تخطي إلى المحتوى
الكتاب «لا» يعرف من عنوانه! الكتاب «لا» يعرف من عنوانه! > الكتاب «لا» يعرف من عنوانه!

الكتاب «لا» يعرف من عنوانه!

ذكرت لي صديقة أن لها ابنا مولعا بروايات أجاثا كريستي البوليسية، فاشترت له مجموعة منها من دور مختلفة في أحد معارض الكتب، بعد فترة نبّهها ابنها إلى أن الرواية التي تحمل عنوان «ثم لم يبق أحد» هي نفسها رواية «جزيرة الموت» لا اختلاف بينهما سوى في العنوان، وحتى لا أزيد من حيرتها وانزعاجها، لم أخبرها أن للرواية ترجمة ثالثة بعنوان «أغنية الموت» بل هي معروفة أكثر، خصوصا بين مشاهدي الشاشة الصغيرة لا القرّاء بعنوان آخر لعله أشهر عناوينها «عشرة عبيد صغار» خاصة أنها اقتبست مرتين في مسلسلين لبنانيين تحت هذا المسمّى.
واللافت للنظر أن هذه الرواية لأجاثا كريستي تحديدا كانت لها مشكلة مع العنوان منذ صدورها سنة 1939، فقد صدرت بعنوانها الأصلي في بريطانيا «Ten Little Niggers» وهو مستمد من أغنية قديمة بنيت عليها الرواية، لكن الطبعة الأمريكية التي صدرت بعد أشهر من ذلك تفادت هذا العنوان ذا الإيحاءات العنصرية، لأن موضوع العبودية هناك حساس جدا، ويثير أشجانا في بلد بقي مبتلى بالتمييز ضد السود إلى ستينيات القرن الماضي، حتى لا أقول إلى لحظتنا الراهنة. لذلك صدرت الرواية بعنوانين «عشرة هنود صغار» و«ثم لم يكن هناك أحد» وهذا العنوان الأخير مستمد من آخر سطر من الأغنية، وهو نفسه الذي اعتمدته الطبعات البريطانية من الكتاب بعد سبع وأربعين سنة من صدوره.

وقد قرأت مقالا للمترجم محمد الأرناؤوط يذكر فيه أمرا مماثلا لما حدث مع صديقتي، فإحدى روايات الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه صدرت بثلاثة عناوين متباينة عن دور نشر مختلفة، وتُرجمت من لغات مختلفة واشتُريت في معارض الكتب على أنها ثلاث روايات، بينما هي في الحقيقة رواية واحدة: فمرة بعنوان «الحصن» مترجمة من الألبانية، وثانية بعنوان «طبول المطر» مترجمة عن الفرنسية، وثالثة بعنوان «الحصار» مترجمة عن الإنكليزية. وأمثلة هذه الفوضى في العناوين كثيرة، مع ملاحظة أنها ليست مقتصرة على الكتاب العربي فقط، ويكفي أن نشير إلى ما ذكرته ماري فرنسواز كاشان في مقال لها بعنوان «البحث عن العنوان المفقود» المستلهم عنوانه من رواية بروست الشهيرة بأن رواية إميلي برونتي «مرتفعات ويذرنغ» نشرت أول مرة بالفرنسية بعنوان «حبيب» لكننا نجد لها بعد ذلك اثني عشر عنوانا مختلفا في طبعاتها المتعددة.

قد أتفهم أن يغيّر المترجم العنوانَ الأصلي للكتاب لأسباب متعددة ـ بعضها وجيه حقا، كأن تكون لهذا العنوان خصوصية ثقافية، أو إحالة لا تُفهم إلا من خلال اللغة الأصلية التي كتب بها، فلا يمكن مثلا ترجمة عناوين روايات الروائي الأردني أيمن العتوم إلى أي لغة أخرى ترجمة حرفية حيث إن عناوين مثل «تسمعون حسيسها» أو«يا صاحبَيْ السجن» أو«مسغبة» وهي جميعها مقتبسة من آيات قرآنية ستفقد الكثير من حمولتها الفكرية وظلالها في الترجمة الحرفية، وهذا ينطبق أيضا على العناوين الأجنبية ذات المرجعيات التوراتية أو الأسطورية مثلا، بل أتفهم وأتقبل أن يتغير العنوان لأنه يعطي معنى مغايرا في اللغة التي نقل إليها، فقد كان من السهل على المترجمة مارلين بوث التي نقلت رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» الفائزة بجائزة مان بوكر للرواية المترجمة أن تجعل العنوان « Ladies of the Moon» وهو أول ما يتبادر إلى الذهن، كما أن العديد من المقالات الأجنبية التي كتبت عن الرواية استعملته، غير أن المترجمة اختارت عنوان «Celestial Bodies» «أجرام» أو «أجساد سماوية» وبررت سبب هذا الاختيار بأن «في حالة «سيدات» لا تصلح كلمة ladies ببساطة، أو mistresses بما لها من إيحاءات كثيرة في الإنكليزية، ولا women (وإن تكن خيرا من الكلمتين الأخريين). «سيدات» هنا فيها حس بالسلطة والمكانة، وأيضا الخدمة، ولم يتسنّ لي العثور على كلمة صالحة بالقدر الكافي في الإنكليزية».
ولكن ما لا أتفهمه أن يغير المترجم أو الناشر عنوان الكتاب، دون أن نتبين لماذا فعل ذلك، بل نقف محتارين أمام مترجم ينشر ترجمته لرواية بعنوانين مختلفين عن داري نشر مختلفتين، فقد صدرت رواية «بيوض القدر» للروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف سنة 2007 بهذا العنوان عن دار الحوار بترجمة ثائر زين الدين وفريد الشحف، لكن الغريب أن الترجمة نفسها أعيد نشرها من دار الرافدين هذه السنة وللمترجمين نفسيهما بعنوان «البيوض القاتلة» دون أن يشرحا سبب العدول عن العنوان الأول، بل دون أدنى إشارة لترجمتهما الأولى، ولا أرى في ذلك إلا حيلة تجارية لتسويق الطبعة الجديدة، علما أن الرواية نفسها طبعت في دار المدى لمترجم آخر بعنوان ثالث «بيوض الشؤم».

ويضاف إلى الرغبة التجارية في تسويق الكتاب وجهها الآخر، أي الرهبة من منعه أو مصادرته لذلك يلجأ الكاتب أو المترجم أو الناشر إلى تغيير العنوان، وما الإرهاب الفكري الذي طال عميد الأدب العربي طه حسين إلا مثال صارخ على ذلك، فحين أصدر سنة 1926 كتابه «في الشعر الجاهلي» أثيرت ضجة كبيرة حوله الكتاب، وأُلّفت عدة كتب في الرد عليه، وكاد يصل الأمر إلى إباحة دم الكاتب، فسُحب الكتاب من الأسواق ثم أعاد طه حسين نشره بعنوان «في الأدب الجاهلي» بعد أن حذف منه وأضاف، وهذه الرقابة الشعبية إن صحت التسمية تتقاطع معها رقابة رسمية أخرى، حين يلجأ الناشر إلى تغيير عنوان الكتاب أو الحذف منه حتى يتجاوز عين الرقيب في المعارض، ونكتفي بمثال عن ذلك كتاب «قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور » للرقيق القيرواني، الذي يعدّ أكبر موسوعة أدبية تراثية عن الخمر وما يتعلق بها من شعر وحكايات وأوصاف، وحتى يتفادى الناشر حظر كتابه اكتفى بكلمتي «قطب السرور» ليصبح العنوان مبهما يدل على كل شيء وفي الحين نفسه على لا شيء، فتنام عين الرقيب ملء جفونها.

وأسوأ ما ينتج عن تغيير عناوين الكتب خيانة بعض المترجمين، الذين يعطون للكتاب عنوانا جديدا أبعد ما يكون عن قصد كاتبه، دغدغة لعواطف القارئ العربي، أو طمعا في انتشار كبير للكتاب، وأستحضر مثالين عن ذلك: أولهما كتاب المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه «شمس الله تسطع على الغرب» الذي حوّله المترجم إلى «شمس العرب تسطع على الغرب» في تغيير لا مبرر له، إذ لو اكتفى بالعنوان الأصلي كما هو مع إضافة العنوان الفرعي الذي وضعته المؤلفة لكتابها «فضل العرب على أوروبا» لكان أدقّ وأكثر التزاما بالأمانة العلمية. وأخطر من هذا ما فعله الكاتب أنيس منصور حين تصرف بعنوان كتاب الفيزيائي الأمريكي مايكل هارت The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History فترجمه إلى العربية هكذا «الخالدون مئة أعظمهم محمد رسول الله» في حين أن الترجمة الأصح هي «المئة: ترتيب الأشخاص الأكثر تأثيرا في التاريخ» فابتعد عن غاية الكتاب الأساسية التي رتبت الشخصيات حسب تأثيرها لا حسب عظمتها. وإذا كان المترجم تصرف في العنوان بهذا الشكل التحريفي، لأي سبب كان كيف نثق بمضمون ترجمته.

أول ما نصف العنوان في الدراسات النقدية أنه «العتبة الأولى للنص» وحين يختاره الكاتب مدخلا لنصه تكون له غاية، أو رغبة رجحت هذا الاختيار، بل إن أغلب المؤلفين يترددون كثيرا قبل اعتماد عنوان ما وهناك من يجهز قائمة بالعناوين، بل هناك من الكتّاب مع ظهور وسائل التواصل الحديثة من يقترح على قرائه مجموعة عناوين ليختاروا منها واحدا. فليس من حق المترجم ولا الناشر اختيار عنوان اعتباطي، دون سبب موجب من المفضل أن يشرحه في مقدمة الترجمة، حتى لا تتحول حكايات لافونتين الشهيرة إلى «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ» كما ترجمها محمد جلال عثمان في بداية عهدنا بالترجمة، أو الأسوأ من ذلك أن يتحول عنوان رواية «اسم الوردة» ـ التي باعت ملايين النسخ بعشرات اللغات وصنفت ضمن أهم مئة رواية في القرن العشرين إلى حكاية غرائزية رخيصة كما اختار لها ناشر عربي عنوان «الجنس في الكنيسة».

المصدر: 
القدس العربي