يعيد الجدل الذي أثاره الكاتب الروائي المقيم بفرنسا ياسمينة خضرة مسألة تهميش المثقف، سواء أكان كاتبا روائيا أو شاعرا أو فنانا أو فيلسوفا أو مفكرا، أو بشكل أدق وهو الأهم، مثقفا نقديا يساهم نقديا في التغيير وتقديم بدائل مفيدة، لكن ما حدث ويحدث دائما هو تفضيل ثقافة البهرجة وإظهار مثقف الواجهة ليكون بديلا عن أولئك الذين يتم تهميشهم وتغييبهم عن المشهد الثقافي الأدبي والإعلامي وبمعية اعلام ثقافي لا يخدم الثقافة أكثر من خدمته سياسة سائدة على مدى عقود، إن المسألة الحقيقية من وراء تصريحات هذا الروائي تخفي حقيقة أن هناك أعداء للنجاح في الجزائر، وأن كل كاتب أو مثقف ناجح ويصنع الحدث في الخارج هو ذلك الذي تعرّض للتهميش وحاصره أولئك الذين يرفضون تقديم مفهوم حقيقي للمثقف في بلد ساهم الأدباء الفرنكفونيين في التعريف به وبثقافته وأوصلوها خارج حدود القطر، الأمر الذي يجعل غياب سياسة ثقافية واضحة محل تساؤل.
تصادف أن التقيت بالكاتب ياسمينة خضرة مؤخرا في وهران (غرب الجزائر) عندما كنت في إقامة أدبية هناك على هامش ألعاب البحر الأبيض المتوسط، تحدثت معه عن أدبه وعن انتشاره في أرجاء العالم وعدد اللغات التي تُرجمت أعماله إليها، بدا الرجل متواضعا جدا، عكس ما يسوق له الاعلام وبعض الكتّاب هنا، وأكيد تلمس فيه ذلك الفخر والاعتزاز بالمكانة التي وصل إليها بأدبه الذي لا يتناول الجزائر فقط بل اتسع ليتناول مواضيع عالمية كليبيا، أفغانستان، العراق، ... وغيرها، ما أود قوله هنا هو أنّ ما قاله الكاتب الذي أثار الجدل مؤخرا عند لقاءه بقرائه في الجزائر وتيزي وزو بمنطقة القبائل، فيه جانب صادق يرفض أعداء النجاح عندنا قبوله، وهو أنّ الكاتب محمد مولسهول، الرجل العسكري سابقا، بدأ مشواره الأدبي في الجزائر وألّف أعمالا قيّمة لكنها لم تنل رواجا مثل الذي لقيته أعماله التي نشرها باسمه المستعار ياسمينة خضرة في فرنسا، وباتفاق النقّاد هناك في فرنسا، الذين قرأوا أعماله، فأعمال هذا الروائي الأولى كانت قوية وناجحة أكثر من أعماله اللاحقة، لكن تبعا لسياسة التهميش والتغييب المقصودة من المؤسسة الثقافية الرسمية في الجزائر، لم ينل الروائي حظه من الظهور والاهتمام اللائق، بينما سادت ظاهرة وجود مثقف الواجهة التي تريد السلطة دوما ابرازه كممثل للثقافة والأدب، ربما هناك دوما ذلك الحقد الدفين لدى البعض للأدب المكتوب باللغة الفرنسية، على أساس أنه يروج للثقافة الفرنسية ويخدم الفرنكفونية أكثر من خدمة الثقافة الجزائرية، لكن هل ذلك حقيقية؟ بالطبع لا، لأن القارئ لأعمال أدباء جزائريين أمثال آسيا جبار، محمد ديب، كاتب ياسين، ومولود معمري، وغيرهم من الرعيل الأول للأدب الجزائري الذي بدأ مع الثورة واستمر بعدها، يفهم كيف تبنى هؤلاء قضية وطنية ودافعوا عنها، بل كتبوا عن الشعب والمجتمع والثقافة الشعبية والحياة العامة في الجزائر أكثر مما كتبه بعدهم أدباء معرّبون، ربما ساهم الاعلام الثقافي العمومي ومؤخرا الخاص، في الترويج لهذه السياسة الاقصائية لكتّاب معينين، كتّاب لم يدخلوا ضمن دائرة الترويض التي أرادتها المؤسسة الرسمية، كان هناك دوما أدباء يخدمون تلك الأجندة، ساهموا في اختزال الأدب فقط في كل ما كتب باللغة العربية، بل حتى من كتب بالعربية تعرض للإقصاء أيضا كعبد الحميد بن هدوقة، صاحب أول رواية مكتوبة بالعربية في الجزائر، كان مثقفا من داخل النظام، مع ذلك تعرض للتهميش والاقصاء.
عندما قال ياسمينة خضرة "أنا أكبر كاتب على قيد الحياة في العالم إنتاجاً في جميع الفنون في المسرح والسينما والأوبرا والكوليغرافيا والشريط المرسوم والمسرح الإذاعي، وهذا لا يعرفه الجزائريون." ثارت ثائرة بعض الكتّاب في الجزائر، وتناولت الصحافة تصريحاته بالانتقاد واتهامه بالغرور، وراح البعض يرد عليه عبر منصات التواصل الاجتماعي، متهمين إياه بالعمالة لفرنسا، خاصة عندما استقبله السفير الفرنسي على موعد غداء في اقامته، لكن الكاتب في حقيقته معروف بوطنيته ولا يمكن لأحد الطعن فيها، ربما صراحته وغروره خلق له أعداء خاصة من المعرّبين، لكنه كانا ضابطا في الجيش وحارب الإرهاب، اختياره للنشر والكتابة في فرنسا ربما كان بدافع التهميش الذي لقي في الجزائر، ليس هو فقط، بل حتى كتّاب آخرون اختاروا المنفى الاختياري بعدما تعرّضوا للتضييق من جانب المنظومة الثقافية الرسمية، يمكن ذكر بوعلام صنصال الذي لقي انتقادات واسعة واتهام بالتطبيع عندما زار إسرائيل، برغم أنه زارها ككاتب حامل لجواز سفر الماني، ثم إنه لم يكن يمثل الأدب الجزائري ولا الثقافة الجزائرية، إضافة إلى هذا، أي كاتب نجح من وراء البحار، دوما يتعرض للنقد من أعداء النجاح في الداخل.
في الجزائر، هناك ثلاث أنواع من المثقفين، مثقف السلطة، مثقف حيادي، ومثقف نقدي، هذا الأخير هو الذي يواجه الاقصاء والابعاد من جانب السلطة، يمكن القول إنّ المثقف النقدي الذي يساهم بآرائه وأفكاره في التغيير، أو يطرح بدائل، يلاقي دوما هذا المصير، ربما ساد الاعتقاد لدى السلطة بأن المثقف لا يمكن له أن يساهم في تشكيل الدولة وأفكاره لا تقدم ولا تؤخر، هي سياسة ممنهجة وما تزال مستمرة في ظلّ بقاء من يقفون في وجه التغيير، هناك توجه عام لدى المؤسسة الثقافية الرسمية لا يعطي قيمة للأدب والكتّاب أكثر من اهتمامه بالبهرجة والفلكلور الشعبي، مع أن الكتّاب هم الذين يمكنهم أن يكونوا فاعلين في الحياة الثقافية ويروجوا للجزائر في الخارج بكتاباته وترجماتهم، وما ياسمينة خضرة وصنصال وسمير قسيمي ومحمد ديب وآسيا جبار وغيرهم إلا دليل على أنّ من يتعرضون للتهميش من المؤسسة الرسمية هم من ينجحون ويعطون للأدب والثقافة الجزائرية صيت ومعنى، لا يمكن تجاهل النجاح الذي حققته أعمال خضرة في العالم، فهو مترجم لخمسين لغة، ولديه قراء في مختلف جهات العالم، إذن، الأكيد أنه استطاع بأعماله الروائية خاصة أن يعرّف قراءه من جنسيات وثقافات مختلفة بالجزائر، حتى أن نجاحه كان دون أي دعم من بلاده، بل تهميشه كان دافعا وحافزا قويا للنجاح في الخارج.
إلى متى ستبقى هذه السياسة قائمة في قطاع الثقافة، أو لنقل متى سيكون للمثقف النقدي، والانتلجنسيا في هذا البلد دور بناء ونقدي يساهم في تقديم بدائل تخدم الجزائر وترفع ثقافتها في سماء العالم. نماذج التهميش كثيرة، طالت مثقفين نقديين ككاتب ياسين، وعبد الحميد مهري من داخل النظام، بينما قدمت مثقفين الواجهة كبدائل، منهم مالك حداد الذي لم يكن مثقف سلطة لكن موقفه من اللغة الفرنسية جعلها تتبناه في المنظومة، حتى الطاهر وطار قدمته كمثقف واجهة في فترة ما، أو كخصم للأدب الفرنكفوني، والأمثلة كثيرة، دوما هناك اختيار لأسماء معينة، لا يكن أدبها نقديا ولا يؤثر، يتم تقديمهم كواجهة للأدب أو كممثلين له، كما هو الحال الآن مع وسيني لعرج واحلام مستغانمي، كأمثلة، ويساهم الاعلام الحالي عمومي وخاص في الترويج لتلك الأسماء وتبجيلها، في حين يشنون حملات التشويه والتخوين دوما في حقّ أي أديب مثقف له توجه نقدي، غير معتمد لا على اعانة الدولة ويشق طريقه نحو النجاح بإمكانياته الخاصة، حتى في فترات معينة من عمر الجزائر، كسنوات الإرهاب، تعرض المثقف النقدي أكثر من غيره إلى ويلات هذا الفكر الأصولي، بينما مع البحبوحة المالية التي كانت في عهدة الرئيس الراحل بوتفليقة، سادت مرحلة جديدة تبنتها السلطة وهي ثقافة البهرجة التي جاءت مع الوزيرة خليدة تومي، واستمرت بعد رحيلها، كما لو أرادت تلك المؤسسة اختزال الثقافة في الفلكلور الشعبي فقط.
لماذا لا يتم طرح السؤال الحقيقي من طرف الاعلام الثقافي في الجزائر؟ وهو لماذا ينجح أي كاتب يتعرض للتهميش في بلاده بمجرد خروجه إلى الخارج؟ نفس الكتاب الذين لا يسمح لهم بالظهور في الجزائر هم أنفسهم الذين يشتهرون في الخارج، أمثلة كثيرة على ذلك، عندنا ياسمينة خضرة الذي لم تعرف رواياته التي وقعها باسمه أي رواج، بنيما فور استعماله لاسم مستعار ونشره في فرنسا اشتهر، وهناك أيضا أحلام مستغانمي التي نشرت روايتها الأولى في المؤسسة الوطنية للكتاب، لكن لم تشتهر وبقيت روايتها في الرفوف عرضة للغبار، لكن بمجرد سفرها إلى لبنان ونسج علاقات جيدة اشتهرت واعادت نشر أعمالها من هناك، ثم دخلت إلى الجزائر كأيقونة يحتفى بها. هل يجب أن نذهب إلى الخارج لنشتهر؟ إنها إشكالية حقيقية، لا نعرف لماذا تستمر المؤسسة الثقافية في نفس السياسة الاقصائية اتجاه الكاتّب الحقيقي، بينما يتم تقريب من يسيرون في دربها، والغريب في الأمر أننا لا نملك مجلات أدبية رسمية تصدر من وزارة الثقافة، مقارنة بتونس مثلا، ولا وجود لنظام مكافأة الكاتب برغم وجود مؤسسات كديوان حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، حتى أنه لا يوجد قانون يحمي الكاتب، حيث أن القوانين الموجودة تخدم الفنان فقط، بينما الكاتب هو البديل الفكري الحقيقي.