يَصدر الكتاب (رواية، قصص قصيرة، قصائد، أَبحاث،…) ويتلقَّفه القارئ قارئًا إِياه في فترة قصيرة أَو متوسطة، غير مدرك غالبًا كم من الوقت استغرقَت كتابتُه، وما الظروف التي رافقت هذه الكتابة، والضنى الذي عاناه المؤَلف في كتابته. فوضْعُ رائعة أَدبية خالدة لا يتطلَّب موهبة تأْليفية وحسْب، بل وقتًا وكتابةً وانصرافًا وصبرًا وشغفًا بالكتابة.
في هذا المقال أَعرض كواليس كتابة 12 رائعة عالمية، غالبًا ما لا يعرف القارئ كم استغرقَت كتابتها من سنوات طويلة، وما الخلفية في سيرة المؤَلف ومثابرته لوضْعها. وهذه المؤلفات شهادةٌ على قوة الإِبداع وقوة تأْثير تلك المؤَلفات على القرَّاء عبر العصور.
في الحلقة الأُولى من هذا المقال عرضتُ ست روايات استغرقَت كتابتها سنوات طويلة. وهنا الحلقة الأُخرى عن ست روايات عالَمية أُخرى.
- مدام بوفاري
أَمضى الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير (1821-1880) خمس سنوات كاملة يكتب في روايته الشهيرة “مدام بوفاري”. بدأَ بها سنة 1851 وأَنهاها سنة 1856. ذلك أَن حرصه على وصف التفاصيل والتوقُّف طويلًا عند سرد بعضها، إِلى براعته في أُسلوب فريد عُرفَ به طويلًا، هو الذي جعله يستغرق طول هذا الوقت، لكنه حصَد تعبَه روايةً هي اليوم من روائع الأَدب العالَمي، وباتت من الآثار الكلاسيكية الخالدة، لأَنها لامست الرومنطيقية والواقعية والظروف الإِنسانية في آن معًا. وهي انتقلت إِلى السينما مرتين: الأُولى سنة 1949 مع جينيفر جونز وجيمس مايسون بإِخراج فينتشينتي مينيلِّي، والمرة الأُخرى سنة 2014 مع مايا واسيغوفسْكا ورتيس إِيفانس بإِخراج صوفي بارت.
- يقظة فينيغان
اشتهر الكاتب الإِيرلندي جيمس جوْيْس (1882-1941) بدقة أُسلوبه حتى ضناه في صقله. لذا استغرق 17 سنة (من 1922 إِلى 1939) في كتابة روايته هذه، فخرجت معقَّدة صعبة تجريبية فريدة من نوعها وبأُسلوبها في تاريخ الروايات العالَمية. ويُجمع النقاد على أَن أُسلوب جويس فيها يعانق حلقات من التاريخ والتجربة الإِنسانية المريرة بصعوبتها حتى لهي في مراحل عدة منها كأَنها في الخيال ولا يمكن أَن تجري أَحداثُها في الواقع، إِضافةً إِلى صقل جويس لغته الإِنكليزية المطعَّمة بتعابير من لغات أُخرى وتراكيب غريبة حتى على اللغة الإِنكليزية الأُم. لذا واجهها النقاد لدى صدورها (1939) بموجة سلبية واعتُبرَت من أَصعب الأَعمال وأَكثرها تعقيدًا في تاريخ الأَدب العالَمي.
- الحرب والسلْم
لعلها من أَشهر الروايات العالَمية على الإِطلاق، لطُولها وعبقرية تأْليفها وخصائص شخصياتها. أَمضى ليو تولستوي (1828-1910) ست سنوات مضنية في تأْليفها حتى أَصدرها سنة 1869، ونالت رواجًا سريعًا لِما فيها من أَحداث متعددة وشخصيات كثيرة تمتد عقودًا من زمنها متعاقبة، وأَماكن مختلفة كانت مسارح لتلك الأَحداث. ولا تقتصر على موضوع واحد بل مرَّت على الحرب والحب والسلْم والضياع، ما كان شبه مستحيل أَن يجمعها كتاب واحد لكنَّ تولستوي تمكَّن من ذلك بعبقرية روائية نادرة إِن لم تكن وحيدة. تلقَّفَتْها السينما سنة 1966 ثم صدرت مسلسلًا تلفزيونيًّا سنة 1972 ثم سنة 2016.
- رقصة لِموسيقى الزمن
بقي الكاتب الإِنكليزي أَنطوني باوِل (1905-2000) نحو 25 سنة يكتب في هذه الرواية الملحمية التي تضُمُّ 12 رواية متتابعة. بدأَها سنة 1948 بالقسم الروائي الأَول “مسأَلة تنشئة” وأَنهاها بالقسم الروائي الثاني عشر “الإِنصات إلى نغمات سرية” سنة 1975. من هنا أَن الرواية تمتد على عقود طويلة، مُتَتَبِّعةً سيرةَ فريق من الأَصدقاء ومعارفهم وأَنسبائهم فيما هم ينتقلون عبر التغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية في بريطانيا منتصف القرن العشرين. ولذا تُعتبر هذه الرواية الملحمية قصة مرحلة كاملة غنية من الزمن الذي تجري فيه أَحداث الرواية.
- قصة جينْجي
تعتبر أَول رواية في تاريخ الأَدب. يُعزى وضْعُها إِلى الكاتبة والشاعرة اليابانية مورازاكي شيكيبو (973-1014) وهي وجه بارز في بلادها من القرن الحادي عشر. استغرقَت نحو 10 سنوات في كتابتها، في 54 فصلًا تدور حول حياة البلاط وانعكاسها على مراحل من سعادة وتعاسة ومشاهد إِنسانية مؤَثِّرة. ومن هنا أَنها إِحدى ركائز الرواية اليابانية في جميع العصور.
- دكتور زيفاكو
هذه أَيضًا من أَشهر الروايات التي صدرت في القرن العشرين. أَمضى مؤَلفها الروسي بوريس باسترناك (1890-1960) سنوات مضْنية في كتابتها، بدءًا من 1910 إِلى 1956. وتتَّضح هذه المدة الطويلة في التأْليف من الدقة في رسم الشخصيات وحواراتها والأَحداث التي تجري لها. وهي رواية ملحمية طويلة عن طبيب وشاعر إِبان الثورة البولشيفية، ما إِن صدرت سنة 1957 حتى نال كاتبُها جائزة نوبل للأَدب سنة 1958، لكن الحزب الشيوعي ثار عليها ومنع باسترناك من السفَر لتَسلُّمها وأَرغمه على إِعلانه رفْضها. غير أَن ابنه يفجيني عاد فتسلَّمها سنة 1989، بعد 29 سنة من وفاة أَبيه.
شغَف الكتابة
أَردتُ من هذا المقال بجُزءَيه أَن أُشير إِلى ما يكون لدى الكاتب من شغَف بالكتابة حتى يُمضي سنوات طويلة ممضَّة مضْنية في نسج روايته سطرًا سطرًا وحوارًا حوارًا وشخصيةً شخصيةً ثم ترابط الشخصيات وتَمَوْقعها في أَحداث الرواية وأَماكن حدوثها. ولولا هذا الهوَس الشغوف لَما كنا ربحنا هذه الروائع العالَمية التي تضم التاريخ والمجتمع والأَشخاص والأَعلام في حقبات مختلفة من الزمن. ولذا ما زال القراء من كل العالَم يُقْبلون على هذه الروايات الخالدة بشغَف جديد يلاقي شغَف المؤَلفين بكتابتها.