بين كشف المخبوء وزيف الكتابة.. د.الحبيب الدائم ربي: قد تكشف وقائع خفية من حيوات أصحابها إلا أنها في المقابل لا تخلو من زيف!د. جليلة الطريطر:"أيّام" طه حسين لحظة فارقة في انبثاق "سيرة" متأصلة بسياقاتها العربيّة الحديثة
د.عبد الله إبراهيم: الذاكرة ليست أمينة على الأحداث واليوميات هي السجل الكاشف للكاتب وعصره
د.فايزة الغيلانية: قرار الكتابة ليس سهلا والإنتاج الخليجي المتواتر ضمّ أعمالا عنيت بالذّات
د. إيهاب النجدي: الأديب العربي يعيش في ظل أعراف ليس من السهل الخروج عليها
د. فيصل الأحمر: ستنتهي السير إذا ما أجلنا فيها النظر من الجانب التنظيري التجنيسي
يوثّق الكاتب -بينه وبين نفسه- دون شاهد يقف على الحياد.. يوثق كل شيء بمحض إرادته جوانب مخبوءة من حياته المليئة بالتفاصيل خيرها وشرها، لكن هل يعترف بـ"شر" تلك التفاصيل عند التدوين وهل يعترف بالحقيقة كما -حدثت-؟ قد يجيب أدب السيرة الذاتية بعض الجوانب المفصلّة من حياة الشخوص وقد يعلق البعض إنجازاته عليها، ويرسم آخر جانبه الأسطوري النقي فيها.. في حين يبوح آخرين أسرارهم المُرة والعذبة للمرة الأولى.. ورغم الجدلية حول أسبقية "الاعتراف" و"السيرة الذاتية" كأدب مستقل، يشير الدكتور إيهاب النجدي في كتابه "أدب الاعتراف" المقارنات التحليلية من منظور سردي أن الاعتراف كان رائدًا لمسيرة "أدب السيرة" مستشهدًا بـ"اعترافات" جان جاك روسو (۱۷۱۲ـ ۱۷۷۸) والتي يؤكد أنها منحت السيرة الذاتية الشرعية الفنية، مشيرًا إلى أن اعترافات قديس شمال إفريقيا أوغسطينوس (354 ـ 430 م) تعد النموذج الأولي للسيرة في الأدب العالمي..
عبر مجموعة من الكتاب والنقاد العرب المختصين نغوص في فكرة الخيط الرفيع بين "الاعتراف" و"السيرة الذاتية" وإرهاصات ما بينهما في المنتج الأدبي العربي وكيف واكب ووازن السارد في المفهوم التقليدي الظاهر، وهل استطاع الدخول في المفهوم العميق لهذا الأدب عبر المراحل الزمنية المختلفة..
مطاردة لأضواء هاربة
بداية يرى الروائي والباحث المغربي الدكتور الحبيب الدائم ربي أن كتابة السيرة الذاتية تطرح إشكالات نظرية ومنهجية معقدة، ولعل الدفع بسؤالها إلى أقصى ممكناته قد يجعل من تحققها أقرب إلى المستحيل، لا لأن "العين لا ترى ذاتها وترى العالم في آن" وحسب -كما قال فرويد- وإنما لكون التطابق بين محفل الحكي ومحفل الواقع غير ممكن، مادام الشيء لا يطابق إلا ذاته، بيد أن النظر إلى الكتابة كتمثيل تلفيظي للواقع (أي كمحاكاة)، من شأنه أن يسمح بخروج هذه الكتابة السيرية من مناط الاستحالة إلى مناط الإمكان، ولئن كان التحاكي بين الدال ومرجعه الواقعي مجرد تقريب بلاغي فإن حصوله في أدب السيرة، هو بدوره، مجرد توهيم ينأى عن "الحقيقة" درجات، فإلى جانب كونه يخضع لتوسطات اللغة، واللايقين، فإنه يصطدم بعوائق كثيرة منها، مدى إمكانية "تشخيص وعيٍ لوعيٍ آخر"، إذا ما استعملنا تعبير ميخائيل باختين. لأن الذات الكاتبة ليست هي الذات المنكتبة عينها، فبين الاثنتين مسافة زمنية ونفسية من المستحيل ردمها.
ويضيف "الحبيب الدائم ربي": يبدو هنا الخطاب الأوتوبيوغرافي، كما لو كان مطاردة لأضواء هاربة، مادام يقدم سرديته الخاصة عن سردية أخرى من المفترض أنها له، أو على الأصح أنها كانت له. وهو بذلك يحاول -من خلالها- انتقاء ما ينبغي حذفه أو إضافته، قصد تشكيل نسخة مزيدة ومنقحة لا تخلو من تواضع أو ادعاء، حسب الأحوال. أي أنه كمن يتوق إلى إزالة الخدوش عن صورته في الأذهان، عبر "الجَرح والتعديل"، علمًا أن الحياة في حد ذاتها سيرة وحيدة تعاش ولا تكتب إلا من باب المجاز. ولأن التلقي الأدبي ميال إلى المقارنات، فإن قراء السيرة الذاتية غالبا ما يقعون في فخ المشاكلة، ظنا منهم أن "أثر الواقع"ـ بما هو تشكيل فني، هو الواقع الملموس. صحيح أن السيَر قد تكشف عن وقائع خفية من حيوات أصحابها، حقيقية أو مختلقة، إلا أنها في المقابل لا تخلو من زيف، لكونها، في النهاية، محض تخييل يتدثر بالحقيقة لحساب الوهم. بل إن الاعترافات واليوميات، من جهتها، لا تشذ عن هذه القاعدة، الأمر الذي لابد من أخذه بالحسبان وإلا فإن فهمنا لأدب السيرة سوف يكون غير دقيق.
ويضيف: نحن هنا لا نبتغي الطعن في الوقائع السيرذاتية ولا تأكيدها مادامت المقارنة بين المصرح به و "ما كان " غير ممكنة، إذ يلزمها، على الأقل، شاهد ثالث يقف على الحياد وهو ما لن يتأتى، فكاتب السيرة، وبعض النظر، عن كونه "عاشها ليحكيها" وفق تعبير ماركيز، فإن من مقاصده "خلق أسطورته" الخاصة، أسواء كتب هذه السيرة للأسرة والعشيرة بعفة وخفر، كشأن طه حسين وعبدالمجيد بن جلون وقاسم الزهيري وسواهم، أم دسَّ فيها جرعات زائدة من الجسارة والجرأة كما فعل محمد شكري على سبيل المثال، وفي الحالتين قد تنتفي الحقيقة، فلا الخفاء كاشف لها ولا التجلي. وبما أن الاحتراس في الكتابة عن الذات له ما يسوغه، وخاصة في عالمنا العربي، فإن خرق المعتاد في التصريح بالأقوال والأفعال قد تحركه، أحيانا، نوازع لاستدرار الشفقة أو الرغبة في افتعال مسار بطولي مزعومة، كما سجل ذلك عبدالصمد العشاب وهو يعقب على سيرة تلميذه محمد شكري "زمن الأخطاء"، وهذا المنحى ما فتئ يتصاعد اليوم، في العالم العربي وفي المغرب، ليس لدى كتاب السيرة الذكور النفاجين والادعائيين وإنما صارت تنهجه كاتبات أغلبهن مبتدئات، ربما بحثا عن موطئ قدم في خيمة الأدب عبر "قلة الأدب". وبما أن المكون السيري لا فكاك منه، في أية كتابة إبداعية. ولعلنا نتذكر كيف أن فلوبير، عندما سئل عمن تكون "السيدة بوفاري" بطلة روايته الشهيرة، أجاب، دون ترد، "السيدة بوفاري هي أنا". وحتى الكتاب الذين لم يدونوا سيرهم فإنهم صرّفوها في نصوصهم، نثرًا وشعرًا، كبورخيس وسارماجو وإيزابيل ألليندي وأحلام مستغانمي وليلى أبو زيد ومحمود درويش وعبداللطيف اللعبي ومحمد برادة.
وفي الختام، يؤكد الروائي والباحث المغربي الدكتور الحبيب الدائم ربي أن السيرة الذاتية غدت اليوم جنسا قائم الذات، لها خصائصها النوعية المتجددة، والتي تتجاوز الضوابط الشكلية التي وضعها لها فيليب لوجون، فلم تعد تقتصر على سرد الوقائع بصيغ مخصوصة، وإنما صارت مرجعًا معرفيًا وتاريخيًا على قدر معتبر من الوجاهة والمصداقية، فمن يقرأ سيرة محمد العمري"زمن الطلبة والعسكر" أو سيرة عبدالله العروي "أوراق" أو سيرة سعيد بنكراد "وتحملني حيرتي وظنوني"، مثلا، سيقف على الغنى المعرفي والتاريخي الذي تقدمه هذه البيوغرافيات المغربية، فضلا عن قيمتها الفنية والجمالية.
لحظة تاريخية فارقة
من جانبها، قالت الباحثة التونسية والناقدة لكتابات الذات الأستاذة الدكتورة جليلة الطريطر أن السيرة الذاتيّة العربيّة كتابة مرجعيّة ذاتيّة دشّنت في مطلع القرن العشرين بفضل ثلّة من أعلام الفكر العربيّ التنويرين منعرجًا حضاريًّا جديدًا ارتبط بنقل الحداثة ونقد القيم المجتمعيّة المحافظة وهو الدور الّذي سجّله الجيل المؤسّس للسيرة الذاتيّة باعتبارها رحلةً حياةً متقلّبةً ومتوتّرةً من أجل تكريس تحوّلات ثقافيّة وقيميّة ومعرفيّة جديدة لعب خلالها هذا الجيل دور الوساطة بين أوروبا المتقدّمة والعالم العربيّ الباحث عن الأخذ بأسباب هذا التقدّم في سياق إقليميّ وعالميّ متأزّم. فنصّ الأيّام لطه حسين (1889- 1973) في جزئه الأول خاصّة (1929) مثّل لحظة تاريخيّة فارقة في انبثاق كتابة سير ذاتيّة عربيّة متأصلة في سياقاتها العربيّة الحديثة ومبشّرة في الآن ذاته بنقلة نوعيّة في التّأسيس لثورة ثقافيّة عقلانيّة تؤمن بأنّ التطوّر والأخذ بأسباب التّفكير النّقدي للتّراث مطلب متأكّد، وأنّ الفرد أضحى بطلا لأنّه بات قيمة فاعلة تقطع مع سلطة القبيلة/ الجماعة وتاريخ حياته أساسيّ في فهم منعرجات التّاريخ العامّ الحاسمة الّتي ينخرط فيها بإرادة حرّة مناضلة.
وتضيف "الطريطر": هكذا تراءى لنا الأنموذج السيرذاتي العربيّ الّذي درسنا سياقاته ومقوّماته فهو قد تخلّق في ظروفه العربيّة الحديثة ومتحوّلاتها الحتميّة، ولم يكن تقليدًا لا لاعترافات روسو أو القديس أوغسطينوس فشروط هذا الأنموذج العربيّ الموضوعيّة لم تتحقّق إلاّ حوالي قرنين من الزمن بعد روسو، وإنّ اطّلاع الجيل المؤسس على نماذج سيرذاتيّة أوروبيّة لا يمكن أن يفسّر موضوعيّا تأسيسهم لهذه الكتابة، ويمكن أن نفهم هذا السيّاق على نحو دقيق بالعودة إلى أحمد أمين (1886-1954) في سيرته الذاتيّة حياتي الّتي مثّلت في مقدّمة طبعتها الأولى (1950) أوّل بيان نقديّ مؤسسّ لمفهوم السيرة الذاتيّة العربيّة حدّد موضوعها ورهاناتها والسّياقات الحديثة الممثّلة لشروط تحقّقها. وتكمن أهميّة هذا التقديم في كونه أجلى للمرّة الأولى في تاريخ الثّقافة العربيّة ظهور مفهوم الشّخصيّة الفرديّة وتاريخيّتها، لذلك لا يمكن لمجرّد التأثر بالنصوص الغربيّة أن يفسّر ظهور السيرة الذاتيّة المشروط جوهريًّا بتبلور مفهوم الشّخصيّة الفرديّة، والقول بأنّها تملك تاريخًا لها جديرًا بالتدبّر والتوثيق.
كلّ هذه المعطيات جعلتنا نعتبر هذه الكتابة ظاهرة ثقافيّة بامتياز يجدر نقدها في أطرها الحضاريّة والثّقافيّة من أجل تفهمها فهما صحيحا لا يعمد إلى الإسقاطات النظريّة أو القيميّة غير المناسبة لها. فمن ذلك مثلا القول بأنّ السّير الذاتيّة الأوربيّة أنموذج مثالي نقيس به منسوب البوح في النصوص العربيّة وسيطرة الرقابة العامّة والذاتيّة عليها وما شابه ذلك، هو قول مردود لا لأنّه نوقش حتّى في الثقافة الغربيّة نفسها، بل لأنّ العناصر الأجناسيّة المحدّدة للكتابة السيرذاتيّة ثقافيّة ووظيفيّة بالقياس إلى سياقاتها الخاصّة لا سياقات أخرى لا تشبهها دائمًا.
النخبة العربيّة المثقّفة هي التّي سطّرت بكتاباتها السيرذاتيّة دخول الفرد العربيّ إلى مجال كتابة التاريخ العامّ انطلاقا من تاريخه الخاصّ موظّفًا أبعاد حياته الشخصيّة المعرفيّة والأيديولوجيّة والقيميّة، فقد كان محدثًا لنقلة حضاريّة نوعيّة أصبح خلالها تاريخ شخصيّته وثيقة تاريخيّة معتمدة هي بمثابة ذاكرة حيّة تقدّم شهادة أصيلة. ولا يعني ما نقوله أنّ الحياة الشّخصيّة في أبعادها الحميمة مغيّبة أو غير مفيدة في النصوص العربيّة، ولكنّها ملتحمة كأشدّ ما يكون الالتحام بأبعادها الحضاريّة التنويريّة الّتي مثّلت ثورة ثقافيّة في عصرها الحديث، وفي ذلك نرى تمثيليتها لخصوصيّتها الإبداعيّة.
وفي ختام حديثها تشير الباحثة التونسية والناقدة الأستاذة الدكتورة جليلة الطريطر إلى ما كتبته المرأة العربيّة في العصر الحديث من سير ذاتيّة، أو غيرها من كتابات الذّات مثل: اليوميّات الخاصّة والمذكّرات ودفاتر السفر وما شابهها، وجاءت نصوصها على نحو إبداعيّ وفكريّ لافت ومتميّز تقول: رغم قلّة استحضار هذا الرصيد النّسائيّ الّذي كان يكشف باقتضاب تفاصيل حياة المرأة العربيّة ككاتبة منذ نهاية القرن التّاسع عشر بداية مع عائشة التيموريّة ثمّ تحوّلت تدريجيا هذه الشذرات السيرذاتيّة إلى نصوص مكتملة أجناسيًا مع الأجيال اللاّحقة من أمثال هدى شعراوي ونبويّة موسى ثم لطيفة الزيّات ونوال السعداوي وغيرهنّ ممن جعلن من كتابة حياتهنّ علامة على دخول المرأة العربيّة طور الظهور الثقافيّ العلني لمحاربة الحجب الرّمزي خاصّة والمادي بجميع أنواعه أيضًا. هنا أيضا مثّلت سير الكاتبات العربيّات تدشين لحظة تاريخيّة فارقة هي ظهور المرأة العربيّة فاعلة ثقافيّة واجتماعيّة اتّخذت من كتابة ذاكرتها علامة على تحرير ذاتها بذاتها وخروجها من طور الموضوع في الثّقافة إلى طور الفاعلة المتموقعة فكريّا وإبداعيّا.
البطانة المانحة
يعترف المفكّر والناقد والأستاذ الجامعي العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم الذي صدر له (صدر له عن السيرة الذاتية كتاب "أعراف الكتابة السردية"، وسيرته الذاتية "أمواج") بأنه شغوف جدًا بقراءة السيرة الذاتية ومن واجبه طرق باب المنطقة السريّة في حياة صاحبها وإلا فسوف تفقد جزءًا كبيرًا من وظيفتها وذلك هو الجزء الجوهري في كل كتابة ذاتية، ويقول: يخشى أصحاب السير الذاتية الغوص في حيواتهم السرية للاعتقاد الشائع أنها نوع من العار، فيطمسون ما أراه شرطًا أساسيًا من شروط السيرة الذاتية، وليس ينبغي التكتّم على ذلك لأن البطانة الذاتية للمرء هي المكوّن الأول لهويته الشخصية، بل أراها المانح الشرعي لكتابة السيرة الذاتية، كما لا يجوز إغفال الحياة الخاصة للكاتب؛ لأنها تتصل بمسار نشأته وتطوره، وإدراكه للعالم المحيط به، وأخيرًا ينبغي أن يقدّم كاتب السيرة شهادته على عصره، ويكشف تطوّر وعيه بأحداث زمانه، وإلا جاءت سيرته تخلو من الأهمية التاريخية. ولكل هذا أوافق "فيليب لوجون" في نفي أن تكون السيرة الذاتية "رواية من لم يكونوا روائيين" جريا لما يشيع عن كونها كتابة نرجسية مسطحة. من الضروري أن يدمج كاتب السيرة الذاتية، كما انتهى ماركيز إلى ذلك، بين السريّ والخاص والعام، ولا يحق له أن يبالغ في الاهتمام بمستوى دون آخر، وعليه ألا ينظر بتحيّز مسبق إلى تجربة حياته بأنها منزّهة عن الأخطاء، فحياة الإنسان لها ثلاثة مستويات أساسية: حياة سرية، وحياة خاصة، وحياة عامة، وليس يجوز له، بذرائع أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، حجب مستوى والاهتمام بآخر.
ويضيف "عبدالله إبراهيم": أفضّل أن تتضمن السيرة الذاتية جرعة من الاعتراف؛ لأن التجارب الذاتية سجل للإخفاقات والنجاحات، وتخطّي العثرات. ولعل كثيرًا من الكتاب يجفلون من تجاربهم التي استحالت إلى ذكرى، فيطمرونها كعار، وبها يستبدلون تاريخًا مجيدًا لحياتهم، بأن يشيحوا عنها بوجوههم، أو يراوغوا، أو يمّوهوا، وربما يزينوا، أو يلطّفوا، ومن النادر أن يجرؤ امرؤ على تحقيق درجة كافية من المطابقة بين ما وقع وما روي، ولا يعود ذلك إلى تجنبهم البوح الصادق أو التكتّم فقط، إنما لأن تمثيل التجارب من خلال السرد يعيد إنتاجها في سياق مختلف، فلا يعاب على المرء التصريح بأمر، إنما يعاقب عليه الإخفاء والطمس والهرب من قول الحقيقة، وأحبّذ لكاتب السيرة ألا يؤخّر كثيرًا كتابة سيرته ونشرها لأن النسق الاجتماعي والديني والسياسي سوف ينطبق عليه فيحول دون جهره بالوقائع التي عاشها، ولذلك لا أوصي بتأخير ظهورها إلا لأسباب قاهرة، فكلّما تقدم العمر بالمرء تنطفئ حرارة التجارب في داخله، ففي مجتمع ضاغط، ومجهّز بنظام شامل من قيم الامتثال والولاء، تتراجع فردية المرء واستقلاليته كلما خطا به الزمان إلى الأمام، فينتهي مرائيا أكثر منه فردًا قادرًا على الإفصاح عن نفسه، وتجاربه، وأخطائه، وعيوبه؛ لأن الاعتراف بذلك يُنبذه من سياق مجتمعي هو بحاجة إليه.
وعن تجربته يقول "إبراهيم": عشت هذه الهواجس وأنا اكتب سيرتي الذاتية "أمواج"، إذ غشتني مخاوف من ألاّ أتمكن من ذكر الأشياء فيما بعد، وينبغي قولها وأنا على مشارف الخمسين. ولست على بيّنة نهائية من السبب الذي جعلني أفترض أن يكون سنّ الخمسين حدًا فاصلًا بين مرحلة القدرة على الجهر بالأشياء، ومرحلة التكتّم عليها، فربما خيّل لي أن خطّا وهميا يفصل بين حقبة القوة وحقبة الضعف، أي بين التفرّد والامتثال، وما نتمكّن من قوله ونحن أقوياء لا نتمكّن من الإفصاح عنه ونحن ضعفاء، فنبرة التودّد، والخجل تستفحل بالتدريج في الحقبة الثانية، وذلك يغيّر أو يزيف كلّ ما وقع في الحقبة الأولى، فتجارب التكوين الذاتي تتشكل بمعظمها في الأولى، واستعادتها في الثانية، هو نوع من اقتلاعها وترحيلها، وذلك فيما أرى يُحدث هوة لا تردم بين التجربة والإحساس بها، حينما يصبح المرء مدينًا لحقبة، لن يكون قادرًا على روايتها بأمانة، وسيقع تحت طائلة التحيّز، بل ويسبغ عليها ما يرغب فيه الآخرون، تجنبًا لإثارة لغط سينبثق لا محالة في الوسط الذي ينتمي إليه، فهو يريد أن ينتهي بريئًا قبل أن يطبق عليه جفن الردى، وبحاجة إلى شهود على براءته، وليس مشاركين له في تجربته الحقيقية، فكأن الحياة، في المجتمعات التقليدية، تهمة ينبغي علينا ختمها بصك براءة، وطمرها. أتمنى ألا أكون قد وقعت فيما حذّرت منه.
ويختتم الدكتور عبدالله إبراهيم حديثه حول أهمية أن يعتمد كاتب السيرة على يومياته أو الوثائق التي في حوزته حيث يقول: لا يقنعني أي حِجاج بأن الذاكرة أمينة على أحداث طمرتها أحداث، ويمكن استعادتها بسياقها بعد عقود من الزمان، فاليوميات هي السجل الكاشف لحال كاتب السيرة وعصره، وهي المادة الخام التي يلوذ بها لاستعادة الأحداث التي عاشها.
كشف للعوالم
وتشير الباحثة العمانية الدكتورة فايزة بنت محمد الغيلانية الحاصلة على درجة الدكتوراة عن دراستها المعنونة "السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث في الخليج" إلى أنّ اتخاذ الإنسان قرارًا بكتابة سيرته الذّاتيّة أمر ليس من السهل الإقدام عليه، لما يعرف عن كتابة السّيرة الذّاتيّة من كشف لعوالم الإنسان الداخليّة والخارجية، وتسليطه الضوء على مراحل من حياته تضمّ نجاحات يفاخر بها، وإخفاقات يتمنّى أن يتجاوزها، وهنات بشخصه أو بمحيطه الأسري والعائلي لا يحبّ كشفها.
وتضيف "الغيلانية": الإنتاج الأدبيّ المتواتر في الخليج -ولا سيّما السّردي منه- ضمّ العديد من الأعمال المرجعيّة التي عنيت بالذّات، وحملت هذه المؤلّفات مسمّيات مختلفة منها ما يصرّح بنوعه، ومنها ما احتاج إلى فطنة القارئ، وتحليل النّاقد لتصنيفه، وفق اختيار الذّات الكاتبة مؤسّسة الجنس الأدبيّ حتى تنقل تجربتها، ورؤاها في الحياة بواسطة العمل الأدبي، ومن هذه الأعمال كتابات السيرة الذاتيّة.
وتؤكد الباحثة فايزة الغيلانية إلى أن السّير الغربيّة التي قامت على مبدأ الاعتراف والمكاشفة تختلف عن نظيراتها من السّير الذّاتيّة العربيّة التي تسطّر لنفسها مجدًا مكتوبًا عبر استعراض قدرة النّفس على الصمود، وتحمّل التّحديات، وتجاوزها وصولًا لتحقيق الإنجازات، لذا فإنّ موضوع كتابة السّيرة الذّاتيّة عند أهل الخليج العربي الذين عرفوا بتقاليدهم البدوية والحضرية الصارمة، ومجتمعاتهم المحافظة، وقوانينهم الاجتماعيّة المهيمنة؛ أمر جدير بالمتابعة والاكتشاف، لما تتضمنه السّيرة الذّاتيّة من شروط الالتزام، والإدلاء الصريح بأحداث الحياة المختلفة، ومدى قدرة الإنسان في الخليج على تصوير حياته سلبيّاتها وإيجابيّاتها.
وفي الختام، تقول الباحثة الدكتورة فايزة بنت محمد الغيلانية: إنّ تحقق السّيرة الذّاتيّة في الواقع الأدبي للشعوب، وعدّها جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته، وجد صدى لدى الإنسان في منطقة الخليج العربي الذي تأثر بالتّطور الذي طال هذا الجانب في الأدب العربي الحديث، ولعله اطّلع أو قرأ السّير الذّاتيّة العديدة التي سطّرها الأدباء والشعراء والمفكرون عن حياتهم، وتأثيرها المباشر على أعمالهم وإبداعاتهم وأفكارهم، كما يقول سعيد بن راشد الكلباني في سيرته (جندي من مسكن - شهد الذّاكرة): "بقيت أمام حيرتي في كتابة ما أشعر أنني أريد حفظه بين دفتي كتاب، مستنيرًا بما فعله سابقون في بلدان كثيرة." فجاءت تجاربهم الكتابية متباينة في سيرها الزّمني عبر المراحل المختلفة لحيواتهم، ومتفاوتة في مستوياتها الفنيّة، ومختلفة في أشكالها، وتقنيّاتها الكتابيّة.
رجع للصدى
من جانبه، يرى الناقد المصري الدكتور إيهاب النجدي الاستاذ المشارك بالجامعة العربية المفتوحة بدولة الكويت (مؤلف كتاب أدب الاعتراف) أن الاعتراف يستقر في أذهان كثير من الناس في باب المسكوت عنه، فهو مسيّج بالظنون والشبهات، على كل الصعد، ومنها صعيدًا الأدب والنقد، والثقافة العربية تبجّل الستر، وتميل إلى طي الصفحات الماضية أو السوداء، وتؤثر السلامة، وهي رجع صدى لإرث عريق في المدائح والمفاخرات، تجانب الإفصاح عن الأخطاء، وتتحاشى الكشف عن مرات السقوط في حركة الحياة، فبدت جمهرة السِّيَر ـ غيرية وذاتية ـ نقية نقاء الثوب الأبيض في رابعة النهار.
والقارئ العربي بدوره متطلع إلى النموذج الفذ، متعلق بالمثال الكامل لصاحب السيرة، يثقل عليه أن يرى بطله هاويا في مقبحة، أو مقارفًا لذنب، أو مفضيًا بسريرة كان فيها ـ مثل بقية أبناء آدم ـ خطّاء أو مقرًّا بضعفه الإنساني، وعلى الإجمال تتواتر لفظة السيرة ـ في الوعي الجمعي ـ على أنها حسنة، أو عطرة حتى إشعار آخر، وطريقة متبعة، وقدوة، وهداية تهتدي بها الأجيال. نتذكر تراجم الأعيان والأشراف، و"سير أعلام النبلاء" وهو عنوان مشهور لكتاب شمس الدين الذهبي.
والاعتراف ـ في خلاصته ـ يمثل إقرارًا على النفس، وشهادة على الآخرين بما توارى في طوايا الأيام من خفايا وأسرار، لذا يجب الاحتراز هنا حتى لا يمتد أفق التوقع إلى أبعد من الواقع، فليست كل خفايا المرء تقع في دائرة الخطايا والأوزار. وبهذا فإن الأدب الصادق يلامس جوهر الاعتراف، ليس بالتصور الظاهر القريب للكلمة، وإنما بالمعنى الداخلي "الجواني" لها، حين يستعيد الأديب لحظات الحقيقة الغائبة، فتعود إلى الوجود بوساطة فنية من جديد، وحين ينير للأجيال القادمة دروب التطور الروحي والفكري لجيله الذي ينتمي إليه. لقد وصف الأستاذ العقاد في حديث قديم له أدب المازني، على تنوع أشكاله، بأنه "أدب اعتراف، في محراب الفن لا في محراب الكهانة".
ويضيف "النجدي": أدب الاعتراف قليل في السير العربية، لكنه ليس "معدومًا" أو "ممنوعًا"، فضلا عن أن ديوان الشعر العربي زاخر بألوان من الاعتراف والبوح الصريح، ومرد هذه القلة إلى عوامل عديدة، منها طبيعة الثقافة العربية المحافظة، كما يمكن أن تعود إلى حياة الأدباء أنفسهم وطبيعة وقائعها، فثقافتنا تعتصم بالكتمان والسر، وتتدثر بالستر، والأديب العربي يعيش في ظل أعراف وتقاليد ليس من السهل الخروج عليها، ولا يعيب أية ثقافة أن تتسم بسمت ما، تتميز بها عن غيرها، فلكل ثقافة خصائصها وآفاقها، كما أن لها مرجعياتها القيمية التي تختلف في كثير أو قليل عن مرجعيات الثقافات الأخرى.
ويفسر ذلك أيضا، ازدهار رواية السيرة الذاتية، في أدبنا الحديث، حتى يكاد يكون العديد منها إعادة إنتاج بشكل ما لحياة كاتبها، بدءًا من "زينب" لهيكل، و"إبراهيم الكاتب" للمازني، و"أديب" لطه حسين، و"عصفور من الشرق" للحكيم، و"سارة" للعقاد. ولا ينتهي التجاور أو المزج عند رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، أو "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، أو"ترابها زعفران" لإدوار الخراط، أو "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم..
ونجد الاعتراف في الأدب العربي القديم من خلال مظهرين: الأول صور اعترافية، يصاحبها دلالة أن لأدب الاعتراف جذورا ممتدة في عروق الكتابة الذاتية العربية، كما عند أبي حيان التوحيدي، وابن سينا، وأبي حامد الغزالي، وأسامة بن منقذ، والثاني سير ذات طابع اعترافي، ومثالها كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، وفي الأدب الحديث نجد كتاب "الاعتراف" لعبدالرحمن شكري يحقق فرادة من جهتين: السن (صدر في الثلاثين من عمره)، والعنوان فلم يسبق إليه في الأدب العربي.
شعوب وقبائل
ويختصر الكاتب الجزائري الدكتور فيصل الأحمر السيرة الذاتية كما يتمثلها أنها "شعوب وقبائل" حيث يقول: رغم الإغراء الكبير لضمها تحت عنوان واحد جامع، فمنها ما هو تسجيلي يريد التأريخ لمرحلة، أو لقطاع معين من التجارب البشرية، فيقترب من الوثيقة التاريخية، ومنها ما هو تبريري؛ مثلما هي حال تلك السير التي نجدها تحاول خلق ميثولوجيا معينة أو بعد أسطوري يتنامى وسط القراء ليغلف شخصية صاحب السيرة بدون كبير اكتراث بالحقيقة التاريخية، فنقترب في هذه السير من سرد روائي أكثر مما نحن خائضون في الأدب السيري... والحاصل هو الإغراء الشديد للروايات السيرية، أو للبدعة الجديدة في الأدب العالمي التي هي تسريد عناصر من السيرة مع قصدية التغليف التخييلي لأجل التحرر التام من عقد الحقيقة (كما يسميه فيليب لوجون)... ستنتهي السير إذا ما أجلنا فيها النظر من الجانب التنظيري التجنيسي إلى أن تتعدد أشكالها وأبعادها النهائية بتعدد أسباب الحياة... سيرنا متشتتة متنوعة ثرية مثيرة مختلفة تماما مثلما هي حيواتنا.
ويضيف "الأحمر": كتبت كتابين يتقاطعان مع الكتابة السيرذاتية: "خزانة الأسرار" وكذلك "سجلات الخافية"؛ وهما كتابان أسالا كثيرا من الحبر ساعة ظهورهما، وخاصة الكتاب الأول الذي مرت على صدوره ثلاث سنوات هن كافيات لخلق مسافة قراءة آمنة... والجدل قد دار حول ملاحظة بسيطة أوردتها على الغلاف وهي ملاحظة ذات شجون حقا: " سيرة(شبه) ذاتية"... الملاحظة في نهاية الأمر خلقت أفقا للتأمل محملا بالحرج التقليدي للتجنيس والتصنيف حسب سنن الكتابة ومتطلباتها التجنيسية... وقد تم تأويل الملاحظة على أنها تحديات كتابية جديدة لفعل القراءة، وعلى أساس كونها خلخلة لمفهوم ربما يعاني من تصلب ما في الشرايين الجمالية، وظهر الأمر مرة ثانية على أديم مقدمة الشاعر الناقد الكبير يوسف وغليسي لكتاب (سجلات الخافية) من خلال حديثه عن كوننا نتراوح في النصوص الشذرية التي تفرق دمها بين الأجناس والأنواع بين "سيرة (شبه) ذاتية" و"(شبه) سيرة ذاتية"؛ بسبب القلق التجنيسي والبنائي والمفهومي الجمالي الذي يعتور هذه النصوص التي اختارت لنفسها اللافتة التجنيسية السريعة " كتابة سيرذاتية" لكي تخفي رغبة داخلية في تحريك المياه الآسنة لسنن كتابة الذات.. لكن كيف ذلك؟ يورد يوسف وغليسي في مقدمة "سجلات الخافية" كلاما فيه إجابة جيدة على هذا السؤال، إذن ستكون كتابة الذات بهذا المعنى هي كتابة محورها الذات، وإن كانت في كثير من الأحيان تفيض فيما وراءها في هاجس تسجيلي معين... هاجس المحاولة على القبض الحياة متلبسة بسكنى أحد الناطقين باسمها.