أيضاً أن لا ارتقاء حقيقياً لمجتمع ما دون أن يرتقي دور الجامع فيه، فحرص عبر نتاجه أن يرتقي بالجامع وبمن فيه.. كما يليق بالجامع أن يكون، حرص الأستاذ عبر الكتب التي نشرها أن يعكس دوراً إيجابياً للدين في المجتمع وفي عملية نهوضه، بعد أن كان دور الجامع محصوراً في فقه النفاس والحيض.

وآمن الأستاذ عدنان أيضاً بكل قيم الخير الإنسانية على نحو شمولي، يتصل بكل مشتركات وثوابت الحضارة الإنسانية بمختلف ألوانها وتوجهاتها..

طلعة جامع الخير؟

هذا ليس عنوان مسكن الأستاذ فحسب..

بل عنوان مسيرته أيضا.

*************

أرجع إلى سؤاله، الذي عاجلني به، يوم التقيت به أول مرة.

هل إلى خروج من سبيل؟

اكتشفت مع مرور الوقت، أن الأستاذ لا يطرح السؤال ليصل إلى جوابي الشخصي، بل لأنه يريد أن يستفزني وسواي للبحث..

يريد أن يجعل من البحث عن جواب هذا السؤال همنا الشخصي.

يثير الأسئلة، ليكون هناك من يبحث عن الإجابات، إجابة إثر أخرى، يقترب طريق الخروج..

نقترب من "طلعة جامع الخير".

********************

أول مرة عرفت باسمه كانت من خلال كتب داره، دار الفكر.

عناوين الدار لفتت نظري إلى وجود خط متميز لها.

كان ذلك عبر عناوين لكتب مثل (إعمال العقل) للدكتور لؤي صافي و(حتى الملائكة تسأل) لجيفري لانغ، وعناوين أخرى في المقاصد جعلتني أشعر أن ما أكتبه يمكن أن ينشر في هذه الدار.

لم أكن أعرف الأستاذ عدنان، بل لم أكن أعرف أحداً في "الوسط" كله، بل لم أكن أعرف أحداً في دمشق بأسرها. كانت بغداد في حصار منذ عشر سنوات. وحتى كتب دار الفكر كانت تصل بصعوبة وغالباً عبر نسخ مصورة (فوتوكوبي).

لكن بوصلة كتابي "البوصلة" كانت قد حُددت: دار الفكر في دمشق.

*******

لست بصدد ذكر تفاصيل نشر "البوصلة القرآنية". فقد ذكرتها في موضع آخر.

لكن مع تقديمي للكتاب، بدأ اسم الأستاذ عدنان يظهر، عن طريق الأستاذ غياث هواري، وكانت الصورة المنقولة إيجابية جداً، وكنت لجهلي أعتقد أن هذا هو الوضع الطبيعي للناشرين! أي أن يكونوا إيجابيين تجاه كتاب جديد الفكرة، من كاتب جديد، يكتب في غير تخصصه!

كنت ساذجاً جداً لا أدرك أن الله قاد خطواتي لناشر نادر(مثل لؤلؤة سوداء نادرة) بين الناشرين.

*************

تأخر نشر الكتاب أكثر من عامين.

في تفاصيل التأخير خلافات بين أعضاء لجنة النشر، وهي خلافات نغصتني يومها وأراها الآن إيجابية من نواح مختلفة، فقد تحطمت نظرتي البسيطة لعالم النشر على أسوار انتظار السنتين، وكذلك كانت الخلافات داخل الدار تدل على وجود تنوع بها، صحيح أن هذا التنوع لم يحسن أن ينشر الكتاب، لكنه تمكن من أن يؤجل (رفض الكتاب)، وهو أمر مهم جداً، ولعلي كنت يومها سأشعر بالهزيمة والإحباط لو أن الكتاب رفض، بينما كنت أشعر بالتوتر فقط من الانتظار.

هناك، في هذه التفاصيل، كان ثمة حدث لا يمكن أن أنساه.

كان الأستاذ عدنان (ولا يزال) يحرص، على تكريس قيم المؤسسة داخل دار الفكر، لذا لم يكن يتدخل في قرارات لجنة النشر، سمع بما حدث من أخذ ورد حول "البوصلة القرآنية"، فقرر أن يطلع على الكتاب.

لم يضعه على مكتبه ليطلع عليه وقت فراغه.

لم يأخذه إلى المنزل لكي يتصفحه قبل أن ينام.

لقد أخذه معه إلى مكة.

كان ذاهباً إلى الحج في تلك السنة، وأخذ البوصلة القرآنية معه إلى هناك!

عرفت بذلك لاحقاً، لكن هذه المعلومة ربطتني على نحو غير عادي مع الأستاذ.

تخيلته طويلاً هناك ومعه الكتاب كمغلف ضخم في خمسمائة صفحة.

تخيلته على صعيد عرفة والكتاب معه، تخيلته في الحرم والكتاب معه. تخيلته في منى والكتاب معه (الأمر لا يمكن أن يكون هكذا بطبيعة الحال، فمن الصعب حدوث ذلك إلا في منى ربما، ولكني تخيلت البوصلة معه حتى في الطواف).

كان للأمر أثره الكبير عليَّ، أن تتخيل شيئاً كتبته يذهب قبلك إلى الحج، ويكون بيد من سيقرر أن ينشره للألوف!

عاد الأستاذ من الحج وأوعز للجنة أن تعيد النظر بالكتاب من جديد.

ثم كان ما كان.

*************

وعندما قابلت الأستاذ لاحقاً، كانت طبعة الكتاب قد نفدت وصدرت الطبعة الثانية.

وكان فرح الأستاذ بنجاح الكتاب يفوق فرحي (في الحقيقة لم أكن أعرف أن هذا يعد نجاحاً وقتها!).

كان فرحه بنجاح البوصلة يشبه فرح من فاز برهان عارضه فيه الجميع!

************

عامل الأستاذ عدنان كتبي بحب وأبوة، لا يمكن أن يغيب عن بالي مشاهد الفرح والسرور على وجهه وهو يطلب مني أن أراجع النسخ النهائية للكتب قبل أن يصدر أمر الطباعة النهائي. وجهه كان مثل وجه أب يرى طفله للمرة الأولى على شاشة (السونار أو الإيكو). فيه حبور غامض وأمل مشرئب وإيمان بأن هذا الطفل سيغير العالم.

ذات يوم مر متأخراً، قبل منتصف الليل بقليل، فقط ليسلم النسخة الأولى التي خرجت من المطبعة من "أبي اسمه إبراهيم". كذلك فعلت السيدة الفاضلة زوجته أم حسن، مع "ضوء في المجرة"، قدمت لي السلسلة في كيس ولم تقل كلمة واحدة. كانت تعرف تماماً ماذا يعني الكتاب عندما يخرج ساخناً من المطبعة بالنسبة للكاتب، ذلك أن زوجها يكاد يذبح عقيقة لكل كتاب يخرج من داره!

ويخيل لي أنه أحياناً ربما كان يؤذن في صفحات الكتاب.. كما هي السنة النبوية مع المولود الجديد.

****************

وكان يشعرني دوماً أن الكتاب مشترك، بيني وبينه، مثل أي مشروع يحتاج إلى أكثر من مختص ليخرج ويرى النور، وكنت (ولا أزال) أرى أن الكتابة عملية حميمية وشخصية، وأنها أكثر الأعمال فردية في العالم، لكنه كان يدق على أبواب فردية الكتابة فيقول (وهو يعلم أني منهمك في كتاب جديد): ما أخبار كتابنا؟!

***************

ولو أن الأستاذ عدنان أراد، لكان تفرغ للكتابة، ولقدم للمكتبة العربية كتباً لا أشك في أنها كانت ستمثل إضافة مهمة لرف النهضة في المكتبة العربية.

لكنه فضَّل أن ينشر ما تنتجه أقلام الآخرين..

فضَّل أن يقدم لنا رؤيته التطبيقية للتكامل بين أجزاء المشروع.

فضَّل أن يقدم لنا نموذجاً استثنائياً، لناشر استثنائي، ناشر مفكر، ناشر يقدر حقاً ما ينشره، وينظر له بعين الأب..

فضَّل أن يأخذ دور من ينثر البذور في الأرض!

الدور الذي لا يمكن لنبتة أن تنمو من دونه.

*******************

من بين كل ما يمكن أن يقال عن الأستاذ عدنان سالم، وهو كثير، فإن صفة "قبول الآخر" هي الصفة التي يجب أن تتصدر صفاته. وأن تتصدر قائمة الصفات النادرة أيضا بين المتحدثين عن "قبول الآخر".

كثيرون يتحدثون عن قبول الآخر، ويكتبون عنه ويدبجون المقالات (لست منهم والحمد لله).. ولكن قليلين جداً يقبلون الآخر حقاً.

الأستاذ عدنان هو من هذه الندرة التي تتحدث عن قبول الآخر، وتقبله فعلاً.

أغلب المتحدثين، يحاضرون عن قبول الآخر، ولكنهم يقصدون أنفسهم، أنهم الآخر الذي يجب على الآخرين قبوله.

الأستاذ عدنان، من القلة القليلة التي أشهد أنها تقبل الآخر حقاً، دون تمييع وذوبان فيه، ودون تشنج أيضاً.

كنت في أكثر من مرة، في الطرف المقابل المضاد لرأي الأستاذ عدنان، ولم يحدث مرة واحدة أن أبدى انزعاجاً أو رفضاً من ذلك. ليس معي فقط، بل ومع أكثر الآراء بعداً عن آرائه ومعتقداته.

قبول الآخر ثابت أساسي من ثوابت فكر الأستاذ عدنان سالم ومن صفاته الإنسانية، ومن نجاحه، ومن عطاء مسيرته.

أمر لا أستطيع أن أدعي أني أخذته منه!

*******************

ولا يمكن أن أتحدث عن الأستاذ عدنان سالم دون أن أذكر شقيقته السيدة الوالدة هدايت سالم، الحاجة "أم بشر".

لكني أفضل أن أترك ذلك لمناسبة أخرى، ففصل "أم بشر" يجب أن يكون من فصول سيرتي الذاتية الشخصية.

***************

.. ويوم قررت أن أترك دار الفكر، كان قراري مثل قرار أي شاب سيتزوج في غير بيت أهله.

سيتركهم ليكون له بيته الخاص، ولكن البيت الذي تركه سيبقى بيت أهله.

فاتحت الأستاذ عدنان بالأمر، وافق كوالد حنون يعرف أن هذه سنن الحياة.

بكيت أنا عند المغادرة، رغم أنها كانت بطلب مني.

وبقيت دار الفكر بيت أهلي.

وبقي الأستاذ عدنان والدي.

***********

يتحدثون عن "عبقرية المكان" في مصر.

وسبق لي أنا أن تحدثت عن "قوة المكان" في العراق.

أما في الشام، فلا بد أن نتحدث عن "روحانية المكان"..

في كل الشام ثمة شيء روحاني من الصعب إغفاله.

لكنه في دمشق أكثر تميزاً..

وهو في المهاجرين أكثر ألقاً.

شيء ما في المهاجرين، مختلف، يجعلك تتخيل أن الماء في طينها كان من زمزم، أو أنه من إكسير روحاني غامض سكن هذه المدينة حتى قبل بنائها..

أكثر ما تتجلى فيه هذه الروحانية يكون في فجرها، وأظن أن هذا المعيار عالمي!..

في كل مكان، الروحانية أعلى فجراً.. تتدفق في تلك الفترة الفاصلة بين الظلمة والنور..

صلاة الفجر في دمشق، مثل جرعة روحانية مكثفة.

وهي في المهاجرين، جرعة مكثفة أكثر، خففت من افتقادي لصلاة الفجر في بغداد.

وكل من زار دمشق، أو المهاجرين، يعرف أي روحانية تغمر المكان فجراً..

أما أنا فقد عرفت وذقت بعداً مختلفاً لتلك الروحانية الشامية.. عرفت بعداً من أقوى وأهم أبعادها، رغم أن كثيرين يتجاهلون هذا البعد.. بل يجهلون أصلاً وجوده.

عرفت البعد الفكري، البعد النهضوي، من الروحانية..

دوماً نتخيل الروحانية في وضع أشبه بالدروشة الهائمة على وجهها، المغمضة عينها وهي تسبح في الملكوت..

لكن الروحانية الحقة، التي تعرفت على البعد المختلف منها، هي تلك التي تسبح في الملكوت وعيناها مفتوحتان على اتساعيهما، إنها الروحانية الواعية، التي تمد بالقوة والطاقة على العمل، التي ترى في قيامها وصلاتها مصدراً للطاقة يعينها على أداء ما خلقت لأجله سائر اليوم.

كيف عرفت هذا البعد المختلف من الروحانية؟

عرفته أثناء عودتي المتكررة مع الأستاذ عدنان سالم من المسجد إلى البيت.. خطوات ما بعد الصلاة وحديث الأستاذ عدنان خلالها عن النهضة والأمة، والفجر لما يطلع بعد، كانت نموذجاً لهذه الروحانية المختلفة، الروحانية الواعية، الروحانية التي تليق بدمشق وبالشام كلها حقاً.. أن تصلي الفجر فتجعلك صلاتك أقرب لهمِّ الأمة وهمِّ نهضتها.. أن تجعلك صلاتك تبحث عن إجابات لسؤال كهذا (هل إلى خروج من سبيل؟).. أن تنشر الوعي وتبث الأمل بأن ثمة أملاً لو أننا فقط نفضنا عن ريشنا الكسل..

هذه هي الروحانية الشامية حقاً.. هذه هي الروحانية بطبعة عدنان سالم.

***********

استدراك:

قرأت ما كتبت وشعرت أن أبجديتي قصرت عن الإحاطة بكثير مما في الأستاذ عدنان، لم أكتب شيئاً عن ذوقه ورقيه وكرمه وهدوئه وحسن تعامله وخفة ظله وسرعة بديهته وثباته ومواقفه..

لكن، أليس هذا هو الوضع الطبيعي؟

أن تكون الأبجدية قاصرة، عن وصف الجبال؟

٢١ أكتوبر ٢٠١٥  · 

 
المصدر: 
دار الفكر