ندر أن تخلو مكتبة أي باحث/ة أو مهتم/ة بتاريخ دمشق الحديث وعمارتها وشوارعها وحتى حكاياتها، من كتاب أو أكثر للباحث والمؤرخ قتيبة الشهابي، الذي عرف خاصة خلال الثمانينيات والتسعينيات بأنه يحمل كاميرته بشكل شبه يومي ليتجول في أنحاء دمشق موثقاً معالم وتفاصيل مختلفة من شتى زوايا المدينة. احتفاء به وتأكيداً لمكانته وأهمية مؤلفاته، خاصة في مجال التأريخ والآثار والتراث، يستضيف مركز فخري البارودي في حي القنوات في دمشق والتابع لكلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، معرض «قتيبة والبارودي» مقدماً للزوار عشرات الصور المتنوعة التي تبرز جهود الشهابي في أرشفة حقبة من تاريخ دمشق، «صديقته الأثيرة» كما كان يسميها.
والشهابي (1934-2008) هو طبيب أسنان ومؤرخ ومصور، عُرف إلى جانب عمله في المجال الطبي، بكونه يهوى التصوير الفوتوغرافي والرسم منذ الصغر، ومنذ الثمانينيات بدأ بالعمل على أبحاث معمقة بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، لتوثيق تاريخ دمشق ومعالمها من أسواق وجوامع وخانات وبيوت وحارات وحتى شخصيات، ومن أشهر مؤلفاته: «دمشق تاريخ وصور» (1986) «أسواق دمشق القديمة» (1990) «مآذن دمشق: تاريخ وطراز» (1993) «معالم دمشق التاريخية مع الباحث أحمد إيبش» (1996) «أبواب دمشق وأحداثها التاريخية» (1996) «معجم دمشق التاريخي» (1999) وغيرها، إلى جانب كتب طبية منها «معجم مصطلحات طب الأسنان» (1999).
وقد عمل فريق مركز فخري البارودي من لجان علمية ومشرفين ومهندسين ومتطوعين، خلال الأشهر الماضية على تصنيف ودراسة مئات الصور من أرشيف الشهابي، التي حصلوا عليها كهدية من عائلته، ثم عرضها ضمن سبع قاعات في المنزل الدمشقي العريق، لكل منها موضوع معين صّنفت الصور وفقه.
ويعود تاريخ المنزل الذي عاش فيه السياسي فخري البارودي في أوائل القرن العشرين إلى أكثر من مئشتي عام، ويعتبر من أجمل المنازل الواسعة المبنية على الطراز العثماني. وبعد ترميمه عام 2003 تحوّل إلى مركز لطلاب الدراسات العليا في كلية الهندسة المعمارية، في مجال ترميم وتأهيل المواقع الأثرية والمباني التاريخية، ويعمل على ربط الأبحاث المعمارية بالمجتمع في مختلف المدن السورية. وجدير ذكره أن كتب ومؤلفات الراحل الشهابي، ما زالت من المراجع المهمة لطلاب كلية الهندسة المعمارية، الراغبين بدراسة تفاصيل وتاريخ مواقع معينة في دمشق.
ذكريات وتحوّلات
تحمل قاعة «الذكريات» كما أطلق عليها فريق عمل المعرض، مجموعة من ذكريات سابقة من دمشق وريفها، وكيف كانت الحياة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات فيها. فمثلاً، نرى كيف كانت «السيارين» في منتزهات غوطة دمشق، وبعض الفعاليات التي لم يعد لها أي وجود مثل فعالية الطائرة الورقية على سفوح جبل قاسيون، وبعض المعالم التي اختفت مثل «مطعم الطيارة» في منطقة الصوفانية، ومعرض دمشق الدولي القديم، ومدينة ملاهي الدريم لاند.
وتعرض القاعة أيضاً صور بعض المعالم، التي ما زالت موجودة، لكنها اختلفت و»تشوّهت» بشكل كبير ولافت، مثل بناء برج دمشق أثناء إنشائه وقبل أن تتسخ واجهاته وتمتلئ بالمكيفات واللافتات، ومقام الأربعين الذي يحتاج اليوم أيضاً الكثير من العناية والاهتمام. وعلى جوانب القاعة نرى مجموعة رسومات للشهابي فيها أشخاص وتفاصيل من دمشق مثل الأسواق والمنازل.
في قاعة ثانية عنوانها «دمشق بين قرنين» انتقى الفريق مجموعة من صور الشهابي وصوروا مقابلها المواقع نفسها في الوقت الحالي، بهدف رصد التغييرات التي طرأت على المدينة بين القرنين العشرين والحادي والعشرين. في هذه القاعة، نرى مثلاً ساحة باب توما وكيف غزتها اليوم الإعلانات الطرقية، وهدمت بعض المحال التراثية على جوانبها، وفندق سميراميس «والتشوهات التي مرّ بها عبر الزمن» وشارع بيروت مع ملاحظة «هيمنة كتلة فندق الفورسيزنز على المشهد العمراني لمدينة دمشق، وظهور قبة لفندق سميراميس ولوحات إعلانية على سطوح الأبنية، وإزالة قوس معرض دمشق الدولي مع أبنيته المتفرقة وظهور مبنى وردة مسار» وجامع تنكز، وكيف أضيفت إليه مآذن جديدة. كما ترصد هذه القاعة تغير المشهد العمراني بشكل كامل في ساحة المرجة، بسبب هيمنة الكتل البيتونية وظهور جامع يبلغا الجديد، والبناء البيتوني إلى جانبه، إلى جانب ظهور الأبراج الحديثة في الساحة وتغطية نهر بردى وسطها. إلى جانب تغيرات مشابهة في ساحة المحافظة مثلاً مع إزالة الساعة وأعمدة الإنارة وهدم شرائح عمرانية تاريخية وظهور أبنية جديدة من البيتون، وساحة السبع بحرات التي تغير وسطها بالكامل مع إزالة الساحة واستبدالها بأخرى في وسطها كرة مزخرفة إلى جانب ظهور كتل بيتونية جديدة ملحقة بالمصرف المركزي.
وفي قاعة ثالثة عنوانها «المهن والحرف التقليدية» نرى توثيق الشهابي لمجموعة واسعة من ممارسي الحرف الدمشقية القديمة والمهن التقليدية، وقد أضاف فريق العمل لعدد منها أمثالاً شعبية تحكي عن المهنة ذاتها في تأكيد على أهمية وعراقة التراث اللامادي السوري. ومن هذه الحرف الشك والتطريز وقد كتب إلى جانب الصور «قلّة الشغل بتعلم التطريز» وبائع الخيطان مع عبارة «منك خيط ومني خيط يا زلمة منعمر بيت» وصانع الزجاج اليدوي مع عبارة «بيقولوا أرق من قزاز الشام» وحفار شواهد القبور وكتب مع الصور «تاجرنا بالأكفان بطلت العالم تموت» وراعي الغنم مع عبارة «إذا كترت الرعيان ضاع الغنم» واللحام مع عبارة «يا مسترخص اللحم عند المرق تندم».
عين قتيبة على العمارة
ضمن قاعات أخرى نلاحظ أهمية التوثيق الذي عمل عليه قتيبة الشهابي كمرجع تاريخي ووثائقي بالنسبة لطلاب الهندسة المعمارية، خاصة من يدرسون ماجستير الترميم والتأهيل. ففي قاعة «قتيبة والبارودي» ربط فريق العمل بين أبحاث الكلية وطلابها خلال عشرين عاماً وبين صور الشهابي القديمة، فأسقطت كل صورة على المباني التي عمل الطلاب على دراستها ورسمها. ومن هذه المباني التكية السليمانية بما فيها من جوامع وأبنية وبوابات، وجامع السنانية، والتربة الطواشية، ومبنى العابد في ساحة المرجة، وتربة محمود الزنكي، وأضرحة مقبرة باب الصغير، والتربة الأمجدية. كما يضم المعرض صوراً للشهابي من مدن سورية أخرى، ومنها معلولا وتدمر، مع ربطها أيضاً بدراسات لمركز فخري البارودي لترميم وتأهيل هذه المواقع.
وعلى باب قاعة «دمشق العتيقة» نقرأ بأنها تضم «لمحة عن أهم التغييرات التي طرأت على المدينة القديمة داخل السور، وأهم أوابدها وصروحها التاريخية موثقة بالموقع على مجسم للمدينة القديمة». وفي القاعة نرى ماكيتاً لدمشق القديمة نفذ في كلية الهندسة المعمارية عام 1983 ويستخدم حتى اليوم كمرجع تدريسي فيها، وعلى الجدران صور مقابلة للمواقع التي يضمها الماكيت من تصوير الشهابي، وتبين تفاصيل من تلك المواقع أو تغيرات طرأت عليها بما يخدم التعريف عنها من خلال الصورة وليس فقط الماكيت، ومن هذه المواقع مثلاً سوق القباقبية الملاصق لجدار الجامع الأموي مع تبيان عملية هدمه، وسوق المسكية الذي هدم أيضاً عام 1984 بهدف كشف واجهات الجامع الأموي، فأزيلت حينها مجموعة من المحلات التجارية والدور الدمشقية المهمة وخان الشيخ قطنا. كما نرى صوراً لمنطقة الدباغات والفرابين، ولنهر بردى، ولترميم خان أسعد باشا، وبعض الأسواق القديمة، ومقهى النوفرة، وغيرها من المعالم.
وفي قاعة أخيرة بعنوان «تفاصيل» يعرض الفريق تفاصيل دمشقية تشكل موسوعة من نماذج لمفردات معمارية فريدة، فنرى صوراً لأبواب ونوافذ ومشربيات وعواميد وأدراج وغيرها من التفاصيل المعمارية الدمشقية، معلقة على جدران قاعة دمشقية ذات زخارف مميزة جداً، أو متدلية على شكل مجسمات من سقوف القاعة.