تخطي إلى المحتوى
هل استقبل فلسطينيّو المخيمات عامًا جديدًا؟ هل استقبل فلسطينيّو المخيمات عامًا جديدًا؟ > هل استقبل فلسطينيّو المخيمات عامًا جديدًا؟

هل استقبل فلسطينيّو المخيمات عامًا جديدًا؟

استقبلوه بالمعنى الزمني، دخلوا مع غيرهم إلى عام جديد، ولم يستقبلوه بمعنى الأماني الممكنة، فما زال استقلالهم الوطني مؤجلًا، وبقوا، في الحالين، من أبناء النكبة، أو النكبة النكباء، بلغة المؤرخ الراحل الجليل قسطنطين زريق.
كلما رحل عام تلاه آخر محمّلًا بصفة: الجديد. يمنّي العامل الفقير نفسه بعمل يكفيه، ويستعجل المريض شفاء، وينتظر العاشق وصالًا، ويتطلع المواطن المقهور إلى حرية أوسع... الرغبات جميعها مشدودة إلى احتمال، لا تقطع مع ما مضى، ولا تضمن أن ما مضى لن يعود.
يشارك فلسطينيّ المخيمات غيره من البشر أمنياتهم، فهو كامل الإنسانية رغم مأساة اللجوء ووحول المخيمات، ويحتفظ بتطلعات صادرة عمّا يعيش. يتطلع شباب المخيمات، تحت الاحتلال الصهيوني، إلى استمرارية الصمود وشهداء من رفاقهم أقل، ويشاركون أمهاتهم الرغبة في مداهمات أقل، وينتظرون معهنّ احتياجات أقل دمويّة، وتفجيرًا لبيوت المقاتلين أقل أيضًا. ويعقد الشباب العزم على تنفيذ عمليات عسكرية أكثر، وإبقاء جذوة القتال بعيدة عن الانطفاء.
لا جديد لدى فلسطينيي المخيمات مشدود إلى الاحتمال، فما سيعيشونه عاشوه، وما سيتعرّفون عليه عرفوه، ما سيذوقونه من وجع ذاقوه غير مرة. تأخذ التجربة المكرّسة موقع الاحتمال، وتساوق التجربة بداهة العادات القاسية، إذ كل شهيد يتلوه شهيد، وكل جريح يتبع جريحًا قبل أن يبرأ، وأم ثكلى تُثكل من جديد. فضاء لا رحمة فيه ولا منطق، منسوج من الجراح واغتيال الأطفال وتشْييع الشهداء وأكاليل ورد توسّدت القبور. لكأن المنطق يسير في اتجاهات متعددة، فإن اقترب من فلسطينيّ "الضفة والقطاع" كبا، أو أصابته رصاصة غير مرئية.

حين سألت الروائي القاتم الرؤية وليد الشرفا عن أحواله ونابلس، أجاب بعينيه وصمت، واغتصب كلمات قليلة: خسرت ثلاثة من أصدقاء العمر في ثلاثة شهور. سقط عليهم موت إسرائيلي يسقط على كثيرين عايشت جزءًا منه. الموت جزء من وجودنا، نحاوره ولا يجيب، ونطرده ويزورنا حين يريد، ويبعث في وجودنا ظلامًا نقاتله بقوة الحياة. افترشت روايته "أرجوحة من عظام" أجسادًا قتيلة لا تنتهي. "أخفّف وطأة الاختناق بكتابة أتقاسم قتامها مع القرّاء"، يقول. قابلته هذا الأسبوع في عمّان. أهداني "زعترًا أخضر من أرض البلاد"، وعلم فلسطين قطعة من قماش يطغى سوادها على نقاطها الحمراء، تستدفئ بقلوب "الصامدين" ويستدفئون بها، ولا يطالها النسيان.

لكأن العلم الفلسطيني إشارة أقرب إلى السؤال، لا يسقط ولا يعثر على سارية مستقيمة. ولكأن إشارة الفلسطينيين، المحاصرين بنكبة لا تنقضي، حكاية متداخلة الحكايات. تتداخل فيها أصوات اليتامى والمساجين والسجينات والأرامل المقاتلات، وأغاني لاجئين توزّعوا على منافٍ متكاثرة، واحتفظوا بلهجتهم الفلسطينية: "آ يا خوي، نعم يا ختي، بالعودة إلى البلاد...". والبلاد مسروقة أو مصادرة استقر في ترابها البعيد فلسطيني عريض الكرامة طويل الكبرياء يدعى: "عبد القادر الحسيني" نفتقده اليوم، ولا نفتقد أحفاده في "مخيم جنين"، ولا في حارات مخيمات أخرى...
مصائر الفلسطينيين من مصائر حكاياتهم، عالية الصوت مؤجّلة النهايات، قضية عدالة كونية، يقال، يتعاطف معها إنكليزي عادي يرفع صوته في راديو لندن بعربية متعثّرة "فلسطين هرّة"، وينتصر لها لاعب كرة مغربي جميل الروح ذهبي القدم، ويهبها شباب فلسطينيون أرواحهم في جميع الفصول. تظل "موجلة الحل"، وغائبة عن معايير غطرسة القوة وعن "الأرواح المتكسّرة التي افتقدت الذاكرة واللغة والكرامة...". ولعل هذه المصائر، التي تغلب فيها القوة الحق هي التي تجعل الفلسطينيين يعيشون التجدّد ولا يتحدثون عن التجديد.
التجديد فعل إداري مطمئن يضبطه جدول زمني، والتجدّد الفلسطيني نبض عفوي تأمر به الحياة، يتحكّم بالفلسطينيين ولا يتحكّمون به، فمعاركهم تُفرض عليهم ولا يختارونها. كلما هدمت جرافة إسرائيلية بيتًا سارع الفلسطينيون وتصرّفوا بأنقاضه، وكلما حُرّر سجين سارع وتفقّد أحوال أخيه السجين، وحين يودّع المخيّم شهيدًا يتأهّب لتشييع شهيد قادم.
ما زلت أذكر عجوزًا فلسطينيًا من "عرب الهيب" افتخرت براءتُه بولدين شهيدين، وتفاجأ بتكريم لم ينتظره "وَهَب للقضية شهيدين آخرين"، وحصل على لقب "أبو الشهداء". استمر التكريم وواكبته المفاجأة وودّع من أولاده وأحفاده تسعة واكتفى بصور "زيّنت جدران البيت" غمسّت روحه برماد مستديم. لا يتجدّد "ابن المخيم"، فجديده قديمه، فتجدّد روحه دون أن تسأله، مثلما تبكي هذه الروح حين تشاء البكاء.
أحوال المخيمات الصامدة، التي لم أزرها، وشهدتُ أحوال بعضها صدفة، أتابعها على شريط إخباري تبثّه "قناة عربية"، تذكر الاحتلال الصهيوني وجرائمه بمتواليات من أفعال موجعة: اجتاح، قُتل، استشهد، سُجن، جرح، اغتيل، قصف، رجم، "شيّع المخيم شهداءه، وسارت وراءهم جموع غفيرة". أشعر وأنا الفلسطيني أنني ظل لفلسطينيّ المخيم، يخوض معركة وجوده ومعركة فلسطين وينتمي ـ يا للغرابة ـ إليه هؤلاء "الآخرون" الذين أدمنت ألسنتهم "لغة دبلوماسية" لا ينقصها الاعتلال.
توازي المسافة بين "التجدّد" والتجديد مسافة أخرى بين الذاكرة والتذكّر، إذ الأولى تشير إلى ذكريات "عادية" استقرت في زمن مضى، وإذ الثاني، وهو يلازم فلسطينيّ المخيم، حاضره المستمر، فلا حياة المخيم تأتي بجديد، ولا شهداؤه ينضبون. يتلاحقون، بلا عطالة، تتصادى ذكريات الأول في صور الأخير. يقف شهيد مخيم "تل الزعتر" في البداية، يخبر عن ذكريات ذات صيف دامي الوجه متعدد القتلة يستدعي، دون إبطاء، شهداء صبرا وشاتيلا ذات خريف قضم من "اللغة القومية العربية" أبعاضًا كثيرة، يلتحق به شهداء "حرب المخيمات" ذات ربيع يسخر من معنى الربيع ويسقط في ضحك أسود لا قومية له ولا بيان.

وإذا كان لشهداء المخيمات، خارج فلسطين، فصولهم الثلاثة، فإن لشهداء المناطق المحتلة الفصول جميعها، كما لو استعاضوا عن "الملصقات المتفرّقة" بملصق واحد واسع الامتداد. لا يمر يوم إلا وتسيل دماء شهيد من نابلس وجنين وغزة، ولا ينقضي نهار بلا شهداء ولا مشيّعين....

يرجع السؤال المطروح في بداية هذه الكلمات واضحًا: هل استقبل فلسطيّنيو المخيمات تحت الاحتلال عامًا جديدًا؟ يجيب عن السؤال تذكّر فلسطينيّ مسكون بالمفارقة. فما يحيل لدى البشر جميعًا على ماضٍ، يشذّ عن القاعدة لدى فلسطينييّ المخيمات، ويختلط فيه الحاضر والماضي معًا. فهؤلاء لهم أقدارهم، بلغة إنشائية بسيطة، ولهم حصارهم وأحزانهم ومعاناتهم وبطولاتهم وشقاء معيشهم ومقابرهم الواسعة، بلغة مشتقة من واقع لا يشبه غيره. ولهم من جديد سؤالهم المأساوي الطويل: لماذا يستقبل البشر، في كل مكان عامًا متحرّرًا من الدماء والدموع، ويدخل ابن المخيم المقاتل إلى عام يشبه ما سبقه في طقوسه الفاجعة ويشبه ما سبقه بالتمسّك بالحياة والكرامة والإرادة الحقة في استرجاع الحق المنهوب؟
تعود إلى الذاكرة جملة تولستوي الشهيرة: "للبشر السعداء رواية واحدة"، يستقبلون ويودّعون بلا ارتباك، و"لغيرهم روايات متنوعة". لكل من فاته عدل الوجود، وهو ليس بعادل، روايته تسرد ظلمه وقتاله ضد الظلم وتسرد كفاحًا عادلًا توسلًا لتعريف إنساني جديد لمعنى الظلم والعدل معًا.

دفع الفارق بين مآل الفلسطينيين ـ الجمع هنا يحتاج إلى فواصل ـ وغيرهم غسان كنفاني إلى بحث مفتوح عن شكل رواية فلسطينية "مئة بالمئة"، تحاكم الخروج والمنفى، والعيش الكريم والعيش المهين، استأنفها إميل حبيبي في "متشائل" يضحك ويبكي معًا، توسّع فيها حسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز"، إذ للأرض التي أُخليت من أهلها لسان يشكو، وروح عليلة، وتلال وروابٍ لها حكايات. انتهت رواية المحاصرين الفلسطينيين إلى رواية خنقها الظلم ـ أكثر من اللازم ـ تصف عظامًا وأرجوحة ويدًا قاسية لها اتساع الجبل، وفم المحيط، تهزّ الأرجوحة وتنصت إلى تراجيع العظام المتكسّرة. كتب وليد الشرفا رواية متعددة المستويات عنوانها: "ليتني كنت أعمى". وما تمناه الروائي لا يصل، ولا يمكن أن يصل، ولا يجب أن يصل، وهو لا يرضى بوصوله، ذلك أن على الفلسطيني الصادق أن يحدّق في مأساته طويلًا، ليعرف كيف بدأت، وليختار لها طريقًا يفكّر بعقله ويديه ولسانه وذاكرته وعيونه الأربع...

المصدر: 
ضفة ثالثة