حين أنظر حولي وأرى الإقبال الكبير على كتابة الرواية اندهش جدا. ومهما عرفت من أسباب، لا تكفيني. فالروايات والأدب عموما، بما فيها الشعر طبعا، ليست طريقا آمنا. كم من كتّاب على طول التاريخ تعرضوا للقتل أو السجن أو النفي أو العزل والأمثلة كثيرة. هذا الطريق غير الآمن أصبح جاذبا لآلاف يريدون تعلم المهنة التي هي تفاحة الشيطان.
حين ظهر اتحاد الكتاب المصري في سبعينيات القرن الماضي، كان من قوانين ظهوره أنه نقابة مهنية، لم أعرف من معنى نقابة مهنية أكثر من كونها مثل نقابة السينمائيين أو نقابة المحامين أو نقابة الصحافيين، أو غيرها من النقابات المهنية. لم اتقدم إلى عضويته إلا متأخرا. كانت هناك دائما معركة حول مجلس إدارة الاتحاد وكيف يتم انتخابه، بل كان هناك دائما خلاف حول أهلية من يتقدمون إليه، وكيف يتم قبولهم. لكن في النهاية كان الاتحاد قائما ولا يزال.
في منتصف التسعينيات تقريبا استطاع المرحوم ثروت أباظة، وكان هو الرئيس المنتخب للاتحاد، الحصول على فتوى من مجلس الدولة، بأن الاتحاد ليس نقابة مهنية، وقتها هاجت الدنيا وانتبهنا إلى أن قانون النقابات المهنية يحدد دورتين فقط لرئيس النقابة، بعدهما لا يترشح في الانتخابات إلا بعد أن تمر على الأقل دورة. أصاب ثروت أباظة نقدا كبيرا، باعتبار أن هذا هو السبب الخفي لاستصدار تلك الفتوى. قامت مجموعة من الكتاب بقيادة سعد الدين وهبة في السنوات الأخيرة للتسعينيات، بغزو الاتحاد في الانتخابات، ولم ينجح ثروت أباظة. كنت أنا من بين هذه المجموعة ونجحنا، وشكلنا على الأقل نصف مقاعد مجلس الإدارة، ولن استطرد في ما حدث بعد ذلك، فهذا ليس موضوعي. موضوعي أني أتذكر فتوى أن اتحاد الكتاب ليس نقابة مهنية وأجده صحيحا حقا. ومهما كانت دوافع ثروت أباظة، فقد أصابت الفتوى كبد الحقيقة. الذي يجعلني أقول ذلك هو تجربتي طبعا مع الكتابة، لكن حتى بعيدا عني، فكل من عرفتهم من مشاهير القصة والشعر، لم يتعلموا ذلك في ورش أو مصانع.
كانوا قراء أدب وغيره من الفنون والأفكار مثل، التاريخ والفلسفة، وأخذتهم الموهبة إلى ما يشتهون. كانوا وما زالوا يمتهنون مهنا أخرى تساعدهم على الحياة، والكثير منهم ترك كل المهن والتحق بالفراغ الجميل، أو ضاع فيه أو انتحر. أقصي ما فعله بعضهم وليس كلهم في شبابهم، هو الانضمام إلى نوادي الأدب في قصور الثقافة يقرأون ويناقشون إنتاجاتهم، وكتبا قرأوها في الأدب، والموهوبون منهم يبتعدون بسرعة عن أي عمل منظم، فالعالم أوسع من نوادي الأدب.
حين أنظر حولي الآن أتذكر ثروت أباظة وأقول كم كان محقا في استصدار تلك الفتوى، رغم إدراكنا لما وراءها وقتها. عشر سنوات الآن وربما أكثر، وأنا أقرأ عن قيام ورش لتعليم فن القصة، أو فن الرواية في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي. ووصل الأمر إلى أن هذه الورش صارت نظير اشتراك مالي. امتد الأمر إلى ورش لكتابة السيناريو أيضا، لأن السيناريو رغم الإبداع الفردي، يدخل تحت بند المهنة، فتنفيذه يعني مخرجا ومصورا وممثلين وغير ذلك من مفردات صناعة الفيلم، أو المسلسل، وبعد تنفيذه يلتحق صاحبه بنقابة المهن السينمائية. الأمر نفسه في المسرح. فالمسرحية مثل السيناريو تكتب من أجل التنفيذ على المسرح. السيناريو هو أكثرها بعدا عن القراءة والأقرب إلى المهنية. السيناريو دون تنفيذ يظل وحيدا حزينا في غرفة مكتب صاحبه. المسرحية تُطبع لكن يظل ظهورها على المسرح وتجسيدها هو أمل مؤلفيها وهدفهم. لذلك ففي الأمر شيء من المهنية، لأن غير الكاتب هم من يقومون بتنفيذها. الرواية والقصة القصيرة تكتب للنشر.
يمكن أن تتحول الرواية أو القصة إلى فيلم أو مسلسل، لكن هذا لا يعني أبدا أنها كتبت من أجل ذلك. الأمر نفسه في الشعر الذي يظل دائما في كتاب أو وحيدا في الفضاء. وكما قلت فمن خلال رحلتي مع غيري من الكتّاب لم أرَ واحدا منهم يتحدث عن ورشة لتعليمه كتابة الشعر أو القصة. كلهم قرأوا في الشعر أو القصة والرواية وتاريخ المذاهب الأدبية وأشكال الكتابة، والمعارك بين المذاهب الأدبية، والاكتشافات التي يضيفها العصر أو الفلسفة للشكل الأدبي وغير ذلك، واختاروا مكانهم بين الشعراء والقصاصين، ومهما كان ما اختاروه ففي النهاية، مواهبهم هي التي تحدد مواقعهم. أسأل نفسي حين أنظر حولي هل تكفي بضعة دروس في ورشة أدبية لصناعة شاعر أو قصاص؟ أليس عليه أن يعرف تاريخ الكتابة، وهذا موجود بين يديه في عشرات من الكتب، لقد اشتركت مرة أو مرتين لا أكثر محاضرا في إحدى الورش، وقدمت درسا عن الكتابة محوره هو المذاهب الأدبية عبر التاريخ، وكيف على الحاضرين القراءة فيها وعدم الاكتفاء بما أقول، فالاعتماد على محاضرة أو أكثر في ورشة لا يكفي، لأن هناك عشرات الكتب في الموضوع، لكن الأمر لم يقف عند الورش الأدبية التي هي في أقصى تجلياتها لن تزيد عن فتح باب وراءه عواصف من تاريخ الكتابة. الأمر وصل إلى إعلانات من نوع كيف تكتب الرواية في سبعة أيام. ولا أحد يفكر في أن الكتابة لا يحددها زمن، لكن يحددها ما تكتب.
أصبحت أرى هذه الإعلانات أمامي على صفحات السوشيال ميديا ولا أهتم، لكن اعدادا كبيرة ترسل لي على الخاص أسئلة من نوع أنا عايز أكتب رواية أكتبها ازاي؟ أو عندي أفكار لقصص قصيرة لكن هل فيه قوانين لكتابة القصة؟ وأحيانا تكون الأسئلة على الصفحة العامة، ولا يكون السؤال موجها لي. كثيرا ما اتجاهل الحديث، وأحيانا أطلب من السائل أن يدخل إلى غوغل ويكتب عنوانا مثل «كتب عن فن القصة القصيرة أو الرواية» وسيعرف. أعرف أن كل القواعد التي وجدت للكتابة تتغير مع التاريخ ومع المكان والزمان، ومع ثقافة الكاتب نفسه ورؤاه الفكرية، لكن هل صار الأمر سهلا إلى هذا الحد؟ هل صار الأمر سهلا فيجد الشخص ورشة يسمع فيها بعض الدروس فيكتب؟ هل صار الأمر سهلا وأهم دروس الكتابة هي أن تعرف تاريخ ما قبلك لتكتب لنفسك تاريخا مختلفا؟ لن اسأل السؤال الشائع في العالم، وهو كيف صارت الرواية تتسيد فنون الكتابة، ولا تهمني مئات الروايات التي تصدر لا قيمة لها، لكن لماذا يتسرع من يريد الكتابة فيسأل سؤالا متصورا أن الإجابة تكفيه، ولماذا يدفع نقودا لحضور ورشة يستطيع أن يقرأ بدلا منها عشرات الكتب عن الرواية وتاريخها والشعر وتاريخه والقصة وتاريخها ويستمتع بما يقرأ.
هل صار الاستسهال طريقا لأصعب طريق؟ حتى ورش السيناريو رغم أنه مهنة بحكم طريقة ظهوره، أحيانا أجد نفسي أريد أن أقول لمن يجرون إلى الورش، لماذا لا تقرأ كتبا في ذلك وهي موجودة، خصوصا في هذا الزمن العجيب الذي أصبح الممثلون فيه لهم بصمة أكبر من بصمة كاتب السيناريو في اختيار الحوار والمواقف، خاصة إذا كان كاتب السيناريو شابا يبحث عن فرصة فيرضى، لكني لا أعلق على ورش السيناريو، لأني أعرف أنه في النهاية مهنة.
أتذكر الآن المرحوم ثروت أباظة، وأقول إنه كان على حق، لكن اتسعت جدا مساحة من لا يزالون يتصورون أن الأدب مهنة، ومهنة سهلة جدا تكفيها ورشة لعدة أيام، أو سؤال على السوشيال ميديا وإجابة، بينما الطريق قد ينتهي بصاحبه إلى السجون، ومن ثم يحتاج إلى تكلفة أكثر! تكلفة لا تزيد عن قراءة يا قوم. وبالمناسبة أنا هنا لا أخيف أحدا، لكن لا يوجد طريق سهل لأصعب الجبال.