أثار الزلزال الذي ضرب -مؤخرا- أجزاء من تركيا وسوريا ألوانا مختلفة من التفاعل؛ منها التعاطف الذي تفرضه "رقة الإنسانية" التي بها يصير الإنسان إنسانا، والتضامن الحامل على البحث عن سبيل للمساعدة، والدعاء للمنكوبين وهو أضعف الإيمان.
لكن لونا خاصا من التفاعل يستحق أن نتوقف عنده هنا، وهو ما طرحه بعض الوعاظ والمشتغلين بالحديث ممن استحضروا بعض الأخبار التي تركز على الأسباب الدينية لوقوع الزلازل، وأنها إنما وقعت بسبب شيوع المنكرات، كالزنا وشرب الخمر وغير ذلك، الأمر الذي أثار استياء عاما لدى فئة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وسأعالج هذه القضية من خلال 3 مسائل:
- أوجه تناول العلماء السابقين لموضوع الزلازل.
- هل الزلزال عقوبة على ذنوب سابقة؟
- هل يصح إيراد أحاديث العقوبة والعذاب على سبيل الوعظ؟
-
أولا: أوجه تناول العلماء السابقين للزلازل
لنبدأ بالمسألة الأولى، لا بد من التنبيه إلى أن مثل هذا الفهم الخاص ليس بِدعا؛ فقد سبق لبعض العلماء كابن قيم الجوزية (751هـ) الذي قال: "ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل"، وجلال الدين السيوطي (911هـ) الذي خلص إلى أن سبب الزلازل "أنها تخويف من الله عز وجل لعباده عند فعل المنكرات، وأنها من أشراط الساعة؛ لعلهم ينزجرون ويتوبون".
كان السيوطي قد رد تفسير الفلاسفة (أو الحكماء) ممن فسروا حدوث الزلازل بأسباب مادية (تطورت أدوات معرفتها في العصر الحديث)، وأثبت -في المقابل- تفسيرا دينيا، بالاستناد إلى جملة من الأخبار والروايات الضعيفة والواهية، وقد تبعه في ذلك محمد إسماعيل العجلوني (1162هـ). كما أن الشيخ عبد العزيز بن باز كان قد خلص إلى أن "كل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يُضر العباد ويُسبب لهم أنواعا من الأذى، كله بأسباب الشرك والمعاصي"، وتبعه على ذلك القائمون على موقع "الإسلام سؤال وجواب".
بما أن وقوع الزلازل ظاهرة متكررة تاريخيا، فإن العلماء المسلمين انشغلوا بها مناقشة وتصنيفا، كما فعل كثرة منهم ومن مختلف التخصصات، كفيلسوف العرب الكندي (254هـ)، والمحدث والمؤرخ ابن عساكر (571هـ) وعلي بن أبي بكر بن حِمْير اليمني (557هـ)، وإسماعيل بن حامد القوصي (653هـ)، بل إن ابن الوردي (749هـ) قد وضع رسالة في الزلزال الذي خرب حلب ومنبج (744هـ) ومن أواخر ما صُنف في الزلازل رسائل وضعها السيوطي وابن الجزار (ت. بعد الزلزال الذي وقع في مصر سنة 984هـ) ومحمد بن إسماعيل العجلوني. والرسائل الثلاث الأخيرة مطبوعة.
يمكن أن نرصد في المناقشات حول الزلازل 3 مقاربات رئيسة هي:
المقاربة العلمية بحثا عن تفسير لحدوث الظاهرة - المقاربة الفقهية التي تتصل بالمسائل التعبدية
– كالصلاة لأجل الزلزلة، وهل يُصلى لها أو لا؟ وفي ذلك خلاف بين الفقهاء
– كيفية الصلاة وهل تشبه صلاة الكسوف فيكون فيها أكثر من ركوع وسجود؟ وهل تُصلى في جماعة أو لا؟
– هل يخرج الشخص في الزلزلة إلى الصحراء؟ وقد وقع الخلاف في ذلك أيضا؛ فبعضهم استحب الفرار من الزلزلة وبعضهم حملها -فيما يبدو- على الطاعون الذي ورد فيه النهي عن الخروج في أثنائه (وقد تم تجاوز هذا الفهم علميا وتاريخيا وفقهيا). - أما المقاربة الثالثة فهي خُلقية تتصل بمسائل الوعظ والاشتغال بالتوبة وهجر المنكرات وتسلية المصابين وإغاثة الملهوف أو المنكوب (ويدخل في ذلك اليوم تقديم النصائح العلمية اللازمة لكيفية التصرف حال حدوث زلزال).
-
والواقع أن المقاربات الثلاث تتداخل هنا، بحيث يعسر الفصل بينها في التعامل مع الظواهر المركبة التي يتداخل فيها الكوني والإنساني، والتعبدي والأخلاقي، والعلمي والديني. فحتى التفسير العلمي للظاهرة -وهو أمر لا غنى عنه مع تطور المعرفة- لا يُلغي المحددات الدينية والأخلاقية المعيارية التي تحكم سلوك الإنسان في أثناء وقوع الزلزال، وإن كان التفسير العلمي من شأنه أن يساعد على نقد التفسيرات الدينية التي قامت على أساس أخبار واهية تفسر أن شيوع المنكرات هو سبب الزلازل كما نجد لدى السيوطي وغيره ممن صنفوا في ذلك، وكما حصل من قبل في مسألة الطاعون التي صُوِّرت على أنها عذاب لا يمكن تلافيه، وقد ناقشتها في مقالات سابقة في سياق وباء كورونا.
ومن باب هذا التداخل المشار إليه، تورط بعضهم في تفسير الزلزال الذي وقع مؤخرا بأنه عقوبة، ومن ثم قاد هذا التفسير إلى إدانة للمنكوبين وأن الزلزال بما كسبت أيديهم!
ثانيا: هل الزلزال عقوبة على ذنوب سابقة؟
أما بخصوص المسألة الثانية -وهي هل الزلزال عقوبة على ذنب سابق- فلا بد أن نميز بين 3 أمور منهجية هنا:
الأمر الأول: أن ثمة فرقا بين مسلك البحث في الروايات (صحة وضعفا) أو حتى روايتها لأغراض بحثية، وبين مسلك الفهم والتأويل الذي يتطلب منهجية منظمة ومتماسكة تجمع الآيات والأحاديث ذات الصلة بوصفها خطابا أو جملة واحدة. فإن سلكنا مسلك الثبوت، سنجد أن عامة الأحاديث التي تتصل بإثبات أن الزلازل عقوبة على شيوع الفواحش ضعيفة، ولكن بعض المحدثين، وخصوصا من المتأخرين، يتساهلون في الاعتماد على مثل هذه الروايات وإن ضَعُف إسنادها؛ ما دامت خارج دائرة الأحكام!
ومن أكثر الأخبار تداولا في هذا السياق، ما نُسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: "والله ما كثرت ذنوب أمة إلا عاقبها الله بالزلازل وبالريح وبالأمطار التي تُغرقهم. قال عمر: والله ما علمت رسول الله إلا أنه قال: إذا كثر فيكم الزنا وشربت الخمور واستحللتم الغناء عاقبكم الله وزُلزلت أرضكم".
لم أقف لهذا الخبر على أصل، وصياغته فيها تهويل ومبالغة على طريقة القُصّاص. ومن ذلك أيضا حديث أن رجلا قال لعائشة رضي الله عنها: "يا أم المؤمنين حدثينا حديثا عن الزلزلة. فأعرضت عنه بوجهها. قال أنس بن مالك: فقلت لها: حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة (…)، فقالت: (…) فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف، غار الله في سمائه فقال للأرض: تزلزلي بهم. فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم. فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت: "رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالا وسخطة وعذابا للكافرين". قال أنس: "فما سمعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أنا أشد به فرحا مني بهذا الحديث، بل أعيش فرِحا وأُبعث حين أُبعث وذلك الفرح في قلبي، أو قال: في نفسي". وهذا الخبر رواه ابن أبي الدنيا والحاكم النيسابوري وصحح إسناده، ولكن الحافظ الذهبي قال: "أحسبه موضوعا"، ومتنه ظاهر الركاكة.أما الحديث الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد أن تزلزلت الأرض على عهده: "إن ربكم ليستعتبكم فأعتبوه"، فهو ضعيف، وقد جاء أيضا على لسان آخرين، منهم عمر بن عبد العزيز من قوله.
الأمر الثاني: أن النصوص في هذا الموضوع متعارضة، ولكن بعض الوعاظ يلجؤون هنا إلى الانتقاء واجتزاء أحاديث العقاب دون غيرها، ولتوضيح ذلك أذكر 3 نقاط:
النقطة الأولى: أخبار ضعيفة وأحاديث صِحاح
أنه بالإضافة إلى الأخبار الضعيفة الواردة في أن الزلازل عقوبة على المعاصي، ثمة أحاديث صِحاح تدل على أن الابتلاء خير وعلامة محبة ورفعة للدرجات، كحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يُرِد الله به خيرا يُصِب منه" رواه البخاري ومالك وغيرهما. وقد بوب البخاري قائلا: "باب: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وحديث: "إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، رواه أحمد والطبراني، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي: "إسناد أحمد حسن"، كما أن له أحاديث شواهد تؤيده. وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله قوما ابتلاهم. فمن صبر فله الصبر، ومن جَزَع فله الجَزَع" رواه أحمد وغيره.
النقطة الثانية: تنوع أحادث الزلازل
- فمنها أحاديث تدل على أن الزلازل عذاب دنيوي ورحمة للمؤمنين، كحديث أن "أمتي أمة مرحومة، لا عذاب عليها في الآخرة، عذابها في الدنيا الزلازل والبلاء (…)"، أو "الزلازل والفتن في الدنيا"، أو "الزلازل والقتل". وقد أُسند ذلك عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة رضي الله عنهم. ومتن الحديث رواه أبو داود وأحمد والحاكم النيسابوري والرُوْياني ونُعيم بن حماد والبزار والطبراني وغيرهم، وبعض طرقه ضعيفة، ولكن صحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بعد أن كان ضعفه في بعض كتبه.
- منها أن الزلازل من علامات الساعة، كما في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل القتل- حتى يكثر فيكم المال فيفيض".
- منها الجمع بين الزلازل والفتن في عبارة واحدة، وأنها في موضع طلوع قرن الشيطان، كحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا". قال: قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا". قال: قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". رواه البخاري، وقد وقع الخلاف في تفسير "قرن الشيطان"، فثمة من حمله على ظاهره، وثمة من حمله على معنى قوة الشيطان وجنده وغير ذلك، وفي الحديث دلالة سياسية أيضا ليس هنا محل مناقشتها.
- أن ابن عبد البر روى عن الحسن أن من أخلاق المؤمن أنه "في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور قانع بالذي له، ينطق ليفهم، ويسكت ليَسلم، ويُقر بالحق قبل أن يشهد عليه".
-
وهذا التنوع في الروايات الخاصة بالزلازل يجعل من الخطأ الجزم بتفسير واحد لها من منظور ديني، وبالاعتماد على الأحاديث كما يفعل بعض الوعاظ.
النقطة الثالثة: الموت بسبب الزلازل ضرب من الموت بالهدمجاء في الحديث الصحيح أن "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله" رواه البخاري وغيره.
فجميع هذه النقاط الثلاث، تُخِل بفكرة التلازم بين الزلازل وفعل الفواحش، وأن ذلك يخالف نصوص الحديث؛ إذا ما جُمعت على صعيد واحد.
أما الأمر الثالث: فهو أننا إن سلكنا مسلك الفهم والتأويل، فثمة احتمالات وتفصيل يتصل بنقاط عدة هي: هل كل المصائب عقوبة على ذنب سابق؟ وهل الزلازل لا تحتمل إلا معنى واحدا؟ وهل ثمة خصوصية لكل واقعة في سياق الحديث الخاص بها؟ وما دور الاحتكام إلى القواعد العامة الثابتة؟
أما بخصوص قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى: 30)، فقد وقع الاختلاف في تأويلها. فالإمام المفسر والمؤرخ الطبري (310هـ) أورد لها تأويلين للسلف: أولهما أنه "إنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم؛ بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم"، ومن المهم الالتفات هنا إلى "فيما بينكم وبين ربكم"، إذ إن هذا الربط يجب أن يقع من العارف بنفسه لا من غيره عليه. أما ثاني التأويلين، فهو أن معنى الآية: "وما عوقبتم في الدنيا من عقوبة بحد حُددتموه على ذنب استوجبتموه عليه؛ فبما كسبت أيديكم"، وأما المعفو عنه من ذلك، فهو ما لا يوجب الحد.
أما الإمام فخر الدين الرازي (606هـ)، فقد حكى الخلاف في هل المصائب -من حيث العموم- عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ وأورد قولين: الأول قول من أنكر ذلك لأسباب، منها أن الله تعالى بيّن أن الجزاء إنما يحصل يوم القيامة، وأن الدنيا دار التكليف فيمتنع أن تكون دار التكليف والجزاء معا، وأن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب. بل إن الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين، ويدل لهذا الأحاديثُ التي سبق أن أوردتها هنا.
أما القول الثاني، فهو أن المصائب قد تكون جزاء على الذنوب المتقدمة، وقد تمسك أهل هذا القول بظاهر الآية هنا وببعض الأحاديث العامة كحديث "لا يُصيب ابنَ آدم خدشُ عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ".ولا شك أن المصائب تقع على معانٍ متعددة، فقد تكون من باب الامتحان في التكليف (المحنة)، وقد تكون من باب العقوبة، والأقدار جارية على ما فيه مصلحة العباد، والرحمة بهم. وإذا كان ذلك كذلك فلا يمكن الحكم على كل واقعة بأنها عقوبة من حيث الأصل العام، فضلا عن الإشكالات الناجمة عن تنزيلها على معين كما سيأتي توضيحه، بالإضافة إلى أن هذا العموم الظاهر غير مراد، إذ إن المصائب العامة تشمل أيضا الأطفال والحيوانات، والطائع والعاصي.
-
أما بخصوص معنى الزلازل الواردة في الأحاديث، فهي تحتمل معاني تعرض لها بعض شراح الحديث، منها:
- أن المراد بها في حديث "الزلازل والفتن" المعنى الظاهر وهو اضطراب الأرض،
- أو المعنى الباطن وهو الحروب الواقعة في الفتن لكثرة الحركة فيها، كما ذكر ابن حجر العسقلاني مثلا.
وكذلك الأمر في الحديث الذي جاء فيه أن كثرة الزلازل من علامات الساعة يحتمل معنيين:
- الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض وتحركها،
- والزلازل المعنوية التي هي كثرة الفتن المزعجة الموجبة لارتجاف القلوب، كما أوضح الحافظ ابن رجب الحنبلي وإن كان رجح المعنى الأول.
ولكن كثرة الزلازل تدل على علامات الساعة لا مجرد وقوع واحد منها، ولذلك قال ابن حجر: "الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها".
أما فيما يخص الالتفات إلى خصوصيات الوقائع التي يتم الاستشهاد بها هنا، فسأضرب لها ما ورد في بعض الأخبار من أن زلزالا وقع على عهد عمر بن الخطاب فقال: "أيها الناس! ما هذا؟! ما أسرعَ ما أحدثتُم! إن عادت لا أساكنكم فيها". قال الحافظ ابن كثير: إسناده صحيح، ولكن جاء في رواية رواها البيهقي "زُلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي، فلم يَدر بها، ولم يوافق أحدا يصلي فدَرَى بها". فمن الواضح أن الزلزلة كانت خفيفة وهو ما يدفع فكرة أنها كانت عقوبة أصلا.وأما تثبيت القواعد العامة الثابتة بالاستفاضة، كالاحتكام إلى حسن الظن بالناس، وأن الابتلاء الذي يصيب المؤمن فيه رفعة لدرجاته ورحمة به، والاسترسال مع رقة الإنسانية بالتعاطف ومواساة المنكوبين.
ثمة أمر آخر هنا، وهو أن تأويل النصوص التي تحتمل مثل هذا الربط بين وقوع المصيبة والعقوبة على ذنب سابق، سيقود إلى البحث في مسألة لاحقة على الفهم والتأويل، وهي تنزيل ذلك الحكم على الوقائع التي جاءت بعد عصر النبوة، أي بعد زمن ورود النص. فهذا الانتقال من العموم إلى الحكم على المُعيَن بإثبات أن هذا الزلزال بعينه إنما وقع على هؤلاء لأجل المعاصي الشائعة بينهم، وهذا لا سبيل إليه، نعم قد تقوم الأدلة والإحصاءات قرينة على ذلك ولكن أيضا لا يمكن الجزم بذلك، فما بالك بالزلزال الذي وقع مؤخرا في مناطق الشمال السوري التي هي مناطق شديدة المحافظة والتدين!
ولا يُجدي هنا الاكتفاء بمجرد اقتباس النصوص العامة لأجل مناسبة الزلزال، لأن مجرد الاقتباس المتزامن مع الحدث هو فعل تأويلي وحكم على المنكوبين جملة. ثم إذا كانت النصوص العامة تحتمل -نظريا على الأقل- هذا المعنى كأحد الاحتمالات، فإن هذا الاحتمال يتناقض مع واقع أن الأجزاء التي لم تُصب بالزلزال من العالم ليست أحسن حالا من المناطق التي أصيبت.
أضف إلى ذلك أن طَرْد هذا التلازم بين وقوع الزلزال وارتكاب المعاصي فيه إدانة لكل من زُلزلزت الأرض من تحتهم تاريخيا؛ علما بأنه تكرر وقوع الزلازل والكوارث الطبيعية كثيرا، وبعض المصنفات كما سبق إنما صُنفت بمناسبة وقوع زلازل، كما أن السيوطي وغيره التزموا بذكر قائمة الزلازل التي وقعت قبل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وبعده، وقد سرد السيوطي الزلازل التي وقعت إلى سنة 905هـ للهجرة.
يوضح هذا النقاش أهمية التمييز أيضا بين مستويين: الفرد والمجتمع
- فالفرد الذي هو أعرف الناس بنفسه، يمكن له أن يُنَزّل تلك المصائب والابتلاءات على حاله بينه وبين الله تعالى، أما أن نقرن بين مجرد وقوع المصيبة وبين وجود معاص سابقة، فهذا ادعاء على الله ورسوله وإساءة إلى تلك الجماعة المنكوبة.
- ثم على مستوى الجماعة، يجب أن نميز أيضا بين المجتمعات التي تشيع فيها الفواحش الظاهرة التي يمكن قياسها، وبين المجتمعات التي لا يُعرف أو لا يظهر منها ذلك، فهاهنا يكون الربط بين المصيبة والمعصية أشد تعديا، وهو -إلى ذلك- مناقض لقاعدة حسن الظن بالناس.
وقد ميز رشيد رضا في الكلام عن الضر أنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب، ولكن هذه الأسباب قد تكون خاصة بكسب العبد كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل. وقد تكون الأسباب عامة لها تعلق بنظام الخلق، كالضرر الذي يعرض من كثرة الأمطار، وطغيان البحار والأنهار، وزلازل الأرض وصواعق السماء.
المسألة الثالثة: هل يصح إيراد أحاديث العقوبة على سبيل الوعظ؟
أما المسألة الثالثة، فهي استخدام تلك النصوص في سياق الوعظ، وأعني الآيات العامة التي تحيل إلى أن وقوع المصائب هو بكسب العبد، والأخبار الضعيفة التي تعلق وقوع الزلازل على شيوع الفواحش. وهذا محل إشكال كبير من 3 جهات:
- الأولى: أن سياق الحديث لا يحتمل ذلك؛ لما فيه من إساءة وتهمة للمنكوبين ومضاعفة لمعاناتهم، فضلا عن كونه مخالفة شرعية، وفق ما سبق من التمييز بين الحكم العام والمعيَن.
- الثانية: أن واجب الوقت يُعيّن على الوعاظ أن يوجهوا الناس بضرورة المساعدة ولو بالدعاء والمواساة للمنكوبين.
- الثالثة: أن الوعظ له أشكال شتى، ولا يتعين بهذا النوع الخاص من إيراد تلك الأخبار الواهية أو حتى الآيات العامة في هذا السياق، بل إن مثل ذلك اللوم والتقريع غير المباشر يتنافى مع واجب العون والنصرة، فضلا عن أن العبرة والعظة لا تسوغ حصر المصائب بالعقوبة فقط، فلله حكم عديدة في الابتلاءات ولا يجوز تضييقها، فضلا عن أنه يترتب على ذلك الحصر سوء فهم للنصوص المتعارضة، ومؤاخذة للمنكوبين.
حين زلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب حض على الصدقة، وأمر بالتوبة، وإذا كانت الحوادث ذات أسباب وحكم، والظواهر الكونية (كالزلازل والكسوف والخسوف) من آيات الله، فإن الاتعاظ والتذكير والتخويف بهذه الآيات مما يحتاجه الطائع والعاصي معا، ولا تنحصر الحاجة إليه فقط عند المصائب وبسبب الفجور. وقد حكى ابن رجب الحنبلي عن طائفة من علماء أهل الشام، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة بالتوبة والاستغفار، ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم ونهاهم، واستحسن ذلك الإمام أحمد بن حنبل، وكان عمر بن عبد العزيز قد كتب إلى أهل الأمصار بعد أن وقعت الرجفة في المدينة أن من استطاع أن يتصدق فليفعل، فإن الله تعالى يقول: (قد أفلح من تزكى) [الأعلى: 14].