في استذكار تجربة عملي في هيئة الإذاعة البريطانية، لا بد لي أولاً من وضع تلك التجربة في إطارها المكاني والزمني. المكان هو «بوش هاوس» في وسط لندن وكان مقر جميع الأقسام الخارجية في «بي بي سي» التي شملت في وقت من الأوقات البث بنحو أربعين لغة من بينها الإنكليزية، وتغطي معظم أنحاء الكرة الأرضية. وكان موظفو تلك الأقسام يلتقون في الـ«كانتين» وهو مطعم ومقصف واسع في الطابق تحت الأرضي، ويراعي في ما يقدمه من طعام، بأسعار زهيدة، أذواق ابناء وبنات شعوب متنوعة من الهند وباكستان وبنغلاديش وفيتنام وماليزيا وكمبوديا ولاوس والعالم العربي.. إلى روسيا وبولندا وأيطاليا وألمانيا والبرتغال والبرازيل والناطقين بلغات افريقية عديدة كالصومالية والهاوسا وغيرها. وكانت برامج تلك الأقسام تصل عبر الموجات القصيرة والمتوسطة إلى كل أنحاء الامبراطورية البريطانية، التي كانت قد بدأت تنكمش بحلول وقت وصولي إلى لندن للعمل.
بدأ القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، بث برامجه للمرة الأولى في عام 1938 أي قبل نحو سنة من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكأنما كانت نذر تلك الحرب قد أقنعت الساسة البريطانيين بضرورة خطب ود وثقة الناطقين بالعربية الذين توجد في بلادهم قناة السويس ومنابع النفط وقواعد عسكرية بريطانية (في مصر والعراق والأردن وليبيا، وعلى مقربة منها في بعض جزر البحر الأبيض المتوسط مثل قبرص ومالطا). أما انا فقد التحقت بإذاعة لندن في أيلول/ سبتمبر 1966، أي في أواخر ستينيات القرن العشرين، التي شهدت بريطانيا فيها فترة تمرد اجتماعي على الطبقية، ومرحلة تجديد في الموسيقى والغناء (البيتلز ورولينغ ستونز وفرق أخرى) وتصميم الملابس والسيارات والمباني ومجالات أخرى، وشملت ظهور الـ«هيبيز» ومعظمهم من شباب وشابات الطبقة المتوسطة، الذين كانوا يرغبون في العيش في سلام وحرية جنسية وتعاطي المريوانا وحشيش الكيف. وعلى الرغم من موجة التجديد تلك، فقد ظل جيل البريطانيين الأكبر عمراً ملتزما بالأخلاق والقواعد الاجتماعية القديمة كالوقوف في الطابور عند مواقف الباصات، وأمام دور السينما والمسرح، وتقديم الاعتذار إذا ما أحس أحدهم أنه أبدى أي إساءة، ولو صغيرة وغير مقصودة. وكان هؤلاء قد اعتادوا الالتزام بكل تلك القواعد وغيرها قبل وخلال الحرب العالمية الثانية.
التحقت بالإذاعة بعد أن اجتزت الامتحانات التي شملت الأداء الصوتي (وقد سجلت صوتي في قراءة نص في أحد استديوهات إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية في القدس) والترجمة التي أديت امتحانها في المجلس الثقافي البريطاني في القدس، ثم أجريت فحوصا طبية أثبتت خلوي من الأمراض، قبل إرسال الإذاعة رخصة عمل لي تؤهلني للعمل في بريطانيا. وكان المشرفون على إدارة القسم العربي في الإذاعة يشددون على ضرورة اجتياز تلك الامتحانات بدرجات عالية لضمان رفعة المستوى اللغوي وصحة النطق ويسر الترجمة. كانت الأجواء داخل القسم العربي، وهو القسم الأكبر بعد الإذاعة العالمية باللغة الإنكليزية، أجواءً ودية للغاية، وكان الكبار يأخذون بأيدي الشباب ويرشدونهم ويعلمونهم ما لم يكن لهم به علم من فنون الإذاعة وأصولها. وما هي إلا أشهر قليلة حتى يلتحق الإذاعي الجديد بدورة تعليمية لإنتاج البرامج تعقبها بعد فترة أخرى دورة ثانية يتعين عليه فيها كتابة برنامج مدته نصف ساعة يترك له اختيار موضوعه، وتقرير عدد المشاركين في تقديمه. وكانت تتخلل تلك الدورات محاضرات عن أصول وقواعد صياغة الأخبار والتعليقات والمقابلات والتحقيقات الإذاعية. وباختصار، كان ذلك بمثابة تعليم جامعي في الفن الإذاعي والإعلامي عموما.
وجدت أمامي في القسم العربي الذي كان يبث برامجه لمدة 12 ساعة يوميا، رجالا ونساء يعتد بهم كإذاعيين مخضرمين من الدرجة الأولى. وكان بعض هؤلاء ممن عملوا سابقا في إذاعة الشرق الأدنى، التي انتقلت من يافا إلى قبرص قبل أن تغلق أبوابها، وتنهي بثها جراء العدوان الثلاثي (البريطاني- الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر في عام 1956.
من أبرز المذيعين والمذيعات الذين عاصرتهم: نديم ناصر وزوجته مديحة المدفعي، عبلة الخماش، وسلوى جراح وهدى الرشيد وسحر قراعين ومنيرة الشايب وسهام الكرمي وندى المهتدي وسامية الاطرش وعفاف جلال وهالة صلاح الدين وهالة مراد وأكرم صالح، ومؤتمن جزار، وإبراهيم شاهزادة، وسمير مطاوع، ومحمد الأزرق وسامي حداد، وماجد سرحان وإسماعيل طه وأيوب صديق وحسن أبو العلا وفؤاد عبد الرازق، ورشاد رمضان وأحمد مصطفى ونزيه حجازي وعباس شبلاق وكارم محمود ونجا فرج وسالم العبادي. وكان هناك أيضا رجال ونساء من العيار الإذاعي والثقافي الثقيل، أذكر منهم أولغا جويدة ومحمود حسين وموسى بشوتي ويوسف عوض ومحمد خير البدوي.
أما صف العمالقة فكان يضم الاستاذ الكبير حسن الكرمي كاتب ومقدم برنامج «قول على قول» (وهو لغوي لا يشق له غبار ومؤلف قواميس من بينها «المنار») والأديب الروائي الطيب صالح المشرف على قسم الدراما والشاعر المشرف على البرامج الثقافية سعيد العيسى. وكان المشرف على نشرات الأخبار العربية محمد البيبي، وكان مدير قسم الموسيقى الأديب وكاتب السيناريو السينمائي صلاح عز الدين، وكان جورج مصري منتجا ومقدما لبرامج منوعات وبرامج دراما. وقد عملت مع وتعلمت من اذاعيين مخضرمين كبار. وكان من أبرز الإذاعيين، الذين عملت معهم محمد صوان الذي عمل في «الشرق الأدنى» وإذاعة القاهرة وإذاعة بغداد والإذاعة الكويتية.
وقد شارك في برامج الإذاعة على مدى عقود من الزمن عدد من مشاهير الفن والسينما والمسرح من بينهم نديم صوالحة وفاروق الدمرداش وعلي الرفاعي، وكتاب كبار مثل المحامي الدولي موسى المزاوي والكاتب المحامي أحمد البديني. وكانت بلدان عربية ترسل بعض إذاعييها للتدرب على الأساليب الإذاعية في «بي بي سي» وأذكر من بين هؤلاء الإذاعي والشاعر العماني المعروف ذياب صخر العامري، ومذيعة يمنية اسمها زهرة ومذيع من محطة «صوت الساحل» في دبي أشرف لاحقا على تأسيس إذاعة وتلفزيون دبي. بعد نحو شهر على التحاقي بالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية انضم إلينا المذيع الليبي محمد مصطفى رمضان الذي كان شابا مثلي (25 أو 26 سنة) مرحا وقارئ أخبار من الدرجة الأولى، وقد صرنا صديقين على الفور. كان محمد يميز نفسه بقوله في بداية النشرة «سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات». ومن المؤسف أن عميلين للعقيد معمر القذافي اغتالاه بالرصاص بعد صلاة الجمعة أمام جامع ريجنتس بارك في لندن في 11 نيسان/ إبريل 1980 ولم يكن ذنبه سوى توجيهه رسائل خطية إلى العقيد القذافي ينتقد فيها سياساته وممارساته القمعية. كان منتظرا من الإذاعيين الجدد في القسم العربي في الإذاعة التنقل للعمل في دوائره المتنوعة: الأخبار، الموسيقى، المنوعات، الرياضة، إلخ، وهو ما أكسبهم خبرات متنوعة، وعلى سبيل المثال عملت أنا مترجما للأخبار وقارئا لها، وعملت في قسم الموسيقى ثم قدمت البرنامج الرياضي وبرامج مثل «التجارة والصناعة» و«في ربوع بريطانيا» و«خمس دقائق» كما عملت معداً ومقدما لبرامج شؤون الساعة وبرامج أخبارية مثل «العالم هذا الصباح» و«العالم هذا المساء».
بقي أن أقول إن «بوش هاوس» مقر الإذاعة كان أشبه بـ»أمم متحدة» مصغرة إذ ضم رجالا ونساء من مختلف قارات الأرض، وكنا نختلط اجتماعيا، أما في مقصف الأذاعة أو في نادي بوش هاوس الشهير ونتبادل أخبار بلداننا، بحيث صار الواحد منا على دراية بشؤون بلدان بعيدة مثل كولومبيا والبرازيل وبولندا وكينيا ودول شرق افريقيا، إلخ. كان القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية يستقبل ساسة وزعماء وسفراء ومطربين ومطربات وممثلين وممثلات من العالم العربي، وكذلك مفكرين وكتابا وشعراء كثيرا ما التقيناهم في نادي بوش هاوس واستمعنا إلى أحاديثهم بشغف ونهم.
رحم الله تلك الأيام التي لم يبق لنا منها سوى الذكريات.
بإغلاق «بي بي سي» إذاعة القسم العربي تكون «بي بي سي» قد أغلقت مدرسة إذاعية راقية، كانت أخبارها معتمدة وبرامجها شيقة – تعليمية وترفيهية وتثقيفية. لكن لا شيء يبقى على حاله و»لكل شيء إذا ما تم نقصان».